في قطاع غزة، حيث الموت يحاصر الحياة من كل اتجاه، لا تزال الأمهات رمزاً للصمود في وجه حرب الإبادة التي لا تفرّق بين صغير وكبير؛ فبينما يتناثر الدمار في كل زاوية، تقف الأمهات كالحصون الحية، يحاولن حماية أبنائهن من مصير مجهول تحت القصف المتواصل والعدوان المتكرر. وفي ظل هذا الواقع، تضاف إلى معاناة هذه الأمهات معاناة جديدة، وهي التمزق بين أطفالهن الرضع وأولئك المصابين، إذ يضطررن إلى مغادرة غزة برفقة أبنائهن الجرحى للعلاج في الخارج، بينما يُترك الصغار وراءهن في قلب الحرب.
وتظهر هذه المعاناة بوضوح في قصص الأمهات، كأختي التوأم ريناد سامي ستوم التي واجهت قراراً صعباً ومؤلماً؛ فخلال حرب الإبادة التي شنتها قوات الاحتلال الصهيوني على غزة، قُصف منزلها في مخيم البريج وسط قطاع غزة في 16 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وأصيب ابنها أحمد البالغ من العمر عامين ونصف العام بشظية اخترقت عينه اليمنى واستقرت في عينه اليسرى. كما أُصيب زوجها محمود العمصي في قدمه إصابة خطِرة أدت لاحقاً إلى تدهور حالته الصحية، إذ كادت الإصابة أن تتفاقم وتتحول إلى غرغرينا بسبب نقص العلاج.
ونظراً إلى نقص الإمكانات الطبية في مستشفيات غزة المحاصرة، وخصوصاً في مستشفى شهداء الأقصى، الذي تم علاجهم فيه، فقد تم تحويل ابنها للعلاج في الخارج إلى دولة الإمارات، واضطرت أختي إلى مرافقته بنفسها بعد رفض السلطات السماح لحماتها بمرافقته. كان هذا القرار يعني ترْك رضيعها ذي السبعة أشهر، حسام، بلا أم في غزة، وسط أوضاع الحرب والقصف، لتواجه التحدي الصعب بين رعاية ابنها الجريح ومخاوفها على رضيعها الذي تركته وراءها. في 17 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، غادرت أختي مع ابنها المصاب إلى الإمارات، بينما تم تحويل زوجها إلى مصر للعلاج بعد أسبوع، ليبقى حسام وحيداً مع أهل والده، من دون والديه، في غزة.
وقد شارف العام على المرور منذ أن غادرت ريناد غزة، ولم ترَ رضيعها حسام منذ ذلك الحين، وخلال هذه الفترة العصيبة، حاولت جاهدةً أن تجد سبيلاً لإخراجه إليها؛ فناشدت الصليب الأحمر عدة مرات على أمل أن يساعد في لمّ شملها بابنها، لكن محاولاتها باءت بالفشل. وفي خطوة يائسة، قررت دفع مبلغ 5000 دولار، وهو المبلغ المطلوب للتنسيق مع مصر لكل فرد يرغب في مغادرة غزة بهدف تسهيل خروج ابنها، إلاّ إن أملها في لمّ الشمل تحطم مرة أُخرى عندما أُغلقت المعابر، ولم تتمكن من إخراجه من غزة، وهكذا، بقي حسام، الذي تجاوز عمره الآن العام ونصف العام، محروماً من حضن أمه، التي ما زالت تعيش مرارة الانفصال والخوف المستمر على مصيره.
وكما هو الحال مع ريناد، فقد واجهت شهد السرساوي، وهي أمّ فلسطينية، معاناة مؤلمة بعد نزوحها مع زوجها محمد جهاد مناصرة وعائلتهما من حي الشجاعية شرقي مدينة غزة في الساعات الأولى من الحرب. ونظراً إلى أنهم كانوا يعيشون على حدود الحي الأقرب إلى منطقة الخطر، فقد لجأوا إلى بيت أقاربهم في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، على أمل النجاة من القصف العنيف. لكن بعد شهر من النزوح، تم استهداف المنزل بثلاثة صواريخ من الطائرات الحربية الصهيونية، وهو ما أسفر عن استشهاد جميع مَن في المنزل، بمَن فيهم زوجها.
وعلى الرغم من هذا المصاب الجلل، فقد نجت شهد مع ابنها الرضيع ذي الستة أشهر، إلاّ إن ابنتها الكبرى فاطمة، ذات العامين، أُصيبت إصابة بليغة في يدها اليمنى؛ إذ تمزقت أوتار يدها بالكامل، وقرر الأطباء أن الحل الوحيد هو بتر اليد، نظراً إلى صعوبة الشفاء وعدم توفر الإمكانات الطبية في المستشفى الذي كان يعج بالجرحى، لكن شهد رفضت فكرة بتر يد ابنتها بصورة قاطعة، وكانت مصممة على الإبقاء عليها حتى ولو كانت غير قادرة على القيام بوظائفها الطبيعية، وتوسلت إلى الأطباء بحرقة ألاّ يقوموا بالبتر، وفضلت أن تبقى يد ابنتها حتى وإن كانت مجرد منظر بلا فائدة. وبعد إصرار وجهود مضنية، تمكنت من تحويل ابنتها إلى العلاج في الإمارات، وعلى الرغم من أن شهد كانت تأمل أن ترافق والدتها ابنتها فاطمة خلال رحلة العلاج، فإن السلطات رفضت هذا الطلب، وهو ما أجبرها على اتخاذ القرار الصعب بترك رضيعها في غزة تحت رعاية عائلتها، ومرافقة ابنتها في رحلة العلاج.
وفي النهاية، تمكّن الأطباء في الإمارات من ربط أوتار يد فاطمة، ونجت من البتر. ومع ذلك، فقد وجدت شهد نفسها ممزقة بين خوفها على ابنها الرضيع الذي بقي في غزة، وبين مسؤوليتها تجاه ابنتها المصابة، في مشهد يعكس قسوة الحرب وتحديات الأمومة في ظل أوضاعها القاسية.
وفي ظل هذه الأوضاع المروعة، تقف أمهات غزة أمام تحديات تفوق الوصف، وقرارات لا يمكن لأي قلب أن يتحملها. فكيف يمكن لأم أن تختار بين طفلها المصاب الذي يحتاج إلى علاج في الخارج ورضيعها الذي يبكي في أحضان الأقارب تحت القصف؟ هذا الواقع الذي فرضه الاحتلال الصهيوني على الأمهات هو أكبر من مجرد معاناة فردية؛ إنه نزْع للإنسانية وإهانة لكرامة الأمومة.
كل أم في غزة تحمل في قلبها جرحين؛ جرح الخوف المستمر على أطفالها، وجرح الفراق الذي فرضته الحرب. هذه الأمهات لم يخترن الفراق، إنما أُجبرن على ترك أطفالهن في لحظات كان يجب أن يَكنّ فيها إلى جانبهم، يحضنونهم ويحمونهم. لكن بين أروقة المستشفيات وركام المنازل، تظل قلوبهن مرتبطة بأطفالهن الذين تركنهم خلفهن.
إنها ليست مجرد قصص لأفراد، بل أيضاً هي صورة شاملة لمأساة شعب بأكمله. وبينما يواصل العالم صمته، تظل هذه الأمهات رمزاً للصمود والقوة. وفي معاناتهن، نجد أبلغ تعبير عن قسوة الحرب التي لا تفرّق بين أمّ وطفل، وعن الإبادة التي لا تستثني أحداً. تظل غزة، بأمهاتها وأطفالها، شاهداً على وحشية الاحتلال وصمود الإنسان الفلسطيني في وجه الظلم والإبادة.