رهام سماعنة
في ظل استمرار الإبادة على قطاع غزة منذ أكثر من عام، لم يُبقِ المستعمِر شيئاً في مكانه؛ إذ قتل البشر، وفتت الحجر، وحاول محو المباني، قديمها وحديثها، ولم يفرّق بين البيت، والمسجد، والكنيسة، والمدرسة، والمستشفى، والجامعة، ولم يترك مركزاً ثقافياً، أو رياضياً، أو فنياً على حاله. حجم الدمار الهائل الذي طال كل شيء لم يتكشف على حقيقته بعد لأن الإبادة لا تزال مستمرة، وقد أربكت استمرارية الإبادة الفعل المؤسساتي الفلسطيني برمّته، الرسمي وغير الرسمي. وفي هذا الصدد، نحاول رصد ردات فعل وزارة الثقافة الفلسطينية تجاه الإبادة التي تجري في غزة فيما يتعلق في القطاع الثقافي.
وفي مقابلة مع وكيل وزارة الثقافة الفلسطينية في رام الله السيد جاد غزاوي، حاولنا معرفة مزيد من التفاصيل عما قامت به وزارة الثقافة في ظل ما يحدث من إبادة في قطاع غزة، فأجاب على النحو الآتي:
ما هي آلية عمل الوزارة على الأرض في غزة في فترة الإبادة؟
لنكن متفقين في البداية على أن أي عمل أو فعل سيبقى ضئيلاً أمام ما يحدث في غزة، لأن ما يحدث في غزة شيء يفوق قدرتنا على الاستيعاب والفعل لعدة أسباب؛ أهمها حجم الدمار، والقتل، والإبادة وما رافقها من تعمُّدٍ لقطْع سبل التواصل مع أهلنا في غزة، وكان واضحاً أن الهدف منه هو الاستفراد بالقطاع، وإلحاق أكبر أذى وضرر فيه على أكثر من صعيد، وأهمها الإنساني، ثم تأتي بقية الأصعدة، وضِمنها القطاع الثقافي. أنا أرى أن مسألة التدخل في قطاع غزة في هذه الفترة الصعبة جداً من حياتنا تتلخص في اتجاهين: الأول أننا يجب أن نتعاطى مع أشياء فورية ملحّة، والثاني أنه "ما الذي علينا فعْله بعد انتهاء الإبادة؟".
هل هناك أمثلة لعمل الوزارة على أرض الواقع؟
الوزارة تابعت، بكل تأكيد، ما يجري منذ البداية؛ إذ تم تشكيل لجنة برئاسة الوزير، وكان مهتماً جداً بالتعاطي مع ما يجري في قطاع غزة، وهذه اللجنة كانت تواكب ما يجري في القطاع، ومن الإجراءات التي اتُخذت أنه كانت هناك تدخلات كثيرة إغاثية في الدرجة الأولى لتقديم الدعم إلى كثير من المؤسسات الأفراد، كمهرجان السينما في غزة، والذي تم بتمويل الوزارة، فضلاً عن صندوق التنمية الثقافية، إذ دعم كثيراً من المؤسسات، وهو إحدى أذرع وزارة الثقافة، ويعمل ضمن السياسات التي تقرها الوازرة، وكان له تدخّل كبير في موضوعات المتابعات الثقافية في غزة، كإجراء نشاط كبير عبر جمعية مياسم في قطاع غزة تضمّن فعاليات يوم التراث، وأنتج فيلماً عن الواقع في غزة تناول خلاله جزئيات مهمة جداً من الدمار الذي يحدث والإبادة للثقافة الفلسطينية، واسمه "أصداء الذاكرة في قطاع غزة". كما تم الاهتمام بإنتاج وإصدار مجموعة من الكتب، ككتاب " كتابة خلف الخطوط"، وقد صدر بثلاثة أجزاء، وغطى قصص عدد كبير من الكتّاب في قطاع غزة، وتناول يوميات الحرب، وحالياً يجري إصدار كتاب جديد بعنوان "رمال حمراء"، ويضم عدداً من النصوص لمجموعة من الكتّاب والشعراء بلغ 30 كاتباً، كما تم إرفاق 30 لوحة فنية به؛ أي جَمَع بين النصوص الأدبية والأعمال الفنية. وهناك أيضاً باب في الوزارة بعنوان "سلسلة إصدارات غزة"، بحيث يستطيع كل كاتب فلسطيني موجود في غزة أن يرسل مادة مهما يكن شكلها الأدبي، والوزارة تتكفل بإصداره وطباعته وتوزيعه وعَمَلِ أمسيات للترويج له، وتم تقريباً إنجاز أربعة كتب، ومع نهاية الشهر القادم سترى النور.
هل هناك تقارير تم إصدارها عن الوزارة بشأن الإبادة؟
من الأشياء التي تقوم بها الوزارة الرصد والتوثيق، وقد أصدرت خمسة تقارير عبر التواصل المباشر مع الناس هناك؛ من كتّاب، وفنانين، وموسيقيين، ومسرحيين، وزملاء وآخرين لتوثيق ما يجري.
هل هناك تشبيكات مع مؤسسات أو أفراد في غزة؟
منذ بداية عمل الحكومة الحالية، ذهبت سياسة الوزارة في اتجاه الانفتاح على كل المؤسسات، وهو ما شكّل عند الوزارة التوجه إلى بناء شراكات معينة، وتحديداً فيما يتعلق بغزة، لأنه من دون أن يتشكل ائتلاف وطني واسع لمواجهة ما يحدث هناك، فسيكون هناك ضعف وتكرار لمسائل معينة، وبالتالي، نحن في غنى عن هذا الشيء، وخصوصاً أن حجم الدمار والمأساة كبير، ويجب أن تكون هناك وِحدة للتعاطي مع المسائل بجدّية ومسؤولية، وهذه الوحدة تتطلب منا التفكير في كيفية العمل سوياً.
هل هناك أسماء لدور نشر، أو مكتبات، أو مراكز ثقافية، أو أرشيفات، أو مواقع أثرية تم توثيق ما جرى لها، أو ما تبقّى منها؟
لم تتبقَ مؤسسة ثقافية في غزة إلاّ وتعرضت للهدم.
هل هناك تفاصيل موثقة عن أسماء وقصص الشهداء؟
نحن نعمل على قاعدة بيانات متجددة باستمرار لتوثيق الأعداد، وستجدين في التقارير معلومات عن جزء منهم ممن حصلنا على معلوماتهم وقصصهم وصورهم وطريقة استشهادهم.
هل تقوم الوزارة بتوثيق ما يحدث؟ وما هي معايير التوثيق؟
نعم هناك توثيق، أمّا معاييره، فلا أحد يستطيع ادعاء أنه يستطيع أن يحصر، بصورة ممنهجة، ما يحدث في غزة، لأننا لسنا موجودين هناك، وحتى الموجودون هناك تمت محاصرتهم ووضْعهم في معازل، فلا يستطيعون التحرك، وإذا تحركوا كانوا عرضة للخطر، ونحن بكل تأكيد نطلب منهم ألاّ يقوموا بأي إجراء يعرض حياتهم للخطر.
هل تم التواصل مع مؤسسات حقوقية بشأن الأسرى أو ما يجري في غزة؟
هناك هيئة الأسرى، ونحن على تواصل معهم، وهي المسؤولة عن هذا الملف. نحن لا نجزء الأمور، لأن تجزئتها يُدخل الأشياء في أماكن غير مُمأسسة، وهذا يعود بالضرر، وليس بالإيجاب، كما أن حال الكتّاب والفنانين والسينمائيين هو حال كل الفلسطينيين الموجودين في غزة، ولا أحد أفضل من الآخر، فالمعاناة واقعة على الجميع.
كيف تنقلون هذه المعاناة إلى العالم؟
نحن نحاول نقل صورة فنية أدبية مؤثرة أمام الرأي العالمي، وهذه المحاولات تقع ضمن أشياء أُخرى؛ إذ عملْنا على نقل الصوت إلى العالمية، فقمنا بتوقيع اتفاقية مع مؤسسة في البرازيل لترجمة الأعمال التي تمت كتابتها في الكتب التي صدرت عن الوزارة إلى اللغة البرتغالية. وهناك عمل مكمل لما تقوم به الوزارة، وهو ما تقوم به مؤسسة الدراسات الفلسطينية من مطبوعات ومنشورات وترجمة إلى لغات متعددة.
هل قامت وزارة الثقافة بتقديم أي نوع من المساعدة أو الدعم إلى المؤسسات أو الأفراد، وخصوصاً أولئك الذين هم ضمن اختصاصها، أي ضمن الأطر الثقافية؟
لدى الحكومة الحالية وزارة متخصصة في الإغاثة والأمور الخارجية، وهناك وزارة الخارجية التي تعنى بهذه الأمور، لكن أي فنان أو كاتب توجّه إلى الوزارة بطلب معيّن، فإن الوزارة بكل تأكيد تأخذ الطلب بجدية، وتعمل على المساعدة بالتواصل مع الجهات المختصة والتشبيك معهم.
هل لدى وزارة الثقافة نسخ من مواد الأرشيف محفوظة من المواقع التي تم تدميرها؟
للأسف، قبل الحرب، كان هناك انقسام، وهذا الانقسام أثر في كل المناحي، لذا لم يكن في إمكان وزارة الثقافة أن تأخذ دورها في قطاع غزة بالشكل المطلوب، مؤسساتياً على الأقل، والمؤسسات التي كانت موجودة في غزة كانت تأخذ بعين الاعتبار مسألة التوثيق، لكن حجم الدمار لم يترك شيئاً سليماً، ولا يمكن معرفة إذا ما بقي شيء أم لا، على الأقل في الوقت الراهن، وخصوصاً في ظل سياسة الاحتلال التي تقوم على نهب الأرشيفات وتدميرها، وتدمير أي شيء يمكن أن ينشئ ذاكرة للفلسطينيين، أو يحافظ عليها.
هناك مؤسسات في غزة لها فروع في الضفة الغربية. هل تم التواصل معها لمعرفة إذا ما كانت لديهم أرشيفات، لها علاقة بأنشطة فروعها في غزة، تم الاحتفاظ بها؟
كان هناك توجُه إلى العمل على جمع بيانات من فروع هذه المؤسسات، كجامعة دار الكلمة، ومعهد إدوارد سعيد، وجامعة القدس المفتوحة اتحاد الكتاب، ونقابة الصحافيين، والكمنجاتي، وغيرها من المؤسسات التي لها فروع واتصال بالمؤسسات في غزة، ويمكن أن تكون لديها نسخ من المحفوظات.
هل قامت وزارة الثقافة بأي إجراء أو خطوة للتعرف على حجم الدمار في القطاع الثقافي في غزة؟
التعامل اللحظي أو التفاعل مع الحدث موجود من أول لحظة، وقد قمنا بإطلاق نموذج لكل الموجودين في غزة لتتم تعبئته للتعرف على حجم الخسائر، ووضعْنا قاعدة بيانات جيدة موجودة في الوزارة سنقوم عن طريقها بالتواصل مع المؤسسات التي لها فروع في الضفة وغزة لتعزيزها. وقد أجاب نحو 500 شخص على هذا الاستبيان، لكن كانت البيانات المدخلة في بعض الخانات غير كافية، وفي حاجة إلى تعزيز، لذا، فسنتواصل مع الأفراد أو المؤسسات ذات الصلة لطلب التعزيز منهم، أو الإضافة إلى هذه البيانات، بحيث تصبح هذه المعلومات متاحة لكل مَن يريد.
ما الهدف من الكتب التي تم نشرها أو في صدد النشر؟
التوثيق؛ فهناك من الكتّاب مَن استُشهد بعد أن كتب مادته التي نُشرت في الكتاب، وكانت لدينا في الوزارة لوحة فنية لإحدى الفنانات التي استشهدت وبقيت لوحتها، وتم نقلها إلى متحف فلسطين، وهي مشاركة في المعرض المقام هناك بعنوان "هذا ليس معرضاً"، وهذه واحدة من الأشياء التي تؤكد أهمية الكتابة أو الأعمال الفنية وغيرها، والتي ربما تبدو بسيطة، إلاّ إنها تعني الشيء الكثير لحياة الإنسان الذي من الممكن أن يُستشهد في أي لحظة.
هل أعدت وزارة الثقافة خطة لِما بعد انتهاء الإبادة التي يقترفها المستعمِر بحق الفلسطينيين في قطاع غزة؟
هناك هاجس لدى الجميع، ليس فقط في وزارة الثقافة، بل أيضاً مرتبط بنا كشعب مغتربين ومفكرين ومؤسسات، نفكر في "كيف نبقى بعد هذه الإبادة حاضرين في الضمير العالمي وضمائرنا بحيث لا يمر كل ما يجري مرور الكرام؟"، لأن حجم البشاعة التي حدث أساءت إلى الإنسانية التي شاهدت ما يحدث عبر شاشات التلفاز ومواقع التواصل الاجتماعي في كل هذه المنصات، وسببت صدمة حقيقية لكل إنسان لديه ضمير.
أي فعل سيبقى محدوداً وضئيلاً لأن حجم الكارثة كبير، وفي رأيي، فإن الفعل الثقافي سيبدأ بعد الحرب، لأن حجم الذاكرة التي تتكثف وتتشكل الآن تحتاج إلى وقت لتتحول إلى منتج ثقافي؛ أي أن الفنان في غزة الآن لا يستطيع إنتاج أعمال فنية، فالكاتب الموجود يستطيع أن يعبّر عن حالة يومية معينة، لكن الإبداع الحقيقي والمنتج سوف يظهر بعد أن يتوقف كل شيء. وبعد انتهاء ما يحدث، ستتكشف أشياء كثيرة مدفونة تحت الأنقاض، وهي أشد رعباً مما رأيناه حتى الآن، وأنا أتحدث هنا عن عدة مستويات، منها الموضوع الثقافي.