قبل نحو 19 عاماً، التقيت رشاد أبو شاور في مخيم اليرموك. وكنت قد قرأت إعلاناً بشأن احتفالية ستُقام في المركز الثقافي العربي في المخيم احتفالاً بمئوية الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، وكان اسم رشاد ضمن أسماء أُخرى في الدعوة.
وكان هذا اللقاء وجهاً إلى وجه، لكن كان هناك لقاء آخر بيننا انتهى قبل أيام، وكان مع روايته "الرب لم يسترح في اليوم السابع"، وأسمّي ذلك لقاءً لأن نص رشاد أبو شاور لا يختلف عن شخصيته؛ فحين ألقيت عليه السلام وعرّفته بنفسي، مددت الرواية أمامه، فارتسمتْ على وجهه ابتسامة جميلة لا أنساها، وأعيشها الآن في هذه اللحظة التي أكتب فيها عن تلك الذكرى، فسألني مباشرة: "من وين جايبها؟"، فقد كانت النسخة التي في حوزتي هي الطبعة الأولى للرواية، فشرحتُ له يومها سريعاً شغفي بالنصوص المنشورة عن الثورة الفلسطينية، وعن مرحلة بيروت تحديداً، وكانت كثيرة، فابتسم ابتسامة عريضة وجميلة، ولم يختلف عن روايته إيقاع الصوت نفسه، فكان من الممكن الاستماع إلى صوت رشيد وزينب يخرج من بين الأسطر.
تطابقت الرواية مع صاحبها، وحينها أدركتُ معنى هذا الأمر؛ أن يملك الأديب شخصيته في الرواية، وأن يملك روايته وشخصياتها، وأن يتمكن من تحويل عمله الأدبي إلى وثيقة تاريخية، من دون تقليل أو استخفاف بقيمة الفن. وهذا ما أكدتْه أعمال أُخرى لرشاد أبو شاور، بعضها روايات وبعضها الآخر يوميات، قرأتُها عبر السنوات، منها "آه يا بيروت"، و"وداعاً يا زكرين"، وهذه زكرين هي قريته الواقعة في الشمال الغربي للخليل، والتي وُلد فيها سنة 1942.
عرف رَجُلُنَا وأديبنا والفدائي الذي سيصيره لاحقاً فلسطين بالحواس، فعاشها إلى أن باتت همه وشغله الشاغل، والساكنة قلبه وعقله وروحه، ومتراسه الذي يتحصن وراءه حين يتخذ أي موقف في أي قضية أُخرى، وكأن لسان حاله يقول: "قل لي موقفك من فلسطين، أقل لك من أنت." وظل على ذلك حتى رحيله في عمّان في 28 أيلول/سبتمبر الماضي. وربما هذه هي إحدى مزايا المقاتلين، وهو مقاتل لم يتوقف عن النضال بالأشكال المتعددة؛ وكان الأدب أحدها، وصوته في إذاعة الثورة الفلسطينية كذلك، كما يده والبندقية أيضاً إحدى ثمار حياته التي استمر في فهمها وتبسيطها لِمَن لم يتمكن من فهم علاقة الإنسان بأرضه.
أمثاله كثيرون، رافقوه ورافقهم في الخطوات نحو العودة إلى فلسطين، كعز الدين المناصرة، وخالد أبو خالد، وغيرهم، واجتمعوا على أشياء عديدة جمعَتْها فلسطين في وعيهم، فصارت الطريق الذي يعبرونه وصولاً إليها.
مرت الأيام الطويلة، فعدتُ والتقيت رشاد أبو شاور في بيروت، المدينة التي عاشها وعاشته، وعرفها وعرف كيف تبتسم على الرغم من النار التي لم تُخمد منذ أعوام فيها، وهي المدينة التي حين اجتاحتها إسرائيل، قرر العودة إليها من فوره ما إن سمع الخبر. وقد كان في دمشق، فودّع زوجته وأطفاله، وركب السيارة مع رفيقه عبد الهادي النشاش، الذي كان يجاوره في مخيم اليرموك، وقبل المغادرة، قال لزوجته: "هذه المعركة ستكون رهيبة، وأنت تذكرين أنني سمّيت شارعنا بالشارع الأخير. نعم، أتوقع حضورهم إلينا، إلى بيروت. وقد كتبت هذا التوقع وأعلنتُه مراراً. أرجوكِ، لو جاءك خبر استشهادي، حافظي على رباطة جأشكِ. احزني، لكن لا تسمحي للحزن بأن يكتسح حياتك أنت والأولاد. ربّيهم كما يجب، وساعديهم في أن يتعلموا. أتذكر أنني كنت شجاعاً في المعارك السابقة، وأرجو أن أكون كذلك.. سأحاول.. أعدك."
في لقاء بيروت المتأخر، كنت أعمل في تلفزيون "فلسطين اليوم"، وكان مديره التنفيذي الصحافي والروائي الفلسطيني الراحل نافذ أبو حسنة، فاتصل بي لآتي إلى مكتبه، ففوجئت بكوكبة من المبدعين؛ رشاد أبو شاور، وخالد أبو خالد، وعز الدين المناصرة، ونافذ. حينها سألني: "هل تعرفهم؟" فأجبت: "ومن لا يعرفهم؟"، وسلمتُ عليهم واحداً واحداً بابتسامة كبيرة، فهذه لحظة مع تاريخ كبير، ومع وثيقة كتبوها في أدبهم وببنادقهم، وها هم معاً يجلسون ويتكلمون.
ذكّرت أبو شاور بالموقف بيننا في مخيم اليرموك، فقربني منه وابتسم، ويومها طلب مني الأستاذ نافذ أن أحضّر لـ "حلقة خاصة" مع كل واحد منهم، وكنت منتجاً لهذه الحلقات في التلفزيون، وفعلاً، قمت بذلك، ولم تفاجئني اللقاءات الثلاثة، فكل واحد منهم لديه الكثير ليقوله في الأدب والسياسة والحياة.
فالثلاثة كانت لديهم ميزة إضافية لِما عُرف عنهم في إبداعهم، وقربهم من الناس، واندماجهم الكامل في همومهم وتطلعاتهم؛ فقد كانوا فلسطين تمشي على أقدام، وفدائيين رحلوا على فراشهم، لكن كلماتهم تبقى نافذة على الحياة، وتبقى حياة في أفئدة المتطلعين إلى الفداء.
والآن يا أستاذ رشاد، وبينما أكتب هذه المحاولة الرثائية في ليل بيروت، وقد انتصف ليل المدينة، وأنا أنتظر صوت انفجار ما، كما اعتدنا واعتاد لبنان منذ أكثر من شهر، وكما اعتادت غزة على ذلك منذ أكثر من سنة، أجرب أن أفكر بعقلك وقلبك، وأجرب إعادة مشاهدة ما حدث منذ نحو ثمانية عقود، عقود فلسطين؛ "كيف كنا وكيف صرنا؟" أجرب في ليل بيروت أن أنصت إلى الفراغ الذي كان يملأه أثير إذاعة الثورة الفلسطينية "صوت فلسطين" قبل أكثر من أربعة عقود، في اليوم الذي كنت فيه أنت وإخوتك ورفاقك تتناوبون على كتابة الجمل المحفزة الدافعة إلى الحياة والقوة والمواجهة.
عشتم بيروت، وعشتم لحظات المواجهة، وواجهتم، فكتبتم تجربتكم، وتجربة الفداء والثورة. آه كم وصفتم بيروت في تلك اللحظات، حتى إن النص يُعاد اليوم في الواقع، لكن مع فارق جوهري، وهو أن بيروت اليوم بلا رشاد أبو شاور وأمجد ناصر وعلي فودة ومحمود درويش وفيصل حوراني وغالب هلسا وياسين رفاعية وحنا مقبل ونزيه أبو نضال وطلال سلمان والياس خوري وغيرهم.
في ليل بيروت هذا، أنصت إلى قلمك حين كتب عن هؤلاء الذين استسلموا وهربوا، وأنت وصفتهم بالجبناء من دون أي مجاملة. وأنتبه إلى كثير من الأشياء التي كتبتها، وها أنا أعيشها اليوم في هذه الحرب التي أيقظتني مجدداً على كثير من الكتابات عن بيروت في زمن الحصار، فأجدني أعيش الكتابة، وأرى ما كتبتم الآن، ليس لأن الزمان لم يتحرك منذ أربعة عقود، لقد تحرّك وغيّر وسيغير، إنما لأن المحتل لم يتغير أسلوبه، على الرغم من كل التطور في عتاده وأداء جنوده.
لقد تغيرنا في هذا الزمن، وها نحن الآن نشد على أيدي الثقة لنكون، ولنتطلع إلى ذاكرتكم بحب، ونذكركم بأمان وفخر الذين التزموا المبادئ وما حادوا عن الطريق، ولا تخلوا عن الحلم. كيف لا وأنا الآن أنصت أكثر وأكثر إلى صوتك وهو يقول: "إنني أحتمي بالحب والحلم من بشاعة كل ما يجري، وماذا للفلسطيني غير الحب.. والحلم؟!!"؟