يذهب الشاعر العربي إلى قصيدته مثقلاً بالخيبات والجروح، ويحمل على عاتقه ذاكرة طويلة من الألم المديد، فهو الشاهد على حرب مسعورة اشتعلت في غزة لتصل نيرانها إلى لبنان، مكملة بذلك مسيرة الوجع الممتدة بين شعوب عربية تعانق بعضها في الألم قبل الفرح؛ هذه الشعوب التي تجسد بمعاناتها وصبرها وهن الأمة العربية وموت الضمير العالمي الذي لم يشيَّع بعد، ليبقى محل مراوغة ومناورة تتغذى عليه خطابات زائفة عن السلام والاستقرار، تُستدعى كلما اقتضت المصالح الدولية ذلك. والشاعر العربي اليوم، في ظل هذه الفوضى التاريخية والسياسية، يقف أمام مسؤولية إنسانية قومية عظمى لا مفر منها، فالصمت في هذه اللحظة التاريخية عار، والحياد خيانة للإنسان قبل أن يكون خيانة للانتماء العربي، وهنا لا يجد الشاعر مكاناً للهروب أو الصمت لأن ذلك من باب "التولي يوم الزحف"، فالقصيدة أصبحت معادلاً موضوعياً للألم والغضب، ولحياة العربي المقهور الذي يعاني جرّاء ويلات الحرب والنزوح المتكرر. هذه القصيدة التي تخرج من قلب التجربة والمرارة ليست مجرد نص أدبي بقدر ما هي شهادة على واقع مأساوي ومصير تراجيدي لأبطاله، ومحاولة لإعادة تشكيل وعي جديد ينظر إلى ما بعد النكسة العربية الجديدة، وإلى أفق عربي يبحث عن هوية وجوهر ومعنى.
إن الشعر في هذه المرحلة التاريخية هو وعي جديد لمستقبل الأمة، ولم يعد فقط وسيلة للتعبير الجمالي، بل أيضاً أصبح وسيلة للبحث الدؤوب عن الانتماء ومعناه، وعن موقف الشاعر من الحاضر والمستقبل؛ فالقصيدة الآن هي أداة من أدوات الوعي، ولها دور محوري في تشكيل المستقبل وإعادة تشكيل التاريخ انطلاقاً من الواقع، والشاعر العربي المعاصر يدرك أن المهمة الملقاة على عاتقه تتجاوز حدود الشكل الفني إلى فلسفة جديدة ترتبط بالوظيفة الإنسانية للشعر ودوره في التفاعل مع الواقع والمفاهيم الإنسانية المتعددة. فما يجري اليوم في العالم العربي من انهيار لقيم وصعود لأُخرى، ومن تغيرات في الأيديولوجيات والولاءات، ومن محاولات لإعادة تشكيل الخرائط والقناعات، يضع الشاعر أمام تحدٍ كبير. وبهذا فالشعر حتمية تاريخية، وضرورة ثقافية تتجاوز ما هو مألوف إلى ما هو جوهري، ويتغلغل في أعماق الإنسان المعاصر ليصبح جزءاً من وعيه بأوجاعه وآماله، وليشق طريقاً نحو مستقبل الإنسان العربي الحر.
وقد سألني أحد الأصدقاء من خارج غزة: "كيف تستطيع الكتابة في هذه الأوضاع؟ كيف يمكنك أن تكتب تحت النار؟"، فأجبته ببساطة: "أنا أخوض حرباً وجودية، والكتابة برهاني الوحيد على أنني لا أزال حياً." هذه الإجابة العفوية التي خرجت من قلبي أشعلت في داخلي تساؤلات عميقة عن وجودي في غزة في زمن الحرب، وعن معنى الكتابة تحت هذه الأوضاع القاسية.
إن القصيدة التي أكتبها الآن لا تخضع للتقنيات بقدر ما هي نوع من المعاناة، ومحاولة لاكتشاف الذات باللغة، وهي بحث دائم عن فرادة التجربة، وعن إدراك الواقع بوعي وعاطفة متقدة، وبالنسبة إليّ، فهي موقف، والموقف هنا هو جوهر الوجود، فالشاعر لا يتحقق وجوده إلاّ عبر موقفه من الحياة، والحرب، والظلم، والأمل أيضاً.
لذا، فالشعر الحقيقي ينبع من الداخل، ويرتبط بالتجربة الذاتية، والمعاناة، وبتلك اللحظات التي تلامس إنسانيتنا. هذا المفهوم للشعر هو ما يلهمني ويحفزني على الكتابة؛ فمهمتي هي إعادة صناعة الأشياء، وإنتاجها من جديد بطريقة لغوية تؤثر في القارئ، وتجعله يشعر بعمق التجربة التي أعيشها، ولطالما استهوتني الكتابة عن هوامش الحياة، وعن الزوايا التي لا يلتفت إليها الآخرون.
أريد أن يعرف القارئ أن الكتابة لا تحرر الإنسان أو الأوطان، ولا تعيد الغريب إلى وطنه، لكنها حين تكون صادقة وجذرية، فهي تشكّل الخطوة الأولى نحو ذلك التحرر. إنها البداية والأساس الذي يبني عليه الإنسان وعيه الجديد. ربما لا تستطيع الكلمة مواجهة الرصاصة بصورة مباشرة، لكنها تملك القدرة على تشكيل الوعي، وهذا الوعي هو الذي يقود إلى التغيير الجذري. عندما تكون الكلمة صادقة، ومرتبطة بالقضية عبر إيمان عميق بها، فإنها تصبح أداة فاعلة للتغيير، وقد كان الأدب، والشعر بصورة خاصة، دائماً مرتبطاً بتشكيل الوعي الجمعي، وبناء رؤى جديدة تفتح الباب أمام الأمل، وأمام البحث عن الانتماء الحقيقي؛ فالشاعر، عبر قصيدته، يعيد تشكيل العالم، ويعيد إلى الإنسان العربي وعيه بقدراته، وبحقه في الحرية. وبهذا المعنى، فقد كان الأدب الفلسطيني، ولا يزال، أدب مقاومة في جوهره، فكل نصٍ أدبي فلسطيني، بغض النظر عن موضوعه أو شكله، يعكس فكرة وجودية ترتبط بالهوية والكينونة الفلسطينية.
لبنان توأم فلسطين: وجع مشترك ومصير واحد
لبنان يأبى إلاّ أن يتقاسم الوجع مع أخته فلسطين، فالدم واحد، والمصير حتماً الخلاص والنصر. وهذا النزف والوجع الكبير سيغير مفاهيم إنسانية عديدة، ومنها الشعر؛ ففي أوقات الكوارث، يصبح الشعر نصاً إنسانياً واعياً مرتبطاً بجذور الواقع، ويبهرنا على الرغم من توغله في الوجع.
وقد شكّل شعراء لبنان بالنسبة إليّ شخصياً جبهة مساندة عاطفية ونفسية وشعرية، وألهموني لمواجهة الحرب بالشعر. وجميعهم بلا استثناء يخوضون الآن حرب وجودهم بالشعر والكتابة والحب، ويؤلمني أن أكتب هذه الكلمات لأصدقاء يضحّون بدمائهم ويكتبون بالدم وحبر الروح لفلسطين. هؤلاء الشعراء هم إخوة الدم، وارتبطوا بفلسطين إيماناً وعملاً.
كَتَبَ الشاعر زاهي وهبي قبل أشهر:
"لأن الكتابة شكل من أشكال المقاومة، يجد الشاعر الصديق جواد العقاد وقتاً، من قلب النار والبارود، ليكتب شعراً ويقرأ شعراً ويكتب عن الشعر. جواد، الشاعر الفلسطيني الشاب الموهوب والمبدع والصامد في غزة، الذي تبعثرت مكتبته بفعل الهمجية الإسرائيلية، خصني من قلب خان يونس بهذه التحية التي أعلقها وساماً على شغاف القلب. القلب الذي ينبض دائماً وأبداً بحب فلسطين وبالإيمان بأن حريتها آتية لا محالة."
والآن يا زاهي، لا أعرف بأي لغة أكتب إليك وإلى الأصدقاء، وبأي حرقة. غزة احترقت، وحين تعود من رمادها، تريد أن ترى بيروتاً تضج بالحياة، والشعر، والأغاني، وقصص الحب، وتريدها أن تبقى زاهية كشعرك الذي كلما قرأتُه، يتجدد الدم في عروقي، وأرفض الموت مصرّاً على لقاء بيروتي. أريد لقصيدتك أن تبقى راسخة في محراب الحب، ولا يليق لبيروت إلاّ أن تبقى "نشيد الحب والأمل."
لبنان هو عاصمة الأمل والشعر الخالد الذي يرتكز على الحب. ها هو صديقي الشاعر الشاب نبيل مملوك يُشهر حبه في وجه آلة البطش، صامداً في مدينة صور جنوبي لبنان، يكتب يوميات النزوح والدم والقهر. إنه شاعر الحب والتفاصيل الصغيرة. وقد قرأتُ ديوانه "كدمات بطعم الضوء" الذي يجسد أعمق مشاعر الإنسان بلغة تضج بالحياة. والآن، يوضع نبيل أمام اختبار صعب، تتحول فيه القصيدة الشفافة إلى قصيدة مقاتلة، وفي الوقت ذاته، إنسانية من طراز فريد. ومن يعرف نبيل وحساسيته الشعرية، يشعر بأن قصيدته الجديدة تخرج شامخة من سعير المعركة، كجمرة من موقد الصمود، وشجرة أرز في حقل الكرامة.
بيروت تعرف الوجع الفلسطيني جيداً، وتتجلى في شعرنا الفلسطيني مكاناً وحباً وعاطفة؛ فعهد الدم بين فلسطين ولبنان قديم بعمر الحب والأخوة والكرامة، وشعراء فلسطين هم شعراء لبنان، والعكس صحيح. كيف لا وبيروت تشكل جوهراً في شعرنا الفلسطيني وتميمة أساسية للقصيدة؟ إنه لجوء عاطفي إلى بيروت.
إنها ليست مدينة، إنما هي قصيدة لا تنتهي، وحبيبة تحمل ملامح مَن نحب، ومدينة متجددة ما زالت تهمس في آذان الشعراء، وتشبه الحب في كل شيء: في بعدها، وغرورها، ومزاجها المتقلب. أنا لستُ آخر الشعراء، لكنها هي بلا شك آخر المدن الجميلة التي تبقى لنا، "بيروت شمعتنا، بيروت دمعتنا"، نحبها حباً أزلياً.
يحق لبيروت أن تكون قبلة الشعراء والعاشقين، وأن تفتح صدرها للحمام المهاجر والسنونو الهائم. وجهها تُختزل فيه أجمل القصائد، وكأنها تهب هذا العالم البائس نفحة من الجمال. ولو كانت هناك مدن فاضلة، لكان عليها أن ترسل شعراءها إلى بيروت، فهناك فقط يمكنهم أن يلتمسوا لجوءاً عاطفياً، ولن يخسروا إلاّ قصيدة تصف الجمال الذي نتوه في معانيه. بيروت هي مقهى، وقصيدة، وورد، وقرنفل، وياسمين، ومفردات أُخرى تلزم لإكمال لوحة الجمال؛ فهي مزيج من الشام، والقدس، ورام الله، وكلها تتحد لتشكل جمالاً واحداً.
وقد كتب شعراء فلسطين عن بيروت، فيها ولها؛
فقال أحمد دحبور: "اشهد يا عالم علينا وعلى بيروت."
كما كتب محمود درويش رائعته "مديح الظل العالي" وقصائد أُخرى، وكان منخرطاً في المشهد الثقافي البيروتي.
كذلك معين بسيسو، ابن غزة، أصدر مجلة "المعركة" وراء المتاريس في أيام حصار بيروت، وكتب مقالات وقصائد من قلب المعركة، فصدح بأعلى صوته:
"لن تدخلوا بيروت
ستموتون تحت شبابيك
المدينة التي لا تموت
ستسقطون تحت سقوفها..
متاريسها
لن تدخلوا بيروت
كل كيس رمل، كل صخرة
كل موجة في بحرها
تابوت."
والآن، يصمد في ضواحي بيروت شاعر فلسطيني كبير، حمل همّ القضية إلى أن تجلت في عينيه دموعاً، ومن حنجرته قصائد تعرف كيف تؤدي طقوس الاكتمال على سواحل قلبه وتحلم بالبحر الجديد؛ أنور الخطيب، وهو اسم من أسماء فلسطين وقلاعها الشعرية المتقدمة، يرفض مغادرة لبنان في أصعب الأوقات، لأنه يتنفس رائحة بلاده من بيروت، فيقول في حب بيروت:
"يا بيروت،
يا فاتحة النار بظهري
راسمة المنفى فوق المنفى
في كفّي،
ما من أحد فيك
يقرأ خط العمر وخط الموت
ما من عين تشرب قهوتها
وتطل عليّ..
يا بيروت."
في هذه المعركة المستمرة على الوجود العربي، يبقى الشاعر شاهداً على تراجيديا لا تنتهي، محمَّلاً بهموم شعبه وأوجاع أمته التاريخية، وقصيدته شهادة على معاناة مستمرة، وصرخة تدوي في محاكم الدم.
في الحرب، يتحول الشعر إلى ملاذ للروح، ومساحة لاكتشاف الذات والهروب من واقع مرير إلى أفق أرحب من المقاومة بالكلمة. فالشاعر العربي اليوم يقف على مفترق طرق، بين الماضي المليء بالنكسات والمستقبل الواعد بالأمل.
غزة وبيروت مدينتان توحدهما الآلام والآمال، شاهدتان على تلاحم الشعبين الفلسطيني واللبناني عبر التاريخ في وجه الحروب والطغيان.
بيروت هي مدينة اللقاء بين الشعر والأمل، فتلتف حول دماء الشهداء وأصوات المقاومين، وتبقى القلب النابض بالحياة والحرية. وفي شوارعها وأزقتها، يتعانق الوجع الفلسطيني واللبناني، ويشكلان نسيجاً واحداً من الشعر والمقاومة، حيث الكلمات تتحول إلى أسلحة في وجه الظلم، ونيران الحب والحرية لا تنطفئ.
وها نحن من غزة النازفة نلجأ عاطفياً إليكِ يا بيروت، كما يلجأ التائه إلى ملاذه الأخير. فيكِ تتجدد قصائدنا، وتتعانق أرواحنا، وتبقى كلماتنا شاهدة على هذا الألم المشترك والمصير الواحد الذي يوحد غزة وبيروت، ويؤكد أن المقاومة ليست سلاحاً فقط، بل أيضاً كلمة وأمل وحلم لا يموت.