بكت السيدة الثلاثينية كثيراً وهي تستعد لدخول غرفة العمليات للمرة الرابعة منذ وصولها إلى القاهرة، إذ أُصيبت خلال اجتياح منطقة القرارة إلى الشمال الغربي من مدينة خان يونس، وخرجت ضمن قائمة الجرحى برفقة إحدى قريباتها، بينما تركت ابنها الوحيد بصحبة والده، فقد رفض الاحتلال إخراج الأب والطفل ابن الثالثة كمرافقَين للأم، وبكت وفاء طويلاً لأنها اشتاقت إلى طفلها وعائلتها، ابتداءً من زوجها، ثم والدَيها وإخوتها، ولأنها تعاني جرّاء الغربة، بالإضافة إلى المرض وقبوعها في أحد المستشفيات وهي لا تستطيع الخروج، ولا تعرف شيئاً عن العالم سوى عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وتردد السيدة وفاء أن الحال قد طال، وأنها حسبت أن الحرب ستتوقف وسيتم فتح معبر رفح لكي يصل إليها زوجها أو أمها، وبصحبتهم طفلها الذي ابتعدت عنه منذ شهر نيسان/أبريل الماضي، والذي تحادثه من وراء كاميرا هاتفها النقال، وقد اكتشفت أنه قد قارب أن ينسى شكلها وصوتها بسبب غيابها الفعلي عنه، فلا شيء يعوضه عن صدرها وحضن ذراعَيها كما تقول.
وليست السيدة وفاء الوحيدة التي تعاني جرّاء المرض مع الغربة، فهناك آلاف الغزّيين ممن خرجوا من غزّة عبر معبر رفح، ومنذ بداية الحرب الدائرة حتى اليوم، يعانون جرّاء مشكلات جمة لا تتوقف عند الشوق لأهلهم وخوفهم عليهم، فَهُم كما يقولون، وبلسان واحد، إنهم قد نجوا من الموت، لكنهم لم ينجوا أبداً من مشاق الحياة وتحدياتها الجديدة في الغربة بعيداً عن الوطن، وقد خرج معظمهم من دون أوراق ثبوتية كاملة بسبب تدمير بيوتهم، بمن فيهم بعض النساء اللاتي يحملن جنسية مزدوجة كالمصرية، وعلى الرغم من ذلك، فإنهن لا يمكنهن منْح أولادهن حقوقاً كتلك التي لدى المواطن المصري، ولذلك، فإن عائلاتهن تواجه مشكلات كالتي يواجهها النازحون الذين يحملون الجنسية الفلسطينية الخالصة.
ويتحدث الشاب الثلاثيني عبد الله، الذي خرج برفقة أمه وزوجته وأطفاله، عن التحديات التي تواجههم في مصر، ويقول إنهم لا يستطيعون توفير مستلزماتهم الحياتية، سواء بسبب ارتفاع إيجار البيوت المفروشة التي استأجروا أحدها، أو ارتفاع الأسعار غير المسبوق الذي تشهده الحياة اليومية في مصر؛ بين المواصلات، والأدوية، والملابس. وبالإضافة إلى ذلك، فهُم لم يستطيعوا الحصول على تصاريح إقامة موقتة تسمح لهم بإلحاق الأطفال بالمدارس الحكومية المصرية، ولا تستطيع أمّه المسنة أن تصرف راتب زوجها المتوفى، والذي تحصل عليه من هيئة التأمين والمعاشات في رام الله، إذ يتم صرفه عبر حسابها في أحد فروع بنك فلسطين، لكن هنا في القاهرة، كما يقول، لم تتمكن من فتح حساب بنكي في أي بنك مصري، وذلك أيضاً بسبب عدم وجود تصريح الإقامة الذي تشترطه كل البنوك من أجل استيفاء شروط الحصول على حساب بنكي فيها. هذا بالإضافة إلى أن هواتفهم المحمولة توقفت عن العمل بعد ستة أشهر من وصولهم إلى مصر تبعاً للقانون المصري الذي يمنع المواطن الأجنبي من الحصول على خط هاتف دائم.
وتكمل شقيقة عبد الله العشرينية الحديث متناولةً ارتفاع الأسعار في كل شيء، وعدم حصولهم على معونات من أي جهة سوى مرة واحدة من السفارة الفلسطينية، وتضيف أنهم خرجوا مع أمهم من غزة، وهم لا يملكون ملابس أو أحذية أو أي مستلزمات نسائية، وقد صُدمت بسبب الأسعار المرتفعة لهذه الأشياء التي لا غنى عنها، ولا تستطيع العائلة توفيرها.
وإذا كانت عائلة الشاب عبد الله تتحدث عن معاناة من عدة جوانب، فهناك عائلات غزّية كثيرة أيضاً لم تتوقف عن إرسال المناشدات طلباً للمعونات المادية والمعنوية على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك بسبب تقطُّع السبل بهم، وقد صار هناك الكثيرون منهم عالقين، إذ وصلوا إلى مصر قبل الحرب بأيام قليلة ومع بداية الحرب والأحداث التي وقعت، والتي أدت إلى إغلاق معبر رفح للعائدين، الأمر الذي أدى إلى نفاد أموالهم، وعدم وجود سبيل للعيش، وصعوبة إيجاد فرص عمل في مصر، وهو ما أدى إلى أن يعيشوا أوضاعاً معيشية صعبة. ومن أهم المشكلات التي يواجهونها عدم القدرة على توفير إيجار الشقق التي استأجروها، كما حدث مع الأربعيني أبو فارس، الذي واجه هذه المشكلة بالنسبة إلى شقته التي استأجرها قبل الحرب بشهر من أجل إتمام إجراءات علاجه، وقد اضطر اليوم إلى ترْكها والانتقال إلى العيش في شقة مشتركة مع عدة شباب غزّيين عالقين، وأصبحت لديه غرفة واحدة، بالإضافة إلى أنه يتناول وجبة طعام واحدة يومياً. ويقول أبو فارس إنه بالإضافة إلى أوضاعه المعيشية الصعبة، فهو يشعر بالقلق والخوف الدائم على زوجته وأطفاله الذين تركهم في غزة، إذ دُمر بيتهم، وأصبحوا يعيشون في خيمة في وسط القطاع، ويعانون جرّاء أوضاع معيشية صعبة، ولا يستطيع أن يشرح لهم أوضاعه الصعبة لأنه كما يقول لا يزال في أوضاع أفضل منهم كثيراً، فهو يعيش في أمان بعيداً عن القصف والموت المهدد في كل لحظة.
وفي الجهة الأُخرى، يتحدث السبعيني أبو أحمد عن أوضاعه السيئة في مصر؛ إذ خرج لتلقّي العلاج أيضاً بسبب معاناته جرّاء مرض السرطان، ومع إغلاق معبر رفح وصعوبة العودة، فقد أصبح يعاني جرّاء أوضاع صعبة إلى جانب مرضه؛ فهو يعيش وحيداً، وفي حاجة إلى الرعاية، كما أنه يترك راتبه التقاعدي لأفراد أسرته الذين يعتاشون منه في الخيمة التي استقروا فيها في مواصي خان يونس، ولا يستطيع أن يتدبر حياته في القاهرة لولا المساعدات القليلة التي تصل إليه من بعض الأصدقاء، وقد اضطر هو أيضاً، كأبي فارس، إلى الانتقال من شقة منفردة إلى السكن مع بعض الطلبة الغزّيين الذين يشفقون عليه، ويتبرعون له بوجبات طعام مجانية، لكنه لا يعرف النوم بسبب صخبهم المستمر وسهرهم من أجل الدراسة، فانتفت الخصوصية من حياته، ويشعر بأن الغربة سوف تقتله قبل المرض الخبيث.
ويُشار إلى أن عشرات الآلاف من الغزّيين خرجوا من غزة بحسب تصريحات السفارة الفلسطينية في القاهرة، بينما يشير أندريا دي دومينيكو، مدير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأرض الفلسطينية المحتلة (أوتشا)، إلى أن عدد النازحين من غزة إلى مصر بلغ نحو 110,000 شخص،[1] وبذلك تؤكد السفارة الفلسطينية أن هؤلاء النازحين يتوزعون في مختلف مناطق الجمهورية، ويَلْقَوْنَ أفضل معاملة، سواء من الحكومة المصرية أو السفارة والقائمين عليها، لكن حتى الآن، لم تتم تسوية أوضاعهم من حيث الموافقة على حصولهم على تصاريح إقامة موقتة لتسهيل حياتهم من النواحي القانونية والإنسانية، ويبدو أن التأخير في حصولهم على هذه التصاريح يأتي لاعتبارات سياسية؛ أهمها عدم تكريس مفهوم اللجوء للفلسطيني، وتفريغ الهوية الفلسطينية من مفهومها ومغزاها. وعلى الرغم من الجهود التي تقوم بها السفارة الفلسطينية لدعم النازحين عبر منْحهم طروداً غذائية خلال فترات متفرقة، وصرْف بعض المبالغ المالية لهم، فإن الدكتورة الصيدلانية سناء تؤكد أن هذه المبالغ والمعونات لا تفي إلاّ بأقل القليل من التزامات الحياة اليومية المكلفة في مصر في ظل ارتفاع الأسعار، بالإضافة إلى أنها تسعى، كغيرها من مئات الخريجين وحملة الشهادات العلمية، كالأطباء البشريين وأطباء الأسنان والمهندسين، فعلياً للالتحاق بسوق العمل المصري، والذي يشترط حصولهم على تصاريح الإقامة للسماح لهم بالعمل في المستشفيات الحكومية أو الخاصة على سبيل المثال. كما تضيف الدكتورة سناء أنه في حال الحصول على عمل، فإنه يكون برواتب متدنية للغاية لا توفر ولو جزءاً من إيجار شقة صغيرة في أرخص الأماكن في مصر.
[1] "%90من أهالي غزة عانوا النزوح و110 آلاف غادروا إلى مصر"، "الجزيرة نت"، 4/7/2024.