Cultural Genocide and Attempts to Erase Palestinian Identity
Publication Year: 
Language: 
Arabic
Number of Pages: 
10

مقدمة

تشكل الثقافة أهمية بالغة لأي أمة؛ لذلك دأب الفلسطيني على بناء منظومة ثقافية واسعة لا تسمح بتجاوز واقعه وظروفه وأحلامه، مكانياً وعملياتياً، إذ ركز الأجداد على تراث غني بأسراره وتجلياته التاريخية، لمختلف الفنون والآداب، "لدرجة أن أصبح الانتماء لهذا التراث وتعزيزه وإنعاشه جيلا ًبعد جيل، رسالة ثقافية مقدسة توحدت حولها كل الفنون والآداب، متجاوزةً به حدوده الزمانية والمكانية إلى فضاءات العالم الأوسع."[1]

لذلك ظل المشروع الثقافي الفلسطيني في حالة اشتباك دائم، وخصوصاً مع قيام منظمة التحرير الفلسطينية بتأسيس دائرة الإعلام والثقافة، وما تلا ذلك من تأسيس اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، ثم وزارة الثقافة مع قيام السلطة الفلسطينية عام 1994، بالإضافة إلى بناء العديد من المؤسسات الثقافية المهمة.

ولأن غزة تشكل صمام الأمان، والحاضن الأول للثورات والانتفاضات والمعارك، كان لا بد من تسليط الضوء على واقع الثقافة في قطاع غزة. فمع فعاليات ونشاطات العمل المؤسساتي الرسمي خلال العقدين المنصرمين، انتشر مع مواقع التواصل الاجتماعي تشكيل مبادرات شبابية ونخبوية متعددة، مثل مبادرة شغف الثقافية، وتجمع قرطبة الثقافي، وغاليري غزة، ومجلة 28، وصالون طوقان الأدبي، وصالون نون الأدبي، وفريق سميح القاسم الثقافي، وغاليري جمال أبو القمصان، حيث تم عقد العديد من النشاطات والفعاليات المهمة، شملت الفن والموسيقى والأدب.

و"ربما عانى هذا المشهد إشكالية تأسيسية، وهي أنه استمر في ʾالعرضʿ ولم يقدّم نقداً كما لم يتطوّر كثيراً في الإنتاج، إلاّ إنه - وفي ذات الوقت - كان لهذا ʾالعرضʿ تأثير واسع في جيل الشباب، يتوازى مع نشاطه الكتابي على مواقع التواصل الاجتماعي، ليشكل تدريجياً قوة ضاغطة على بعض الأفكار والممارسات المقيدة والحاظرة في مجتمع غزة لكنه في ذات الوقت لم يكن محمياً، ولم يكن يلقى دعماً إلاّ من طاقاته الشابة، والمبادرات الفردية والتطوعية."[2]

وخلال السنوات الأخيرة، تم التعاون، بشكل مباشر وغير مباشر، بين المثقفين في قطاع غزة والوزارة في رام الله، وقد فُتح الباب مؤخراً أمام مزيد من النشاطات الثقافية، ما جعل من غزة في السنوات الأخيرة خلية نحل لا تتوقف، بل وزيادة على ذلك، أصبحت مشاركة المثقفين والأدباء والفنانين من رام الله بفعاليات داخل القطاع كثيرة، والعكس، حتى جاء السابع من أكتوبر.

الحصار الثقافي: إبادة قبل الإبادة

في إبان الانتفاضة الأولى عام 1987 قام الاحتلال الإسرائيلي بمعاقبة كل من يكتب لفلسطين من خلال المطاردة أو الاعتقال الإداري أو التعذيب أو فرض الإقامة الجبرية، لذلك صار نشر أي قصيدة تهمة، وهو ما دفع كثيرين من الأدباء إلى الكتابة بأسماء مستعارة، مثل إبراهيم الزنط الذي استخدم اسماً مستعاراً هو غريب عسقلاني، وما دفع شعراء آخرين إلى الفرار، كالشاعر سليم النفار الذي تم اغتياله بداية هذه الحرب على قطاع غزة، كما تم منع إدخال الكتب إلى القطاع، ومُنع الكتّاب والأدباء والفنانين من السفر للمشاركة في أي من الفعاليات والمؤتمرات الدولية، إذ كان يتم اعتقالهم عند معبر رفح في حينه.

ثم مع مجيء السلطة الفلسطينية، حاول الاحتلال الإسرائيلي إغراق المواطن الفلسطيني بتفاصيل الحياة اليومية من أجل السيطرة على العقل وتحريكه بالشكل الذي يسعى إليه، لذلك ظلت الكتب تحت الرقابة والوصاية الإسرائيلية، وتم منع الكثير منها من الوصول إلى أراضي السلطة الفلسطينية، كما تم التحكم بطبيعة معارض الكتب وآليات المشاركة فيها. وعلى الرغم من ذلك، فقد استطاعت وزارة الثقافة في حينه تشكيل حالة ثقافية واعدة وقوية في التأثير على مثقفي العالم، من خلال المشاركات الدولية.

لكن بعد سيطرة حكومة حركة "حماس" على قطاع غزة، عاد الاحتلال إلى حصار القطاع بشكل تام، وصار إدخال الكتب أكثر صعوبة من إدخال الطعام، ومُنع الفنانون والأدباء من المشاركة في المؤتمرات الدولية، وجرى منع إقامة معارض الكتب، واستُهدفت المطابع ودور النشر والمكتبات العامة والخاصة، على الرغم من المحاولات الفردية التي أظهرت إيمان الفلسطيني بقدرته على تجاوز الاحتلال والحصار.[3]

ولأن دولة الاحتلال شعرت بقدرة الإنسان الفلسطيني على صناعة الأمل وتجاوز الحصار، فقد قام جيش الاحتلال بمهاجمة المؤسسات ذات التأثير العميق في السياسة الثقافية الفلسطينية في قطاع غزة، حيث استهدف المكتبة الوطنية إبان عدوان عام 2008-2009، مع أن المبنى كان قيد الإنشاء في منطقة أنصار (الكتيبة)، وهو مبنى متعدد الطوابق والأغراض، إذ تم تجهيز المسارح والمكتبات والقاعات المتعددة للفنون والمعارض وغيرها. ثم في آب/أغسطس 2018، قام الاحتلال بتدمير مسرح ومبنى مؤسسة سعيد المسحال للثقافة والعلوم بستة صواريخ من طائرة F16، وأُصيب في الاستهداف أكثر من 24 شخصاً، جلهم من النساء والأطفال، كرسالة مفادها أن أي حراك ثقافي سيجابه ويواجه بقوة غاشمة من دون الاهتمام بالمستهدفين.[4]

الحرب على غزة عام 2024 واستهداف الإنسان والبنيان

لو نظرنا في ظروف اعتقال الكاتب وليد دقة، الذي اغتيل داخل سجون الاحتلال الإسرائيلي، لأدرك القارئ حجم الرعب الذي سيأتي لاحقاً، فمَن الذي سيمنع هذا الجيش غير الأخلاقي، والذي يضرب بعرض الحائط القوانين الدولية والإنسانية التي تتعلق بحقوق الإنسان، من استهداف النخب الفلسطينية من الأدباء والفنانين؟

فقد عملت قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي وفق استراتيجيات تغييب النخب واستهدافها، من خلال استهداف الإنسان والبنيان، وتم التوافق على تحقيق ذلك داخل الكابينيت الإسرائيلي المصغر، لما لتلك النخب من تأثير على الأصعدة كافة، المحلية والعربية والدولية.

وبين الشهداء الذين تم اغتيالهم في إبان هذه الإبادة: الروائية هبة أبو ندى الحاصلة على جائزة الشارقة للرواية العربية، ونور الدين حجاج أحد مؤسسي مبادرة شغف الثقافية، الروائي الذي كتب في وصيته ما يوجع الأحياء حين قال: "ساعي البريد لن يأتي في ظل القصف المتواصل، والصحف لن تحمل أي خبر جديد، بل ستكتفي بمانشيت متكرر: ʾالشمس لم تعد تشرق، بسبب الرماد الناتج عن تدمير كل المدينةʿ، لكن ربما يصدر خبر موتي في النسخة القادمة"، وكأن نور كان يستشرف موته، وهو الشاب العائد من الهند تلبية لنداء أمه التي تندب حظها الآن. كذلك تم استهداف أكثر من 25 كاتباً وفناناً آخرين، بحسب إحصاءات وزارة الثقافة في تقريرها المعنون "التقرير الأولي الرابع حول أضرار القطاع الثقافي"، ومئات الصحافيين، بحسب إحصاءات المكتب الحكومي الإعلامي بغزة، وبين تلك الأسماء، الصحافي البارز مصطفى الصواف، وبلال جاد الله مؤسس بيت الصحافة، ورئيس الجامعة الإسلامية سفيان تايه، والفنانة الشابة هبة زقوت، والكاتب عبد الله العقاد، والروائي والشاعر عمر أبو شاويش، والفنان الساخر علي نسمان، والفنانة المسرحية إيناس السقا، والكمنجاتية لبنى عليان، والمغني يوسف دواس، والفنان التشكيلي محمد قريقع، والمسرحي غازي طالب، والمفكر الشاعر رفعت العرعير.

ومن خلال تتبع هذه الأسماء وغيرها، يمكن ملاحظة أمور مهمة، وهي أن الاحتلال قام باستهداف جميع المثقفين بمختلف ألوانهم السياسية وتوجهاتهم الفنية؛ فقد استهدف الكاتب والصحافي والمغني والموسيقار والفنان التشكيلي والمسرحي والأكاديمي وغيرهم، من دون أن يأبه لأعمارهم، فبعضهم كان في ريعان شبابه والبعض الآخر في آخر أيامه، وهو ما يؤكد تعمد الإبادة بحق كل النخب العاملة في قطاع غزة، بكل ألوانها السياسية والفكرية والدينية.

استهداف البنيان وإبادة الذاكرة

لم يقتصر استهداف الاحتلال الإسرائيلي على الإنسان وأحلامه الخاصة فحسب، بل عمد إلى تدمير كل ما يمكن أن يعيد إلى الفلسطيني شغفه وأمله بمستقبل واعد ومشرق، فذهب إلى ما هو أكبر من بيوت وشقق الأدباء والفنانين والأكاديميين، إلى تدمير الجدران واللوحات التي رُسمت عليها الجداريات في شوارع قطاع غزة، واستعاض عنها بكلام بذيء كتبه جنود في مقتبل العمر، يهددون الفلسطينيين بالموت الزؤام أو يعلنون أنهم قاموا باغتصاب نساء فلسطينيات، وهو ما تم تصويره ورصده من كاتب هذا التقرير عن جدار مدرسة عدنان العلمي في منطقة أرض الغول في حي النصر ومناطق أُخرى كثيرة جداً.

ولأن سياسة الاحتلال الممنهجة تقتضي إعدام الثقافة والهوية الفلسطينية، قام بتدمير النصب التذكارية في قطاع غزة، مثل تمثال الجندي المجهول الشهير في حي الرمال، وتمثال العنقاء وسط مدينة غزة، والنصب التذكاري للفنان جهاد عسقول في دوار الشيخ زايد، بعنوان المفتاح والعودة.

تلا ذلك تدمير المباني الأثرية والمتاحف، مثل قصر الباشا، ومتحف المتحف، ومتحف البادية شرق مدينة غزة، ومقام الخضر بدير البلح، ومتحف العقاد بخان يونس، وتل العجول، وتل رفح الأثري، واستهداف ميناء الأنثيدون والكنيسة البيزنطية في مخيم جباليا، وموقع تل أم عامر، وتل السكن، وتل المنطار التاريخي، الأمر الذي يمكن من خلاله فهم عقلية الدولة الإحلالية التي تسعى إلى كي عقل المواطن الفلسطيني في غزة، وإلغاء فكرة الوطن، من خلال تدمير كل ما سيعتمل لاحقاً في ذاكرة الأجيال القادمة.

كذلك قامت طائرات الاحتلال، لاحقاً، باستهداف بيوت ومبانٍ تاريخية، مثل بيت السقا الأثري، وبيت ترزي، وسباط العلمي، وهي الأماكن التي احتضنت الأمسيات الشعرية واللقاءات الفنية ونشاطات كثيرة متنوعة. كما تم استهداف حمام السمرة الأثري، الموغل في القدم، وسوق الزاوية التاريخي، ومقر بلدية غزة الذي تشهد جدرانه على الأصالة والعراقة، بالإضافة إلى قلعة برقوق في خان يونس التي تم تدمير جدرانها بالكامل. علماً بأن الاحتلال لم يكن يفرّق بين دين وآخر، إذ كان يسير ضمن استراتيجية واضحة، وهي إبادة التاريخ الفلسطيني وإعدام الهوية الأساس له من دون مراعاة للمشاعر الدينية للمسلمين أو المسيحيين في قطاع غزة أو أي مكان آخر، حيث تم تدمير المسجد العمري بالكامل، وهو المسجد الذي حوله البيزنطيون إلى كنيسة في القرن الخامس ميلادي، ثم حوله المسلمون إلى مسجد بعد الفتح الإسلامي في القرن السابع، كما تم تدمير مسجد السيد هاشم الذي يحتضن قبر جد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكنيسة القديس برفيريوس، ما يوضح فكرة إبادة الماضي بكل تفاصيله الدينية والتاريخية.

ولم يتوقف هذا التدمير عند الماضي، بل سعى لإبادة الحاضر من خلال استهداف الحدائق العامة، والتي تحول بعضها الآخر إلى مقابر؛ فقد تسببت هذه الإبادة بقتل عدد كبير جداً من الناس لم تعد تتسع المقابر لدفنهم، إذ جرى دفن أكثر من جسد داخل القبر الواحد. وتم تدمير حديقة بلدية غزة العامة في حي الرمال، وهي الحديقة الأكبر والأجمل في القطاع، وتحولت متنزهات المخيمات إلى مقابر، مثل متنزه مخيم الشاطئ، ومتنزه بيت لاهيا وبيت حانون، حتى حدائق البيوت أصابتها تلك اللعنة.

ولعل استمرار الإبادة أخذ لاحقاً منحنى آخر، إذ انتقل من العام الشعبوي إلى الخاص النخبوي، ومن المتنزه والحديقة إلى المعرض الفني والغاليري والمكتبة العامة؛ فقد استهدفت طائرات الاحتلال مبنى محترف شبابيك وغاليري التقاء، لما لهما من أهمية كبيرة جداً لدى الفنانين التشكيليين في قطاع غزة، لاهتمام هذين الجسمين بتقديم المنح الفنية، وإقامة المعارض، ودعم الشبان في شتى الفنون التشكيلية والبصرية. تُضاف إليهما جامعة الكلمة التي نشأت حديثاً في غزة، إذ تم تدمير المبنى بالكامل، كأن الاحتلال استهدف ما هو أكبر من الجدران، بل الألوان والأقلام واللوحات الفنية التي تقدر بملايين الدولارات لفنانين مثل شريف سرحان، وباسل المقوسي، وماجد شلا، ورائد عيسى، ومحمد الحواجري، ومحمد أبو سل، وسهيل دهمان وآخرين.

وبالتراتب، اتجه الاحتلال إلى استهداف المكتبات العامة ومكتبات الجامعات وإحراقها أو تدمير مبانيها بالديناميت، كما جرى مع مكتبة بلدية غزة العامة، ومركز رشاد الشوا الثقافي، ومكتبة ديانا تماري صباغ، ومركز الثقافة والنور، ومركز القطان للطفل، ومكتبة بلدية خان يونس، ومكتبة بلدية رفح، ومكتبة جمعية الهلال الأحمر، ومكتبة جواهر لال نهرو في جامعة الأزهر، ومكتبة جمعية الشبان المسيحية، وغيرها من المكتبات التي لا يمكن حصرها إلاّ بعد انتهاء هذه المقتلة العظيمة بحق الإرادة والإنسان الفلسطيني.

ولم يتوقف الدمار عند المكتبات العامة، بل اتجه نحو المكتبات الخاصة للكتّاب والأدباء والفنانين، وصولاً إلى دور النشر، مثل مكتبة سمير منصور، ومكتبة الفارس (اليازجي)، ومكتبة الشروق، وصولاً إلى دار الكلمة. وقد عمد جيش الاحتلال لاحقاً إلى تدمير المطابع وحرق الأجهزة وآلات الطباعة، كما جرى مع مطبعة الهيئة الخيرية في مبنى رشاد الشوا الثقافي، ومكتبات النهضة والوسيم والنعيم والنبراس والتقوى وغيرها، لضمان عدم قدرة الفلسطيني المحاصر على الكتابة والنشر داخل قطاع غزة من جديد.

يُذكر أن الاحتلال قام أيضاً بتدمير المركز الثقافي الاجتماعي الأرثوذكسي العربي، ودار الشباب للتنمية والثقافة بمخيم جباليا، وتجمع قرطبة الثقافي، والسنونو للثقافة والفنون في جوار مستشفى الشفاء، ومركز غزة للثقافة والفنون، والجمعية الفلسطينية للتنمية وحماية التراث، وقرية الفنون والحرف، وجمعية الوداد للتأهيل المجتمعي، ومعهد كنعان التربوي الإنمائي، وجمعية حكاوي وميلاد، وغيرها من المؤسسات التي تشكل ثقلاً للمشروع الثقافي النهضوي الفلسطيني.

وما سبق ذكره يُظهر جلياً رغبة الاحتلال في كي وعي المواطن الفلسطيني في قطاع غزة، وفي بقية أصقاع الوطن في الضفة والداخل المحتل، وفي تثبيت ثقافة جديدة، بتاريخ مزور ومزيف، وهو ما يمكن استشراف فشله نتيجة المواقف المحلية والعربية والدولية.

التعاطف الثقافي والفني مع فلسطين

لا يمكن تجاهل المواقف الدولية والعربية الموالية والمناصرة لفلسطين، مثل ثورة الجامعات الأوروبية والأميركية التي يقودها أعضاء مجالس الطلبة، والصحف العالمية التي ركزت على حق الفلسطينيين في التحرر، بالإضافة إلى اهتمام دور النشر العالمية بما يدعم حق الفلسطينيين في العيش بكرامة، والعمل على مشاركة الكتب المناصرة لفلسطين في معارض الكتب الدولية، والعروض الفنية والمسرحية في محطات المترو والباصات وعند مفترقات الطرق في عدة بلدان غربية.

وعلى صعيد المواقف الشخصية، فقد عبّر كثير من الفنانين عن معارضتهم للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين، مثل سيلينا غوميز التي كتبت على صفحتها على إنستغرام: "صلوا من أجل غزة"، وكذلك الزوجان بينيلوبي كروز وجافير بارديم، اللذان حثا الاتحاد الأوروبي على إدانة الهجمات ضد الفلسطينيين، وروجر ووترز الذي حمل علم فلسطين وقاد حركة "فنانين يرفضون العزف في إسرائيل"، وراسل إدوارد الذي دعا أكثر من مرة إلى مقاطعة إسرائيل، والفنان الشهير مارك روفالو الذي يعتبر من أشد المؤيدين للقضية الفلسطينية، وداني جلوفر، وإيما تومسون، وكيندل جينر، وجونثان كلارز، وبريان إينو، واللاعب الشهير كريستيانو رونالدو الذي رفض تبادل القميص مع لاعب إسرائيلي، وكرر أكثر من مرة تضامنه مع فلسطين.[5]

وفي حفل الأوسكار لهذا العام مشى على السجادة الحمراء فنانون يضعون دبابيس حمراء من أجل وقف إطلاق النار في غزة، وقد وقعوا عريضة وجهوها إلى الرئيس الأميركي جو بايدن يحثونه فيها على وقف إطلاق النار في غزة، علماً بأن تظاهرة كبيرة لمتضامنين مع غزة جرت أمام مسرح حفل الأوسكار، فتأخر افتتاح الاحتفال خمس دقائق.[6]

ولعل ما يمكن فهمه من خلال حراك التضامن النوعي في شتى المجالات، يؤكد أن إسرائيل التي عمدت إلى تدمير الإنسان وإنهاء القضية الفلسطينية، هي نفسها التي أعادت القضية الفلسطينية إلى مربع الصدارة وأثارت اهتمام الأجيال الغربية الجديدة للتعرف على القضية الفلسطينية وحق الفلسطيني في الحرية.

معززات الصمود الثقافي وتجاوز الإبادة

لا يمكن إغفال دور المؤسسات الرسمية وغير الرسمية والهيئات والأفراد في نشر الرواية الفلسطينية، لكن ذلك للأسف بات محدوداً بشكل كبير بسبب الميزانيات الضعيفة وتجاهل دور المثقف، إذ إن السلطة الفلسطينية ووزارة الثقافة واتحاد الكتاب وكذلك السفارات والمكاتب التمثيلية "الملحق الثقافي" لم يقوموا بما هو مطلوب منهم تجاه تعزيز حضور القضية الفلسطينية في أوساط النخب العربية والعالمية، وعليه لا بد من تعزيز الحضور المحلي أولاً، من خلال تحقيق المصالحة الثقافية على الأقل، وبناء جسور تفاهم مع جميع الفرقاء داخل قطاع غزة، لتعزيز البنية الثقافية في القطاع، التي دُمرت بفعل آلة الحرب الإسرائيلية، وإعادة بناء المكتبة الوطنية، وكذلك المؤسسات والمسارح الأُخرى. ومن ثم العمل على الدبلوماسية الثقافية، من خلال إقامة المعارض الفنية والأمسيات وإصدار الكتب لتعريف الشعوب، بلغة الفن والأدب، على الواقع المزري داخل قطاع غزة والأراضي الفلسطينية. وعلى السلطة الفلسطينية زيادة حصة وزارة الثقافة من التمويل، وعلى منظمة التحرير الفلسطينية زيادة حصة اتحاد الكتاب واتحاد الفنانين التعبيرين من التمويل أيضاً، كما يترتب على وزارة الخارجية زيادة حصة الملاحق الثقافية في المكاتب التمثيلية والقنصليات.

كذلك على السلطة الفلسطينية تعزيز نشاطات ثقافة المقاومة، وإرسال الكتّاب والأدباء للمشاركة في النشاطات والفعاليات، مع إهداء تلك المؤسسات والبلدان الثوب الفلسطيني والحطة واليرغول، وتدريب الأجيال الجديدة على الدبكة ودعمهم للمشاركة في الخارج، لتصبح تلك الأغنيات والرقصات أيقونة عالمية تمنح المشاهد رغبة في معرفة أصل تلك الفنون، بالإضافة إلى إطلاق المسابقات والجوائز الدولية التي تتعلق بالفن والسينما والمسرح والآداب والفنون التشكيلية.

وعلى الجامعات الفلسطينية تسليط الضوء على الإبادة الثقافية من خلال استهداف النخب العالمية وأعضاء مجالس الطلبة، واعتماد مناهج تحفز الأجيال القادمة على إنتاج شتى أنواع الفنون والآداب. وأيضاً على المؤسسات المحلية والعربية والدولية إعادة بناء المكتبات الوطنية وقصر الثقافة مجدداً في قطاع غزة حالما تنتهي الحرب، وتعزيز أواصر التعاون بين وزارة الثقافة والمؤسسات ذات العلاقة في الخارج، ومحاولة نشر الكتب المحلية وترجمتها وإعادة نشرها في دور نشر عالمية، إذ يمكن إطلاق مبادرات ومشاريع ترجمة الأعمال الأدبية لدى خريجي آداب اللغة الإنكليزية في الجامعات الفلسطينية. كما على وزارة الخارجية مطالبة اليونسكو رسمياً بحماية التراث الفلسطيني من التهويد، والوقوف عند دورها تجاه الآثار والمباني التاريخية والأماكن المقدسة، وعليها أن توجه رسائل إلى جميع المؤسسات ذات العلاقة بوقف الإبادة الثقافية وتدمير الجامعات والمكتبات والبنى الثقافية، وإظهار بشاعة الاحتلال الذي يمارس أقسى أنواع التطهير العرقي والإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.

ختاماً، فإن مستقبل الحركة الثقافية في قطاع غزة يواجه مصيراً بالغ الخطورة مع تدمير جميع المقدرات البشرية والبنية التحتية في القطاع، وإن العمل الجمعي والبنيوي يحتاج إلى رص الصفوف والتكاتف وجمع الأواصر كي لا تفنى الثقافة، لأن انهيار الهوية يعني اغتيال الأمة، ولذلك لا بد من تنفيذ تلك التوصيات من خلال المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، وعلى رأسها المؤسسات الأهلية، والاتحادات، والنقابات، والجمعيات، وحماية المثقف بدعمه مادياً ومعنوياً، لأنه أول مَن يقاوم وآخر مَن ينكسر.

 

[1] "ثقافة فلسطين، وقائع الشرق الأوسط وشمال فلسطين"، موقع Fanack الإلكتروني.

[2] كريم أبو الروس، "الثقافة في غزة، من الخلق إلى الاغتراب"، موقع "عرب 48" (2019).

[3] من حوار بين الكاتب والناشر عاطف الدرة، صاحب دار الكلمة للنشر والتوزيع، غزة، 2023.

[4] "تدمير مؤسسة المسحال الثقافية، تدمير ممنهج"، "الجزيرة نت" (آب/ أغسطس 2018)

[5] "مشاهير العالم يناصرون غزة في وجه إسرائيل"، "القدس العربي"، 3/11/2023.

[6] المصدر نفسه.

1
Author Bio: 

يسري الغول: روائي فلسطيني يعيش في غزة.