1
يواصل المؤرخ الدكتور ماهر الشريف حفره المتأني في الفترة التاريخية التي سبقت كارثة 1948 والتي امتدت لنصف قرن تقريبًا قبل وقوع الكارثة، ذلك أنه بعد كتابه المتميز "المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة" الصادر من مؤسسة الدراسات الفلسطينية 2020 الذي غطى الفترة من 1908 إلى 1948، يعود إلينا بكتاب جديد لا يقلّ تميزًا عن الكتاب السابق، ليتابع جريدة "القدس" التي أصدرها ابن مدينة القدس، التنويري جرجي حبيب حنانيا، مستفيدًا من استعادة السلطنة العثمانية للدستور عام 1908 على أيدي جمعية الاتحاد والترقّي التي وضعت حدًّا لاستبداد السلطان عبد الحميد، واستعادت الدستور بعد سنوات عديدة من تعطيله ووضعه على رفّ النسيان.
لذلك، سمحت السلطات المسؤولة للمقدسي جرجي حبيب حنانيا إصدار صحيفة في القدس عام 1908 لتكون منبرًا تنويريًّا حداثيًّا بقرار من صاحبها المعنيّ بالقدس وبما يتبع متصرفيّتها من مدن وبلدات، ولتستمرّ في الصدور إلى العام 1914، ثم تتوقف عن الصدور بسبب التراجع في مبيعاتها وإفلاس صاحبها، وبسبب اقتراب نذر الحرب العالمية الأولى التي شاركت فيها السلطنة العثمانية إلى جانب ألمانيا.
2
"القدس" التي وصفها صاحبها بأنها جريدة علمية أدبية إخبارية، والتي كانت تصدر يومي الثلاثاء والجمعة من كل أسبوع، ثم مرة في الأسبوع في أواخر عهدها، قامت بتغطيات واسعة لمناحي الحياة المختلفة في مدينة القدس بشكل أساسي، وفي المدن التابعة لها بشكل أقل، ومن دون ذكر للأرياف في ما أظن.
وكان يمكن لأعداد هذه الجريدة، ولما اشتملت عليه من رؤى واجتهادات وأفكار وتطلعات أن تظل طيّ النسيان لولا جهد الباحث المؤرخ المتميز الذي أماط اللثام عن كنز مطمور من تطلّعٍ مشروع نحو الحداثة، ومن رغبةٍ جادة في الالتحاق بركب الحضارة والرقي، عبر التزود بالعلم والمعرفة وبكل ما من شأنه أن يخلق مجتمعًا حديثًا راقيًا متحضرًا.
ولعلّ الميزة التي كشف عنها كتاب الدكتور ماهر الشريف، انطلاقًا من مواد الجريدة التي نحن بصددها، تبيانُ حقيقة تبلور مفهوم الشعب الفلسطيني والتعبير عنه قبل الاصطدام بوعد بلفور، وقبل المجابهة الممتدة مع الحركة الصهيونية التي كانت منذ الأساس طامعة في السيطرة على الأرض الفلسطينية وعلى اقتلاع الشعب الفلسطيني منها.
مع العلم، وكما يشير الدكتور الشريف في الكتاب إلى ضعف تلمّس جريدة القدس للخطر الصهيوني الذي بدأت بواكيره قبل وعد بلفور، في حين كانت جريدة "الكرمل" لصاحبها نجيب نصار متنبهة لهذا الخطر منذ الأساس.
3
وكما في كتابه السابق، فإن الدكتور ماهر الشريف يحرص على تأطير المادة التوثيقية التي يكدّ ويجدّ في استخراجها من مصادرها، ليخرج باستنتاجات تضيء فترة من التاريخ الفلسطيني المعاصر محتشدة بالثورات وبتزاحم الرؤى والأفكار، وذلك للاستفادة من دروس التاريخ، ولتجنب الوقوع في الأخطاء وتكرارها من دون تبصر أو انتباه.
يكتب د. الشريف في مقدمة الكتاب ما يلي: "إن السؤال الرئيسي الذي سيسعى البحث، الذي يحتويه هذا الكتاب، إلى الإجابة عنه هو التالي: هل تبين محتويات جريدة "القدس"، فعلاً، أنها كانت أداة لترويج أسس المجتمع الحديث ولتنوير سبل بلوغه؛ وإن كانت كذلك، فكيف تجلت بواكير الحداثة في لواء القدس على صفحاتها؟"
4
في الفصول العشرة التي جاءت بعد المقدمة اهتم د. الشريف عبر اعتماده على المنهج الوصفي التحليلي، بتصنيف الأفكار والممارسات والتطلّعات التي وردت متناثرة ممتدة في أعداد الجريدة التي ظلت تصدر بما يزيد عن مئة عدد في السنة، على الأقل في السنوات الخمس الأولى من عمرها، هذا التصنيف الذي يسهم في توضيح الاتجاهات ووجهات النظر المختلفة، وموقعها في المنظومة الشاملة التي يمكن من خلالها الاستدلال على منهج الجريدة وطبيعة رسالتها في الحياة وفي المجتمع.
ثمة رغبة في الترويج للديمقراطية وممارسة الانتخابات وضرورة انتخاب مرشحين أكفياء، وثمة نقد للنواقص والأخطاء وحرص على تقديم كل ما من شأنه تطوير مدينة القدس وتحويلها إلى مدينة حديثة راقية، وثمة دعوات لمراقبة أداء المسؤولين، ولتطبيق الدستور المستعاد بعد حقبة الاستبداد، وثمة تنبيهٌ مستمر إلى أهمية التعليم وخصوصًا تعليم المرأة وإيلائها المكانة التي تستحقها في المجتمع وفي الحياة.
ثمة تركيز على أهمية النشاط السياسي الواعي، وتركيز على أنشطة جمعية الاتحاد والترقي التي انتمى إليها صاحب الجريدة، والتي كان لها نشاط بارز بين الناس، لأنها هي التي استعادت الدستور الذي أتاح للمواطنين فسحة معقولة للتعبير عن تطلعاتهم وهمومهم.
وثمة اهتمام من الجريدة بالتعددية الدينية في القدس، وضرورة احترامها وتعزيزها والانفتاح على الأديان، واحترام عقائد الآخرين ومشاركتهم في مناسباتهم الدينية وفي أعيادهم.
ومما له دلالته في هذا الصدد مساندة الجريدة لتعريب الكنيسة الأرثوذكسية، والوقوف ضد هيمنة رجال الدين اليونانيين عليها، وهي الحركة التي لعب فيها كلٌّ من الأديب خليل السكاكيني والأديب خليل بيدس دورًا مرموقًا.
5
ولدى التطرق للفصل العاشر في الكتاب نقف عند بعض الأنشطة الفنية التي كان لها حضور في مدينة القدس، وخصوصًا العروض المسرحية التي كانت تشهدها مسارح المدينة وقاعاتها المختلفة، حيث كانت تنشط الفرق المسرحية المحلية في تقديم عروض تتخللها مشاهد وطنية حماسية وإلقاء قصائد وطنية.
وكانت فرق مسرحية وغنائية عدّة تأتي إلى القدس من مصر ومن لبنان، فيما كان حضور النساء الممثلات من مدينة القدس نادرًا، ما عدا مرة واحدة ذكرت فيها الجريدة أن ثلاث نساء شاركن في إحدى المسرحيات. كذلك لم يكن هناك مؤلفون مسرحيون محليون، وكان مخرجو العروض المحليّون يعتمدون على مسرحيات شكسبير وغيره من المؤلفين الأجانب وبعض العرب.
وفي حين كانت العروض تستقطب جمهورًا حاشدًا فإن صاحب جريدة القدس كان يتذمر في بعض الأحيان من ضعف حضور الجمهور، ومن عادات سيئة يمارسها بعض الناس أثناء العروض كالصفير والثرثرة مما يشوش على أداء الممثلين.
6
يختتم الدكتور ماهر الشريف كتابه القيّم بالتدليل، عبر استنتاجات صائبة مستقاة من مادة الجريدة التي جمعها وصنّفها وحلّلها بعين الباحث المدقّق، وبوعي المفكّر المتمكّن الرصين، على أن جريدة القدس لصاحبها جرجي حبيب حنانيا كانت معبّرة بوضوح عن بواكير الحداثة التي بدأت بالظهور والتجلّي في أواخر فترة الحكم العثماني لبلاد الشام ومنها فلسطين في مطالع القرن العشرين.*
*جريدة القدس وبواكير الحداثة في لواء أو متصرفية القدس/ ماهر الشريف/ 379ص من القطع الكبير/ مؤسسة الدراسات الفلسطينية 2024.