في سنة 2018، قررت مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بدعم من "صلات: روابط من خلال الفنون"،[1] افتتاح ورشة كتابة إبداعية بإشراف الروائي اللبناني الكبير الياس خوري، رئيس تحرير مجلة الدراسات الفلسطينية آنذاك. وكانت هذه الورشة الثانية من نوعها التي تقيمها المؤسسة، بعد أن كانت الأولى بإشراف الروائي اللبناني حسن داود.
وتقدَّم إلى المشاركة في الورشة الثانية، كما الأولى، عدد كبير من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وقُبل منهم 14 شاباً وشابة، اجتمعوا في مقر المؤسسة بمعدل جلسة أسبوعية في ثلاثة أشهر، كتبوا خلالها نصوصاً أدبية، ساهم في تطوريها الأستاذ الياس، والنقاشات بين المشاركين التي فتح لها مجالاً حراً لها، نقداً وتطويراً وتصحيحاً. وصدر كتاب "حب في المخيم" الذي جمع نصوص المشاركين في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، ووضع له الأستاذ الياس مقدمة عنوَنَها بـ "احتمالات البداية"، ومقدمة أُخرى وضعتْها المشرفة على الورشة، والباحثة في المؤسسة، بيرلا عيسى بعنوان "الكتابة عن الحياة اليومية".
أتاح لهم الفرصة
بيرلا عيسى
ننعى ببالغ الحزن والأسى وفاة زميلنا ومعلمنا إلياس خوري. إن رحيله في 15 أيلول/سبتمبر أمر يصعب تقبّله. ولا سيما أنه حدث في الوقت الذي كانت فيه الحرب الإسرائيلية على لبنان تتصاعد بشكل كبير. وبالفعل، بينما كنا نشارك في تشييعه في يوم الثلاثاء 17 أيلول/سبتمبر، وبينما كان الحضور يتبادلون التعازي برحيله، بدأت الرسائل النصية تتوالى علينا، وتتحدث عن "انفجارات" تُسمع في بيروت. وفي الوقت الذي كنا نقود السيارة إلى المقبرة كانت الأخبار تتوالى عن "أجهزة متفجرة".
كيف تحزن في زمن الحرب؟
كيف تحجب الأخبار لكي تبقى في اللحظة الحاضرة التي تعيشها؟
سيارة دفن الموتى قادمة.
"هناك عشرات الجرحى".
يُحمل نعش الياس إلى مثواه الأخير.
"المصابون الآن بالمئات".
يوارى الثرى.
كيف حال أطفالي في المدرسة؟ هل هم بأمان؟ هل يسمعون أصوات انفجارات؟ هل أبقى أم أغادر لأحضرهم؟
أريد البقاء، أريد أن أعيش هذه اللحظة. أقول لنفسي، إنهم بأمان، إنهم في صفهم، والمدرسة لم ترسل أي رسائل. أعود بذهني إلى إلياس. أشاهد عائلته وأصدقائه يودّعونه.
هل قيادة السيارة في بيروت الآن آمنة؟ أي طريق يجب أن أسلك؟
لا، لن أستسلم لرغبة إسرائيل في إثارة الذعر. سوف أودّع الياس خوري بالطريقة التي أريدها وسوف أتذكره وأتذكر إرثه بالطريقة التي يستحقها.
يُعرف إلياس كثيراً كروائي ماهر ومثقف ملتزم، لكن من المهم أن نعرف أنه لعب أيضاً دوراً رئيسياً في توجيه وإرشاد وتشجيع جيل جديد من الكتّاب والصحافيين والعاملين في المجال الثقافي. وقد فعل ذلك مراراً وتكراراً في أماكن عديدة كجريدة "السفير" و"النهار" و"مسرح بيروت" وغيرهم. وقد حمل هذا التقليد إلى "مؤسسة الدراسات الفلسطينية" سواء في دوره كرئيس تحرير "مجلة الدراسات الفلسطينية" أو في قيادته لورشة الكتابة الإبداعية في نهاية عام 2018.
لم يوافق الياس بسهولة على قيادة ورشة عمل كهذه، فقد أخبرني أن الكتابة ليست شيئاً يمكن تعليمه، بل هي شيء تفعله. وقد شرح ذلك جيداً في مقدمته "الكتّاب لا يتعلمون الكتابة إلاّ بالكتابة" لكنه وافق أخيراً. وفي مساء كل ثلاثاء، من 18 أيلول/سبتمبر إلى 12 كانون الأول/ديسمبر 2018، كان يلتقي معه مجموعة من الشباب الفلسطينيين، بالأصح الشباب وغير الشباب في ورشة عمل حول الكتابة الإبداعية، في غرفة موقتة ضمن مبنى "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، حيث كانت تعمل ورش ترميم المبنى.
يبدو أن إتاحة الفرص للآخرين كان جزءاً أساسياً محدداً لما كان عليه الياس. وهذا بالفعل ما فعله في تلك الجلسات الاثنتي عشرة. تمكّن جميع المشاركين من إنتاج نصوص نُشرت لاحقاً في كتاب "حب في المخيم".
من المهم هنا أن أشير إلى أن العديد من المشاركين في الورشة يتعرضون حالياً للنزوح بسبب الحرب الإسرائيلية على لبنان (مخيم الرشيدية للاجئين الفلسطينيين في لبنان يخضع لأوامر إخلاء من الجيش الإسرائيلي بينما أكتب هذه الكلمات) ولم يكن لدى الكثير منهم القدرة على كتابة الشهادات، وهي صعوبة أُخرى من صعوبات الحداد في زمن الحرب.
وفيما يلي: تحية للراحل الكبير الياس خوري، كتبها بعض الزملاء في ورشة الكتابة الإبداعية كتحية إلى أستاذهم:
هو الفلسطيني
خالد نعنع
منذ سنين مضت، كانت روايات الياس خوري من أروع ما قرأت حول فلسطين وقضيتها، لم أشك للحظة بفلسطينية الياس، وأنه خرج مؤخراً من فلسطين! أنه سار بين بياراتها وتأمل أزقتها. ظل ذلك اليقين إلى أن علمت أن الياس الذي وصف فلسطين بدقة تكاد تكون منقطعة النظير، أن الياس الذي تغنى بحب فلسطين ودافع عن شعبها وقضيتها، لم تمس قدماه قط تلك الأرض! تأكدت وقتها أن فلسطين ليست قضيتي وحدي، إنما قضية كل إنسان شريف.
حين علمت بقبولي بورشة الكتابة الإبداعية في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، التي سيديرها الياس خوري، كانت سعادتي كبيرة. أخيراً، سيعلّمني العبقري تقنيات وأساليب جديدة أكتب فيها فلسطين. لم يخب أملي بتاتاً حين التقيته، فهذا الكاتب الفذ، المبدع المتجدد، ما هو إلاّ انعكاس لإنسان سريع البديهة، ودود، سليط اللسان لكنه حنون. لا يختلف اثنان أن ملاحظات الياس ومراجعاته لكل ما كتبناه خلال ورشة الكتابة، صقلت شخصية كتّاب مستقبليين، الدقائق التي شاركنا إياها الياس خبرته وتاريخه الأدبي والنضالي كانت لا تُقدر بثمن، فهو القائد الذي لم يبخل على جنده بأي دعم أو تدريب، لم يتركنا في ساحات الكتابة فرادى، كانت تعليماته دائماً ترسم طريق النصر والتحرير، فقد زوّدنا بسلاح "الإبداع"، السلاسة والسهل الممتنع.
إليك يا الياس أقول، رحل جسدك، لكنك تركت ألف ألف الياس يحملون اسمك وتاريخك ويسيرون على درب حلم التحرير، على الرغم من أنف كل عدو، حاقد وعميل.
علّمنا
وسيم السلطي
كنتُ أحسب الأستاذ الراحل الياس خوري، أو أنني كنت أريد أن أحسبهُ، أنه فلسطيني، تهجّر منها بعد النكبة، حاله كحال مَن جايله من الأدباء والشعراء مثل غسان كنفاني ومحمود درويش وغيرهم، الذين استقر بهم الأمر في لبنان. بقيت هذه الصورة في ذهني، وعززتها مشاركتي في ورشة الكتابة الإبداعية في مؤسسة الدراسات الفلسطينية التي كانت تحت إشرافه، وفيها قابلته شخصياً لأول مرة. كنتُ، قَلِقاً، أقلّب، في رأسي، أفكاري وأسئلتي الكثيرة التي حضّرتها لأطرحها عليه. وحدّثتُ نفسي: عن ماذا سوف أسأله؟ وهل أبدأ حديثي بالسياسة أم بالأدب أم بفلسطين؟ لا، لن أسأله شيئاً. لا بد لي من التزام الصمت، ومحاولة التعلم منه قدر الإمكان.
عندما دخل الأستاذ الياس قاعة الورشة، نظر إلى الجميع مبدياً إعجابه بعدد الحضور في الورشة، إذ كنا أربعة عشر مشاركاً ومشاركة، جئنا نشارك قصصنا، ونتعلم كيفية التعبير عنها أدبياً. وكان أول ما قاله: "أنا ما بعرف أكتب. نحن هون لنتعلم الكتابة مع بعض." في البداية، صدمني ما قاله. ولكني أدركت، لاحقاً، ما معنى ذلك. لم يرد للورشة أن تكون تعليمية بالمعنى الكلاسيكي، أي أنها لم تكن ورشة لتعليم منهج في الكتابة، تلزمنا باتباع أسلوب معين، إنما كانت ورشة قراءة ونقاش وتحليل، روينا فيها حكاياتنا وتجاربنا، ساعدنا خلالها الأستاذ الياس على اكتشاف الأسلوب المناسب لكتابة قصصنا، إذ كان يطرح الأسئلة على صاحب التجربة ويوجه له الملاحظات أحياناً، ويبدي إعجابه أحياناً أُخرى.
أذكر أني كنت تلقيت من الأستاذ الياس ملاحظات نقدية "لاذعة" على إحدى محاولاتي في الكتابة عن تجربتي. إلاّ إني لم أعلّق على ملاحظاته ولم أناقشه فيها كما كان يفضّل. لكنه، عندما رآني في نهاية الجلسة ذاتها، أقف متجهم الوجه، اقترب مني، ضغط على يدي وابتسم لي.
في الحرب
أيهم السهلي
الآن بينما تئن بلادنا تحت نير الحرب المستمرة منذ أكثر من عام، أتذكر الأستاذ الياس خوري في ورشة الكتابة الإبداعية. تحديداً في الفكرة التي تعلّمتها منه ولن أنساها على الإطلاق. وهي نقل الواقع كما هو، بجماله وقبحه، بكلامه الطيب وغيره.
تضمّن نصي في الورشة الذي حمل عنوان "سيناريوهات لحكاية طوني" بعض الشتائم التي تُسمع في الشارع عادة، وحين كنت أقرأ النص على مسامع المشاركين، وهذا أمر كان من طقوس الورشة، اعتبر بعض الزملاء أن هذه الألفاظ غير لائقة، وتسيء للكتابة. لكن الأستاذ الياس بعد أن ترك الجميع يقولون رأيهم، سألنا ألا تسمعون هذه الشتائم في الشارع، أجبنا جميعاً بلى. فقال حينها، الأدب ينقل في جانب منه الواقع، والشتائم ضمنه، والخيال يتأتى من الواقع، ولا يولد من نفسه.
ذكرتُ القصة السابقة، لأشير إلى أهمية هذا الدرس من هذا الروائي الكبير، فأنا ومعظم زملائي في ورشة الكتابة نسكن في بيروت أو في مدن قريبة. ولا بد لنا حين نكتب، أن نصف الحال كما هو، بصلافته وبشاعته، وأن نكتب ما يصيبنا في بلادنا/أجسادنا/أرواحنا، كأن نصف بشاعة اللحظة التي يُقصف فيها بناء. فربما مرّ أحدنا قربه قبل يوم أو يومين، أو ربما شاهد صورة شخص شهيد كان يعرفه. أو أن يلجأ أحدنا إلى كتابة قاسية، أو وضع شتيمة كبيرة للتعبير عن رفض الصمت القاتل أمام كل ما يحدث. ولولا ما تعلمناه في تلك اللقاءات، لكان بعضنا بقي على تحفظه، ولكانت ظلت الحكاية ناقصة، أو رومانسية أكثر من اللازم في وصف الحال السيء الذي تعيشه بلادنا.
رحل الأستاذ الياس أو العم الياس كما كان ينادينا ويحب أن ينادى، ولم يشهد بقية الحرب، أو نهايتها، ولم يشهد مدينته التي كتب عنها كثيراً، تُقصف مجدداً من إسرائيل. ولو أنه شهد ذلك لكتب المشهد على حقيقته، شعب يقاوم لا يستسلم، ونصر يؤخذ لا يُشترى.
الياس خوري: فلسطين وباب شمسها...
يوسف نعنع
كيف نكتب رواية وأنت الرواية وراويها؟
هل كتَبت فلسطين أم أن فلسطين كتبتك؟
أيها الفلسطيني الالتزام والوفاء... أيها الصديق والرفيق... رفيق الحرف والكلمة...
رسمت بكلماتك قضية فلسطين بمدنها وقراها وطيبة شعبها والأماكن الدينية والأثرية وعطرها وزهرها...
رافقت أبناءها على ثغور فلسطين في أرض الكرامة. في نهاية عام 2018، شاركت في ورشة للكتابة الإبداعية أقامتها مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، بعنوان "كيف نكتب سيرة ذاتية".
كانت الورشة تحت إشرافك. ولما قرأت إعلانها، سارعت للتقدم لها للمشاركة والاستفادة مما أعرفه عن جرأتك بالنص والحوار، وأسلوبك المتمرد على واقع الحال. ولا سيما أني حضرت وشاركت في نقاشاتك الأدبية والسياسية والفكرية أكثر من مرة.
في الجلسة الأولى، وحين تم التعارف ووصل دوري قلت: "يوسف النعنع أحضر كمستمع" حينها ضحكت وقلت لي: "مستمع، عليك أن تكتب"، فكانت مشاركتي الفعلية بالورشة بتحفيز وقرار منك.
كنا أربعة عشر مشاركاً ومشاركة، نلتقي مرة في الأسبوع، لساعتين، وعلى مدى ثلاثة شهور في مبنى المؤسسة، بحضور الزميلة بيرلا عيسى الباحثة في المؤسسة ومنسقة الورشة.
وضع كل منا مخططاً لنصه، وبدأنا جولة نقاش وحوار للنصوص، كنت واحداً منا، لم تُمْلِ علينا ما نكتبه، بل كنت بملاحظاتك تستفز مخيلتنا لنرتقي بنصوصنا، لتستوفي الفكرة حقها في التعبير.
"أنا أتعلم منكم" جملة رددتها أكثر من مرة، يا للتواضع.
تعمدت في الورشة تثقيفنا روائياً. فطلبت منا قراءة عدة روايات، وأدخلتنا بتمارين عدة، كتجريب إعادة كتابة أحد فصول القصة برؤية جديدة أو من زاوية جديدة. إلى جانب قراءة النصوص التي كنا نكتبها كمشاركين في الورشة، لتخضع هذه النصوص لملاحظاتنا نحن التلاميذ، وملاحظات المعلم الياس.
قرررت في مرة من المرات، أن تكون إحدى جلساتنا الأسبوعية في أحد المخيمات في بيروت، ووقع الخيار على مخيم برج البراجنة، كان الجو عاصفاً والأمطار تهطل بغزارة، سرنا في أزقة المخيم فرادى لضيق الممرات بين البيوت، كنا أحياناً نخفض رؤوسنا تجنبا لكابلات الكهرباء وأنابيب المياه المتدلية من المنازل.
جلسنا في "دار الشيخوخة"، وكان اللقاء دافئاً في المخيم بوجود بعض كبار السن، ممن ولدوا وعاشوا في فلسطين، كان المجال جيداً للاستماع لحكايات الأجداد. وهناك تناولنا عشاء فلسطينياً، كان أكلة "المسخن" عماد المائدة. غنينا، وتبادلنا هدايا بسيطة. كانت اللحظة الأكثر عاطفية حين تقدم منك الزميل أيهم حاملاً علبة صغيرة بسيطة، حضنتها بين يديك وفتحتها لترى فيها مجموعة من الحجارة، وقد أوضح بأن هذه الحجارة مجموعة من قرى ومدن فلسطين، وبعض رمال شواطئها. وأن كل حجر كُتب عليه اسم المكان الذي جمعت منه هذه الحجارة. ساد صمت وأغلقت عينيك، كأنك ذهبت في خيالك إلى حيث كتبت الكثير عن هذه الأماكن.
مرت شهور قليلة على هذا اللقاء في المخيم، وانتهت الورشة. وصدر الكتاب الذي احتوى نصوصنا، وأسميته أنت "حب في المخيم". وقد كان خير تعبير لك كان في تقديمك لهذا الكتاب، حين قلت "هذه النصوص تُقرأ كنافذة على مقاومة الألم بالحب ومحاولة لتحويل المخيم/المنفى إلى وطن، في انتظار أن يستعيد الوطن اسمه وأرضه"...
أستاذي ورفيقي وصديقي الياس....
ستبقى فلسطين على موعد معك...
وكما كتبت بالدم لفلسطين عضواً في الأمانة العامة للكتاب والصحفيين الفلسطينيين ها هي فلسطين تكتب لك بدم أبنائها باب شمسها.
[1] هو مشروع انطلق بمبادرة من مؤسسة عبد المحسن القطان (فلسطين) بالشراكة مع صندوق الأمير كلوز (هولندا).