A Document That Interrogates Memory
Date: 
November 07 2024
Author: 

عندما تقرأ اليوم خبراً وُثِّق سنة 1988 ويستثير داخلك مشاعر وذكريات الطفولة في سنة 2000، ستدرك حينها أنك تتحدث عن بنية ثابتة من العنف، وخط ثابت من الممارسات، لكن شكل الأدوات فيه متحول. وقد اصطادت وثيقة الممارسات الاستعمارية على مخيم الدهيشة، في بداية الانتفاضة الأولى سنة 1988، في أرشيف جمعية إنعاش الأُسرة، ذاكرة تحكم ممارستي المحكية اليوم عن طفولتي.

 

وثيقة "الممارسات الإسرائيلية ضد المخيمات: مخيم الدهيشة"، 1988

  

يبدأ تسلسل طفولتي بأصوات هتافات تنادي أم الشهيد "يا أم الشهيد نيالك ريت أمي بدالك"، وتزامناً معها، يعلَّق الدوام المدرسي، لنخرج مسرعين إلى الشوارع، ولا أحد يعلم من الشهيد/ة، وأين بيته/ها لكن شوارع المخيم تقود جسدك، كما لو أنها تستعجلك للّحاق بالتشييع، وأنت لا تتعلم ولا تكتسب هذه الممارسات، إنما تعيشها وكأنها وعي سابق لك.

وتعيش هذه الممارسة بصورة مركّبة، فمن جهة، تبذل جهدك للّحاق بموكب التشييع، ويكون صوتك حاضراً ومسموعاً، ولا يمكنك إلاّ أن تهتف وتردد التكبير باسم الله، حتى ولو أكل القهر قلبك، كي تُنزل الطمأنينة على قلب أم الشهيد، وليس لهذه الأم متسع من الوقت للحزن على هذا الفقد، فما إن ينتهي التشييع حتى تبدأ هي بمواساة أم أُخرى شاركتها هذه الحصة من الألم، وهكذا دواليك إلى أن ينتهي يومنا بكل هذه الجنازات المشيعة والمؤجلة.

يبدأ نهار آخر بصوت مآذن الجوامع، وأنا أكتب هذا الصوت وكأنما أسمعه في ذلك الوقت: "أمر عسكري، على جميع الرجال من عمر 14 حتى 65 التواجد في ساحة مدرسة ذكور الدهيشة"، ويتكرر هذا النداء مراراً وتكراراً إلى أن يبدأ الرجال في الاحتشاد إلى الشوارع، والسير نحو المدرسة بأصوات مهموسة فيها محاولة لمشاركة الحدث قبل وقوعه، كما يقوم بعضهم بمغادرة المخيم خفية للّجوء عند أقاربهم خارج المخيم، تجنُباً لكل الإذلال الذي ينتظرهم في هذا اليوم.

البرد شديد، وحتى لا أذكر الطقس، لكن أذكر شعوري بالبرد الشديد في تلك الأيام، وكان الرجال في نهاية اليوم بعد قضاء 10 ساعات في ساحة المدرسة بلا طعام أو شراب، أو سماح بأداء أي حاجة إنسانية، سواء لطفل احتُسب على الرجال في سن صغير، أو رجل كبير لا يقوى على هذا الذل والألم، ويبقون مشبوحين وقوفاً، وتمر الساعات، وأي رجل يحاول الوقوف بوضعية أكثر راحة يُضرب بهراوة على الجزء الخلفي من الركبة، ويُعد هذا الجزء من الجسم أكثر المناطق استهدافاً، حتى خلال السنوات الماضية التي تلت الانتفاضة الثانية.

وما إن تغرب الشمس حتى يتم السماح للرجال بأن يعودوا إلى منازلهم، تزامناً مع حظر التجول، وهكذا قُسّم يوم الرجال بين الشبح والإخفاء، ويبدأ الليل بمشاركة الألم، وحتى إن لم يشاركوه الرجال في بعض الأيام، فإنك تستطيع عند النظر في أعينهم وقراءة الإنهاك والتعب الجسدي والجوع والعطش وتورُم أقدامهم أن تتخيل ساعات الوقوف الطويلة، وغضبهم الشديد من الجوع والإذلال والعقوبات الجماعية.

في أيام المواجهات الشديدة، ومع ارتقاء عدد من الشهداء، يتم كسر كل أدوات القمع من شبح داخل المدارس، وكسر لحظر التجول، ويبدأ تشييع الجثامين، وأذكر هذه الحادثة، ويذكّرني بها العديد من الأشخاص؛ إذ تم تشييع 9 شهداء مرة واحدة، وكان عدد المشيعيين هائلاً، وفي لحظة التقاء الموت والحياة هذه، حلقت الأباتشي وقصفت المشيعيين، ومقبرة الشهداء، والمنطقة المحيطة بها.

وتعود الكرّة بين الشبح والإخفاء، ويتم تحديد بيوت الشهداء تمهيداً لنسفها - هدْمها - وكل بيت له آلية لهدمه؛ فمن البيوت ما يُزرع بالمتفجرات، ومنها ما يتم تفجيره بتقنية سحب الأوكسجين من البيت، ويسبق هذه العملية تكسير زوايا البيت، والتنكيل بمشهديته، وهذا كله في سياق التعذيب/العقوبة الجماعية، والتي تُعد وفق عقلية العسكر والعنف ضابطة، وتعيد سؤال جدوى المقاومة، وتفرض رقابة داخلية على الفعل المقاوم لتجعله محط تساؤل بشأن مصير العائلة، وهنا أيضاً المخيم.

وفي موازاة هذه العقلية، توجد ذاكرة جمعية، وألم وأمل جماعي لدى ساكني المخيم، يجعل ممَن هُدم منزله أن تكون كل البيوت بيته، وهذا التضامن العضوي عزز من قوة المخيم، وجعل من حالة الشهادة/الموت وحالة الهدم/التخريب/المحو مشهداً يمكن فهمه في سياقه، ويمكن التعامل معه وفق السياق والمصير المشترك، وهو ما جعل من استمرارية المقاومة واستمرارية وسائل العنف الاستعمارية المقابلة لها والمبنية عليها وتطورها في مكان قبول اجتماعي، مع وجود الحماية الاجتماعية والالتفاف العائلي للعائلات الواقع عليها الهدم.

نعود مرة أُخرى إلى الشبح والإخفاء، لكن في وقت يسبق ولادتي، في انتفاضة سنة 1988. وعلى الرغم من أنني لم أشهدها، ولم تكن لجسدي ذاكرة أمل وألم ومقاومة تجاهها، فإنني أستطيع الحديث عنها كمن كان في الميدان، وكان مشبوحاً في الطريق أو ساحة المدرسة، وأن أكون شاهداً لم يولد بعد، لكنه تشرّب نتائجها، وحُكم عليه بأحكام هذه المرحلة، التي تصل فيها ذروة التضحيات بترسيخ الاستعمار وتطبيعه ككيان.

فالذاكرة تورَّث كما الجينات، من أمك وأبيك ومعلميك، ومن شكل الشوارع، والبوابات الحديدية التي تحيط بالمخيم، ومن رسومات الجدران وشعارات تخليد الشهداء ومناداة الأسرى واستقبالهم، وهذه الاستمرارية لا تفصل جسدك المعاش عن الذاكرة قبل ولادتك. أذكر أحاديث الفرح والفخر بصواريخ صدام حسين، وكيف عبَّر الناس عن هذا الفرح بعدم اتباعهم لتعليمات الحماية، ووقوفهم في الشوارع، واعتلاء الأسطح تهليلاً بأي شكل ينتزع حصانة القوة من العدو.

وما أعاد هذه الذاكرة هو حضور الانتفاضة الثانية؛ "رجعنا إلى زمن ساحة مدرسة الوكالة وحظر التجول"، وتكرار هذه العبارات يجعل الأزمنة واحدة، والممارسات واحدة، وكذلك المقاومة والأمل واحداً، وهذا التكثيف الزمني يكشف عن حالة من وعي الجسد لتاريخيته، وللممارسات التي يفترض القيام بها، والمجبور بفعلها.

فالإخفاء في زمن الانتفاضة الأولى كان خلال ساعات المساء؛ من التاسعة مساءً حتى العاشرة صباحاً، ومن ثم يتم حظر التجول، ومرة أُخرى هذا الشبح والإخفاء هو وسيلة لضبط الميدان وشوارع المخيم، ولمشهدة العنف أمام الجموع تحت إطار "جسد معذَّب يربي الجميع ويردعهم"، وهذا التبدل في توقيت الإخفاء والشبح بين الليل والنهار يرجع إلى ضرورة إخلاء الشوارع والميادين من الحياة، والقدرة على العيش، ومن إمكان تحقيق أي فعل مقاوم.

وهنا استيقظت ذاكرتي على صوت أوتار عود عمي الصغير وأصحابه بأغنية: "سجان أبوك يا سجن مفارق أحبابي.. واللي ما عنده حزن يبكي على حالي.. حطوني بوسط السجن بين الحديد والحيَّل.. وحرموني شوف الأهل حتى الليل.. لصعد لراس الجبل واشّعل الفانوس.. عمري قضيته بحزن عمري قضيته حبوس." عند كتابة الكلمات بهذا الشكل، أصبحت أدرك الآن عمق تجربة أجسادهم في الانتفاضة الأولى، وعلاقتهم بالليل والحبس والشبح والإخفاء، والتي تُعتبر على مدى اعتبارها شكلاً من أشكال تمثيل الألم، إلاّ إنها وسيلة صمود جمعية لطالما تُغنى بصوت جماعي في كل سهرة.

إن هذا المخيم وُعّيت على اسمه "معتقل جماعي"؛ إذ كان محاصراً بأسلاك شائكة حد الاختناق، مع وجود بوابات ضخمة على مداخلة، وإلى جانبها بوابة صغيرة تسمى "المعاطة" في لغة المخيم، واعتُقد أن هذا الاسم مرتبط بمحلات الدواجن، إذ كان يتم "نتف" ريش الدجاجة عنها بعد ذبحها عبر دورانها في آلة تتشابه مع هذه البوابة، وهذه الآلية التي كان يعتقد فيها الاحتلال بقدرته على هندسة وعي أبناء المخيمات وصوغه بالسماح لهم بالمرور عبر معبر "معاطة"، فتصهر وعيهم بقدرتهم على تقرير سلطتهم على حياتهم وحركتهم والوصول إلى مصادر رزقهم، فتُفتح هذه البوابة في حالة السكون، وتُغلق مع إجراءات أمنية مشددة، ومصادرة للهويات في حالة غليان الأحداث الأمنية.

ولعل هبّة أيار/مايو 2021، والتي تُعرف بـ "هبّة الكرامة"، كان لها أثر كبير في مواجهتنا لذاكرة الألم هذه، وتحديداً في اللحظة التي أعلنت فيها حركة المقاومة في غزة حظر التجول على المستوطنين، وتحديداً في منطقة تل أبيب، وذلك البيان كان كفيلاً بتحرير مشاعر الألم المكثفة التي بقيت عالقة منذ أكثر من 20 عاماً في ذاكرتنا، وتوقفت حينها أصوات المآذن تنادي في ذاكرتها على أطفالنا ورجالنا بالنزول إلى الشبح وحظر التجوال.

Read more