Hezbollah Under Cheikh Naim Kassem: Navigating the Bumpy Road
Author: 
Publication Year: 
Language: 
Arabic
Number of Pages: 
10

في كتابه "حزب الله: المنهج، التجربة، المستقبل" يورد أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم سؤالاً راود "لجنة التسعة التأسيسية"[1] عند انطلاق عمل الحزب: هل نسمي الحزب المزمع تأسيسه "حزب الله" أو "أمة حزب الله"؟ كانت مخاطر الحزبية ماثلة، بالنسبة إلى المؤسسين، وواضحة. فالحزبية تعني خسارة "بعض الطاقات"، كما يُنذر التقيد الحزبي بنشوء عصبية لا تتفاعل مع الناس غير المنتمين إلى الحزب والمقبلين على أهدافه. أمّا فكرة الأمة، فلا تخلو من مشكلات هي الأُخرى، إذ لا تجيب عن كيفية استقطاب كل طاقات الأمة وتنظيم أدوار الناس وقدراتها في واقع له الكثير من الخصوصية كالواقع اللبناني. يقول الشيخ نعيم قاسم: حُسم الخيار باعتماد الشكل التنظيمي الهرمي كصيغة حزبية آنذاك، ضمن ضوابط تتجاوز سلبيات الطرحين "الحزبي، والأممي". عصر يوم 11 تشرين الأول/ أكتوبر من هذا العام، وبُعيد بدء الحرب الإسرائيلية على حزب الله، أعطى مسؤول العلاقات الإعلامية في الحزب الحاج محمد عفيف وصفاً جديداً لحزب الله، فقال: "حزب الله أمة، والأمم لا تموت". وما بين نص الشيخ نعيم قاسم وكلام عفيف عقدان أو يزيد؛ عقدان كفيلان بمساءلة حزب الله كتجربة ونهج ومستقبل. فحزب الله الذي ابتدأ كتجربة تنظيمية متواضعة الإمكانات يجد نفسه اليوم ركناً رئيسياً في حرب تعيد تشكيل خريطة منطقتنا ووجهها لعقود طوال. كما أن استشهاد أمينه العام السيد حسن نصر الله، و"خليفته" (بحسب الوصف الإسرائيلي) السيد هاشم صفي الدين، وتولي الشيخ نعيم قاسم الأمانة العامة في واحدة من أكثر لحظات الحزب حرجاً لا شك ستترك آثارها في بنية الحزب وسياسته، و(ربما) أهدافه في المرحلة المقبلة. فما بعد 27 أيلول/ سبتمبر ليس كما قبله، إن كان للحزب أو لمنطقتنا وشعوبها، الأمر الذي يدعونا إلى محاولة التفكير في أبعاد انتخاب الشيخ نعيم قاسم أميناً عاماً لحزب الله، وأثرها في التوجهات المستقبلية للحزب.

بدايات حزب الله وأدبيات الشيخ نعيم قاسم الأولى

في العودة إلى مرحلة التأسيس، يمكننا إرجاع التشكيلات الأولى لحزب الله إلى أربع بيئات أو مرجعيات ناظمة هي: 1- حزب الدعوة ومكتب اتحاد الطلبة المسلمين؛ 2- الاتجاه الإسلامي في حركة أمل؛ 3- لجان الأحياء الإسلامية المستقلة؛ 4- الخلايا اللبنانية ذات التوجه الإسلامي والتي نمت ضمن عباءة حركة "فتح" والكتيبة الطلابية.

شكلت هذه الاتجاهات الأربعة روافد البنية الأولى/ النواة لحزب الله، وإن انحسرت اختلافاتها المنهجية في اتجاهين واضحين: الأول، تأثر بآراء السيد موسى الصدر وأفكاره، فرأوا أن الأولوية هي لتمكين الشيعة في الدولة اللبنانية، والاعتراف بلبنان كوطن نهائي لجميع أبنائه مع وضع العداء لإسرائيل كأولوية مركزية في عملهم السياسي الوطني. أمّا الاتجاه الثاني، فكان أقرب إلى الدعوة واتجاهها النظري الأممي، وأبعد عن الاعتراف بالأنظمة القائمة والحدود الجغرافية لبلدان العالم الإسلامي. وتقاطع الاتجاهان في أولوية العداء لإسرائيل وضرورة مقاومتها.[2]

يُحسب للشيخ نعيم قاسم، آنذاك، قربه من الاتجاه الثاني من خلال عمله مع اتحاد الطلبة المسلمين من جهة، وقربه من آية الله السيد محمد حسين فضل الله من جهة أُخرى. فقد آمن هذا التيار بالعمل الإسلامي العام، وكانت الأمة الإسلامية حاضنة فكره وأسئلته، وعلى الرغم من الحيز الشيعي الذي عمل من خلاله تيار الدعوة في لبنان، فإن أسئلته ظلت موطوءة بالانشغالات الإسلامية الكبرى.[3] في الإجمال طغى على فكر هذا التيار عناوين الإسلام الحركي الكبرى (أسلمة الدولة، وأسلمة الاقتصاد، والبديل الحضاري)، واعتبر أن فلسطين مرتكز العمل الجهادي للحركة الإسلامية في لبنان.[4] أمّا فيما يخص المسألة الطائفية والدولة، فقد نظّر "الدعويّون" للدولة وللتشيع من زاوية مختلفة عن تطلعات الإمام موسى الصدر، إذ آمنوا بأسلمة الدولة، وتطلعوا إلى الطائفة بالمقدار الذي تحفظ فيه الأخيرة قيم المشروع الإسلامي ليس إلاّ، فلم يولوا مكتسبات الطائفة الأولوية في عملهم، كما لم يولوا مسألة "نهائية الكيان اللبناني" الكثير من الاعتبار، وهم، بهذا، افترقوا بنيوياً عن حركة أمل في تناول مسألتي الطائفية وفلسطين. لقد تطلع هذا الاتجاه إلى فلسطين كقيمة عليا للحركة الجهادية الإسلامية وللتشيع على حد سواء، كما تطلعوا إلى الدولة من زاوية الطرح الإسلامي العام الذي طغى على أدبيات كل حركات الإسلام السياسي في تلك الآونة. وفي الإمكان التماس بعض من رؤى هذا التيار في رسالة حزب الله المفتوحة الأولى المنشورة سنة 1985.[5]

حزب الله واللبنَنَة، التكيف في بيئة متنوعة

حتى عام 1996، لم يكن حزب الله منخرطاً في النظام السياسي اللبناني بشكل فعال، ويعود الأمر في جوهره إلى سببين أساسيين: نظري، ويكمن في صعوبة تقبل حزب الله (بما هو حركة إسلامية تحمل الإسلام شريعة ومنهاجاً) الانخراط في نظام سياسي لا يعمل بمرجعيات شرعية. وعملي، إذ عملت سورية ما بعد اتفاق الطائف، على حماية حزب الله سياسياً من خلال تأمين مشروعية عمله في كل ما له صلة بالنظام اللبناني. مع حلول عام 1996، بدأت الأمور بالتحول فشكلت حرب "عناقيد الغضب" نقطة فاصلة في علاقة الحزب بالدولة اللبنانية، وفرصة مناسبة للحزب للإطلالة على المشهد اللبناني بنحو مختلف. ففور اندلاعها سارع الحزب إلى الدعوة إلى لقاء وطني موسع، وهناك ظهر الشيخ نعيم قاسم ومن خلفه العلم اللبناني لأول مرة في تاريخ الإطلالات الرسمية.[6] في إمكاننا عنونة تلك المرحلة ببداية "لبنَنَة" حزب الله، وهي المرحلة التي تصاعدت لتبلغ قمتها في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2009، تاريخ إعلان "الوثيقة السياسية الثانية لحزب الله".

ما بين التاريخين، وتحديداً بعد 25 أيار/ مايو من 2000، تأقنم سؤال الوطن والهوية في حزب الله بعدما عاش التنظيم تحولات كبرى في صلب بنيته وسياسته، فالحزب الذي انطلق كحزب إسلامي ببُعد أممي وجد نفسه أمام استحقاق اللبننة وأسئلة الانخراط في واقع مجتمع متعدد وسياسات على مقاس الـ"10452 كيلومتراً مربعاً" (مساحة لبنان). باختصار، كان انتصار عام 2000، قد فرض استحقاق التموضع وطنياً على حزب الله، ويمكن التماس أثر هذا الاستحقاق من خلال جملة الأدبيات التي صدرت عن منَظّري الحزب ومثقفيه في تلك المرحلة، والتي تمحورت حول مسألتين ركيزتين: الأولى، استيلاد "تاريخ لبناني" للشيعة يؤصل لوجود الطائفة الشيعية في لبنان تاريخياً. والثانية، فتخليق نظرية إسلامية متصالحة مع الوطن.[7]

ولإن غابت المسألة الأولى عن أدبيات الشيخ نعيم قاسم، فإن المسألة الثانية كانت حاضرة في كتاباته وانشغالاته الفكرية؛ ففي غير مخطوط وورقة له، حاول الشيخ نعيم قاسم تقديم رؤية نظرية للمقاومة "تصِل وتقطع" في آن، من خلال استعراض تجربة المقاومة الإسلامية كامتداد موصول لتجارب حركات المقاومة الأُخرى في منطقتنا، وكتجربة تقطع مع سابقاتها لناحية التفرد بالطرح.[8] ويُحسب للشيخ قاسم تأصيله لشمولية الطرح المقاوم، فالمقاومة بالنسبة إليه "رؤية مجتمعية عسكرية وثقافية وسياسية وإعلامية، وهي مقاومة الحاكم والأمة، ومقاومة الضمير الحر في أي موقع كان"،[9] ولعل في ذلك أثر من منهج "شمولية الشريعة" لديه.[10] كما ويُحسب له التطلع إلى المقاومة والطرح الإسلامي عامة، من منظور يتجاوز الأطر الحزبية، إلى فضاءات مجتمعية أوسع، تكون الأمة فيها الأساس والمرتكز.

حزب الله وعواصف الربيع والخريف

في كتابه "حزب الله: إشكالية السياسة والمقاومة في مجتمع متنوع"، يقدم الباحث عبد الغني عماد نقده الخاص بتجربة حزب الله، ويتوقف عند "وثيقة حزب الله السياسية" الصادرة عام 2009 بكثير من التشريح. يقول عبد الغني: لا شك في أن "هذه الوثيقة هي آخر مستند أيديولوجي صدر عن الحزب، لكنها وثيقة صدرت من موقع المعارضة، أي أنها صدرت حين كان الحزب خارج الحكومة ومقاطعاً لها وساعياً لإسقاطها، ]...[ وهي إذ تسعى إلى التفصيل في الميادين الدولية والعربية والإسلامية والمحلية، فإنها لا تفعل ذلك إلاّ بهدف واحد محدد مسبقاً، وهو تبرير مهمة الصراع بشكله المسلح حصرياً... ]ثم[ تصف الوثيقة ʾإسرائيلʿ بأنها خطر دائم، وأن المواجهة معها دفاع عن النفس، وأن فلسطين قضية مركزية في الصراع من دون أن تحدد كيفية إدارة هذا الصراع وسبله الأنجع."[11]

وأياً تكن منطلقات عبد الغني عماد، فقد أصاب في الكثير من ملاحظاته، إذ جاءت الوثيقة السياسية كآخر مستند أيديولوجي صادر عن الحزب في ذروة محاولات الحزب التوفيق بين المواطنية والإسلام، وبين الديمقراطية والحاكمية، وتحت وطأة استنبات خطاب وطني، يراعي الحيثية اللبنانية حتى في تناوله لقضيته المركزية فلسطين.

والحال أن واقع اليوم صار أكثر تعقيداً وأشد التباساً، فما بين الوثيقة عام 2009 واليوم متغيرات كبرى عديدة؛ فعام 2009، لم يكن حزب الله قد استشعر مخاطر المسار الديمقراطي على مشروعه، كما لم يكن السُعار الطائفي (الذي ابتدأ عام 2003) قد وصل إلى ذروته بعد، ولم تكن المسألة الاجتماعية في لبنان - فضلاً عن التفكير في المسألة اللبنانية برمتها - لتخرج عن التفكير في الهيئات الأهلية الطائفية المستحكمة في المشهد السياسي اللبناني لقرون. في واقع الأمر، كانت مخاطر الديمقراطية والثورات الشعبية شيء من "اللامفكَّر فيه" لدى الحزب لولا "واقعة الربيع العربي" عام 2011، والثورة المطلبية في لبنان عام 2019.

لقد شكّل الحدثان اختباراً لمدارك حزب الله المعرفية ومعضلة بدا خطاب الحزب إزاءها مربكاً. فما نظّر إليه حزب الله من المصالحة الحتمية بين "الإسلام السياسي" والديمقراطية، سنة 2009، نقدته الأزمة السورية، وما ارتكز إليه في رؤيته للواقع اللبناني صدّعته ثورة تشرين 2019، والحدثان طرحا في عمقهما "الديمقراطية" و"بناء الدولة" كإشكاليتين هذه المرة. ماذا لو أفرزت الديمقراطية منتَجاً مضاداً للمقاومة ومشروعها الإسلامي؟ ثم، ماذا لو تعاكس منطق بناء الدولة ومكافحة الفساد مع منطق الطائفة أو المشروع السياسي – الاجتماعي الذي تستند إليه المقاومة؟ وقبل هذه وتلك، كيف السبيل إلى بناء مشروع مقاوم في بيئة اجتماعية متصدعة طائفياً وسياسياً؟

وإذا كان سؤال بناء الدولة والموقف من الديمقراطية قد داهما الحزب المقاوِم من زاوية الحراك الاجتماعي والضغط السياسي الخارجي قبل طوفان الأقصى، فإن سؤال الدولة والديمقراطية وموقع الحزب من هاتين المفردتين، صار يداهم الحزب اليوم من داخل باراديغم (نسق) انشغالاته. فهل من الممكن استيلاد مشروع نهضوي مقاوم قادر على هزيمة "إسرائيل" من دون إرادة شعبية حرة تلتف حول خيار المقاومة في المنطقة العربية؟ وهل في الإمكان التأسيس لمقاومة على المستوى اللبناني قادرة على ردع "إسرائيل" من دون حد أدنى من المشتركات السياسية بين حزب الله والأفرقاء اللبنانيين؟

ستطرح مثل هذه المسائل تحديات مركزية على حزب الله، وعلى أمينه العام الشيخ نعيم قاسم، اليوم، كما ستفرض هذه التحديات استيلاد أجوبة ومقاربات مختلفة عن مكرورات الماضي؛ فمن أي زاوية سيطل حزب الله على المشهد اللبناني؟ ومن أي زاوية سيقارب المشهد العربي؟ لقد أفرز طوفان الأقصى خرائط واصطفافات جديدة في عموم الشرق الأوسط والمنطقة العربية، وأتاح أطراً مرجعية مختلفة في مقاربة المسائل السياسية والاجتماعية، ومن المتوقع أن يُرخي الطوفان بآثاره على تموضع حزب الله واصطفافاته في المنطقة عامة، وفي لبنان على وجه التحديد.

حزب الله والولادة الثانية

لا شك في أن سلوك حزب الله ومقاربته للمسألتين اللبنانية والإقليمية سيرتبطان بمجريات الحرب القائمة ومخرجاتها النهائية؛ فمع اغتيال "إسرائيل" قادة الحزب، وضربها للمفاصل الأساسية فيه، صار قتال حزب الله اليوم العامل الرئيسي في تحديد صورة وهيئة الحزب في مرحلة ما بعد الحرب. بمعنى آخر، نحن إزاء ولادة ثانية لحزب الله، والمفارقة أن هذه الولادة مرتبطة عضوياً بمفاعيل الحرب الراهنة وطبيعة الأداء العسكري للحزب حالياً. وعلى الرغم من الأثر الصعب لاغتيال الصف الأول من قادته، وما تركه غيابهم من الفراغ والأثر النفسي السلبي، فإن غيابهم سيعطي الحزب إمكانية ولادة متخففة من أعباء الماضي ومثقلاته، الأمر الذي يطرح أسئلة حول التحديات التي يواجهها حزب الله في الداخلين اللبناني والعربي، وطبيعة استجابته المستقبلية في مواجهة مثل هذه التحديات.

حزب الله اليوم والمشهد اللبناني

في محاضرة له في مؤتمر حركة "التجدد للوطن" مطلع حزيران/ يونيو من هذا العام، قدم عضو كتلة الوفاء للمقاومة (كتلة حزب الله النيابية)، علي فياص، مقاربة مستجدة للمسألة الوطنية؛ انطلق فياض من اتفاق الطائف وما أفرزه من طبيعة انتقالية لازمت الدولة حتى يومنا الراهن، وهو ما يستدعي، بحسب فياض، منسوباً عالياً من المسؤولية الوطنية والمصارحة، فعلى الجميع التفكير في ضرورة تطوير الدولة الانتقالية نحو دولة نهائية ومستقرة لناحية نظامها السياسي وتموضعها الجيوستراتيجي.

المشكلة - وفق منظور فياض - تكمن في أن للطوائف هواجسَ كبرى، وأن إنكار الهواجس لا يجدي نفعاً، فيصنّف هواجس الطوائف على النحو التالي: هاجس الطائفة السنية هو حماية اتفاق الطائف، وهاجس الدروز هو حماية الدور في خضم التحولات الكبرى، هاجس المسيحيين حماية الوجود واستعادة الصلاحيات في ظل التضاؤل الديموغرافي، أمّا الهاجس الشيعي، فيكمن في مواجهة الكيان الصهيوني لأسباب وطنية وأيديولوجية. وعلى هذه الأرضية ناقش الرجل في الندوة مسألة الفيدرالية في لبنان، باعتبارها قضية نقاش مفتوح داخل حزب الله ومحط تفكير النخب في أروقته.[12]

إشكالية هذه المقاربة التي تضرب عميقاً في العقل الشيعي اللبناني وصولاً حتى الإمام موسى الصدر، أنها لم تعد قادرة على تفسير الواقع بسهولة ما بعد 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019. فلقد أثبتت الطائفية أنها "مزراب هدر" ليس إلاّ، وأن المنطق الطائفي مضاد بطبيعته لبناء الدولة القادرة والعادلة، كما أن ولادة طبقة وسطى عالمية منفكّة عن شبكة العلاقات البين وطنية (الطائفية والعشائرية والمناطقية) هي ظاهرة عالمية ينبغي لحزب الله التفكير فيها ملياً، وإن كانت إرهاصات التعبير عن هذه الطبقة في لبنان سياسياً لا تزال في بداياتها.[13]

حزب الله في بيئة عربية متغيرة

عربياً، سيرخي طوفان الأقصى بظلاله العميقة على كامل المشهد العربي (كما ذكرنا آنفاً)، كما سيفتح المجال واسعاً لاصطفافات جديدة. وفي إمكان حزب الله الاستفادة من التقارب الإيراني – السعودي، والتركي - الإيراني، لبدء مرحلة جديدة من تخفيف التوتر وخفض التصعيد في الإقليم عامة، وفي سورية على وجه التحديد. ويعي الشيخ نعيم قاسم أهمية هذه المسألة وضرورتها، كما يعي فداحة الأزمة السورية ومفرزاتها، وعليه، يمكن لحزب الله، ومعه الشيخ نعيم قاسم بدء سياسة الـ"خطوة – خطوة" في إعادة تجسير ما انقطع مع الخصوم ومد خطوط التواصل مع فواعل السياسة الإقليمية المناوئة. ويعتمد الأمر بشكل كبير على فواعل الإقليم الدولتية (إيران، وتركيا، وبنحو أقل السعودية)، وعلى تكامل سياسات الأفرقاء الإقليميين غير الدولتيين ("حماس"، والجهاد الإسلامي، والإخوان المسلمون) في تمهيد الأرضية اللازمة لمثل هذا التقارب. ومرة جديدة، ستفيدنا أدبيات "المدرسة الفقهية الشامية" (أو المدرسة الفقهية العاملية) الحاضرة في كتابات الشيخ نعيم قاسم الإسلامية، في تمكين حزب الله من الاستجابة إلى مثل هذه التحديات. فلطالما كانت "مدونة الأخلاق السياسية" العنصر المائز لمدرسة الفقه الإمامي العاملي عن غيره من مدارس الفقه الشيعية في الحواضر المختلفة، الأمر الذي يعد بتأسيس اجتهاد نظري وعملي من قبل الشيخ قاسم يحاكي التحديات التي تواجه حزب الله، والتي لم تعد بالقليلة أبداً.

 

[1] هي الهيئة التأسيسية الأولى لحزب الله، والتي ضمت تسعة أشخاص، ثلاثة عن التجمع العلمائي في البقاع، وثلاثة عن اللجان الإسلامية، وثلاثة عن حركة أمل الإسلامية، والتي حملت الورقة النهائية التي تضمنت أهداف الحركة المزمع تأسيسها إلى الإمام الخميني فوافق عليها عام 1982.

[2] راجع: حسن فضل الله، "حزب الله والدولة في لبنان: الرؤية والمسار" (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2015)، الطبعة الثالثة، ص 80.

[3] في مقابلة لي مع أحد فواعل العمل الدعوي في تلك المرحلة قال لي بالحرف: "كانت كتب سيد قطب، واحدة من روافد ثقافتنا وانشغالاتنا الفكرية، وكانت الأمة الإسلامية بأسرها محط انشغالنا الذهني والعملي العام." وأتحفظ عن ذكر اسم الشخصية صاحبة الرأي، لانخراطها في العمل الجهادي للمقاومة في لبنان اليوم.

[4] فيما يخص مركزية فلسطين والقدس في مقاربة حزب الله (جناح الدعوة)، راجع: الشيخ علي الكوراني، "طريقة حزب الله في العمل الإسلامي" (بيروت: مكتب الإعلام الإسلامي، محرم 1406هـ)، الأساس الثامن: مميزات ثقافة حزب الله، ص 177، 178.

[5] كمثال، وفيما يخص الدولة، كانت رؤية "جماعة الدعوة" حاضرة في رسالته المفتوحة عام 1985، ويمكن التماسها في الأسطر التالية: "لكننا نؤكد أننا مقتنعون بالإسلام عقيدة ونظاماً، وفكراً وحكماً، وندعو الجميع إلى التعرف إليه والاحتكام إلى شريعته، كما ندعوهم إلى تبنيه والالتزام بتعاليمه على المستوى الفردي والسياسي والاجتماعي. وإذا ما أتيح لشعبنا أن يختار بحرية شكل نظام الحكم في لبنان، فإنه لن يرجّح على الإسلام بديلاً. ومن هنا، فإننا ندعو إلى اعتماد النظام الإسلامي على قاعدة الاختيار الحر والمباشر من قبل الناس، لا على قاعدة الفرض بالقوة كما يخيل للبعض." راجع: "الرسالة المفتوحة التي وجهها حزب الله إلى المستضعفين في لبنان والعالم سنة 1985"، ص 19 – 20.

[6] للاطلاع أكثر على تلك المرحلة، راجع: الشيخ نعيم قاسم، "حزب الله المنهج، التجربة، المستقبل" (بيروت: دار المحجة البيضاء، 2010)، الطبعة السابعة، ص 180 - 184. أيضاً: حسن فضل الله، "حزب الله والدولة في لبنان"، مرجع سبق ذكره، ص 122 – 128.

[7] للاطلاع أكثر على ملامح نظرية حزب الله في المسألة الوطنية، يمكن مراجعة ورقتي السيد هاشم صفي الدين (الرئيس السابق للمجلس التنفيذي في حزب الله)، والحاج محمد رعد (رئيس كتلة حزب الله النيابية) للمؤتمر الدائم للمقاومة سنة 2008، إذ قدم صفي الدين ورقة بعنوان: "المقاومة ومشروع بناء الوطن"، فيما قدم رعد ورقة بعنوان: "الإسلاميون وإشكالية العلاقة بين المقاومة والمشروع الوطني". "وقد أصّلت الورقتان للمواطنة ذات البعد التشاركي الإيجابي. فالمواطنة مقبولة ما دامت لا تصطدم مع الأمة ولا تكون سبباً في تعطيل فاعليتها. والمقاومة لا تكون في موضع الصدام مع الآخر الوطني ابتداءً، إلاّ إذا ما استقوى الآخر عليها مستنداً إلى الخارج، فهي ثورية في جهادها التحريري/ الخارجي، وتصالحية/ ديمقراطية في سياسة إصلاحها الداخلي. والمواطنة بذاك تكون مقبولة، بل ومطلوبة، طالما أنها لا تصطدم مع الأمة وقضاياها، وتصير عصبية منبوذة إذا ما استخدمت للتجاسر على الأمة ومجتمعها. وقد جاءت الوثيقة السياسية لحزب الله عام 2009 لتعبر عن ذروة مسار "اللبنَنَة"، وبمثابة الإجابة النهائية على سؤال الكيانية اللبنانية ومقاربة حزب الله لها." راجع: محمد رعد والسيد هاشم صفي الدين في: "الإسلاميون وإشكالية العلاقة بين المقاومة والمشروع الوطني" (بيروت: دار المعارف الحكمية، 2008)، ص 11، 20، 35، 56. أيضاً، راجع: حسن فضل الله، "حزب الله والدولة في لبنان"، مصدر سبق ذكره، ص 15 – 45؛ علي فياض، "مقدمات نحو نظرية للإصلاح الإسلامي: حزب الله وأسئلة التغيير السياسي في مجتمعات متعددة ومهددة" في "ثقافة المقاومة: تحديات الواقع وآفاق المستقبل" (بيروت: دار الهادي، 2006)، ص 213 – 223. 

[8] راجع: نعيم قاسم وآخرون، "قيم المقاومة: خيار الشهادة والحياة" (بيروت: دار الهادي، 2008)، ص 5 – 12.

[9] راجع: نعيم قاسم، "مجتمع المقاومة: إرادة الشهادة وصناعة الانتصار" (بيروت: معهد المعارف الحكمية، 2008).

[10] يُقصد عادة بشمولية الشريعة، أن الأخيرة شاملة لكل الحاجات البشرية الفردية والاجتماعية. فالإسلام دين شامل، يستوجب الإيمان بالله، الذي يوجب الالتزام بدينه واجتناب ما عداه، فهو يستوجب العبادات، وتربية النفس، والتكافل الاجتماعي، مع ما يستتبعه ذلك بحسب رؤية الشيخ قاسم من مستتبعات كلامية (نسبة إلى علم الكلام في التاريخ الإسلامي) من "الاهتمام السياسي بأمور المسلمين، وعدم الركون للظالمين، ثم الجهاد في سبيل الله، والاحتكام إلى العقل ورفض التبعية، ثم اعتماد العدل كقاعدة معتمدة في كل شيء، والابتعاد عن الفحشاء والمنكر والظلم" راجع: نعيم قاسم، "حزب الله: المنهج، التجربة، المستقبل"، مصدر سبق ذكره،، ص 41 – 46.

[11] عبد الغني عماد، "حزب الله: إشكالية السياسة والمقاومة في مجتمع متنوع" (مصر: مكتبة الإسكندرية، 2013)، ص 66، 67.

[12] يمكن الرجوع إلى النص الأصلي للمحاضرة التي ألقاها النائب علي فياض في جريدة "الأخبار" في عددها الصادر صبيحة الخميس 27 حزيران/ يونيو 2.

[13] للاطلاع أكثر على ظاهرة الطبقة الوسطى عالمياً، يمكن الرجوع إلى: آصف بيات، "الحياة السياسية: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الاوسط"، ترجمة أحمد زايد (مصر: المركز القومي للترجمة، 2014)؛ حميد دباشي، "الربيع العربي: نهاية حقبة ما بعد الاستعمار" (الإمارات: دار نون للنشر، 2024).

1
Author Bio: 

بشار اللقيس: كاتب وباحث في الفكر السياسي، مؤلف كتاب: "نقد إسلامية المعرفة"، طالب دكتوراة في الجامعة اللبنانيّة.