في سنة 1895 تقريباً، بنى صليبا خاناً في منتصف الطريق بين القدس وأريحا، وكان معروفاً باسم خان صليبا، وهو حالياً مهجور، وأصبح بعيداً عن الطريق الرئيسي بين المدينتين. أتذكر هذا الخان في طفولتي، إذ كانت السيارات تتوقف عنده.
لكن صليبا بناه في وقت لم تكن فيه هناك سيارات، وكان مكاناً يستريح عنده المسافرون المشاة أو الممتطون دوابهم. وكانت الرحلة بين المدينتين تستغرق سبع ساعات على طريق معبّدة بالتراب، فتسير مسافة طويلة بمحاذاة وادي القلط للتزود بالماء. أمّا الطريق الحالي، فابتعد عن هذا الوادي.
وفي سنة 1905 تقريباً، وصل إلى الخان مسافر مرموق يراكب حنطوراً ومعه حاشيته الكبيرة، واستراح فيه. كان هذا المسافر هو البطرك الأورثوذكسي اليوناني دميانس.
خان صليبا في الخان الأحمر عام 1900، أرشيف مكتبة الكونغرس
وقد أحب البطرك، ومن أول نظرة، الطفلة ڤكتوريا ذات السبعة أعوام، ابنة صليبا صاحب الخان، بل أيضاً أبدى رغبته في تبنّيها.
ورفض الأب التخلي عن ابنته، لكن البطرك والأعيان في معيته ألحّوا وأصروا على تبنّي ڤكتوريا. عندها، اقترح صليبا تبنّي أحد أولاده الأربعة بدلاً من ڤكتوريا، لكن البطرك أصرّ عليها. وفي النهاية، رضخ صليبا لرغبته.
تركت ڤكتوريا عائلتها والدموع تنهمر من عينيها، لكن البطرك على مر السنين اعتنى بها جيداً، وأرسلها إلى أحسن المدارس، وأينعت لتصبح سيدة جميلة وذكية.
لكن، لماذا أراد البطرك تبنّي ڤكتوريا وليس أحد إخوتها؟
كان دميانُس رجلاً يونانياً أرستقراطياً، وقد فقد زوجته وهي تلد ابنتهما، وانفطر قلبه عليها. لكن حبّه لها استمر بقوة عبر محبته لابنته، لكن هذه المحبة لم تدم طويلاً، إذ تُوفِيَت عندما بلغت الثامنة من العمر.
هذا الواقع صدمه ودمره، فوجد ملاذه في التنسّك، وتدرّج في سلّم الرَهبنة إلى أن أصبح بطريركاً للقدس من سنة 1897 حتى 1931.
ولماذا الوَلَع بابنة صليبا؟
عندما شاهدها لأول مرة، رأى فيها شبهاً من ابنته المتوفاة، فأيقظ ذلك ذكراها بقوة عاصفة.
وفي مرحلة لاحقة، استأجر صليبا فندق جلجال في أريحا من عائلة عريقات صاحبة الفندق.. ولما نشبت الحرب العالمية الأولى، أخذه الجيش التركي سخرة معه، وهو ما اضطر ڤكتوريا إلى تولّي إدارة الفندق في غيابه.
وفي تلك الأوقات، كان الموسيقي المقدسي واصف جوهرية موظفاً لدى البحرية التركية في البحر الميت. وفي أريحا، أحب الاثنان، واصف وڤكتوريا، بعضهما، وأخفيا علاقتهما عن العائلة.
أدارت ڤكتوريا الفندق بنجاح حتى بعد انتهاء الحرب، وأصبح معظم نزلاء الفندق ضباطاً بريطانيين، وقد أعجبهم الفندق وصاحبته، إلى درجة أنهم كانوا يسمونها "ڤكتوريا جَريكو".
وعندما عاد والدها من العسكرية، أدارت معه فندق "سانت جون" قرب المورِستان في القدس، والتابع للكنيسة الأورثوذكسية (بيعَ إلى الإسرائيليين سنة 1990).
فندق الأردن بإدارة فيكتوريا سعد، أريحا، ١٩١٠، (المصدر: أرشيف مكتبة الكونغرس)
ومع مرور الزمن، وجد واصف وڤكتوريا أن الوقت قد حان ليجهرا بحبهما لعائلتهما.. لكن كانت العقبة الأولى أن يطلب يدها من البطرك، وليس من والدها البيولوجي. وقد ظل البطرك رافضاً إلى أن وافق في النهاية،
فتزوجا سنة 1924، وأنجبا جورج، وآية، وليلى، ويُسرى.
وقد تزوجت يُسرى من الموسيقي الفلسطيني اللامع سلڤادور عرنيطة، المتخصص في الموسيقى الكلاسيكية.
وأخيراً، وبعد أن كتبت ما كتبت، يبقى السؤال:
ما علاقة الحكاية كلها بمدينتي بيرزيت؟
الجواب هو أن صليبا ليس إلاّ صليبا سعد من بيرزيت.
وكان صليبا متزوجاً من ابنة خوري الروم نقولا حنا تقلا من القدس، وأولادهما هم يُسرى، وإبراهيم، وبشارة، وثيودور، وعيسى.
والاسم الكامل له كما استخرجته من شجرة العائلات في بيرزيت هو؛ صليبا إبراهيم نصار سعد عقل داهود شاهين سليمان فرح.
وهناك أخ معروف لصليبا اسمه سليم، الذي كان دليل سياحة، رافق الملوك والأمراء والنبلاء عندما كانت السياحة في فلسطين على ظهور الخيل.
مصادر:
جوهرية، واصف. "القدس العثمانية في المذكرات الجوهرية: الكتاب الأول من مذكرات الموسيقي واصف جوهرية، 1904 – 1917" تحرير سليم تماري وعصام نصار. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ج1، 2003.