تتناول هذه المقالة تأثير أزيز الطائرات من دون طيار (مسيّرة/درون) في الحالة النفسية لمن يقبع تحت طنينها المزعج لفترات طويلة. أمّا العنوان، فهو مستقى من تعبير تستخدمه العرب "كأن على رؤوسهم الطير"، وفي أحد معانيه الكثيرة وصفٌ لحالة "تتسم بالسكون والترقب والخشية"، وهو المعنى الذي يُستخدم هنا.
وفي الحروب الحالية، باتت طائرات الدرون سلاح الفقراء والأغنياء، وذلك لسهولة صناعتها، وتكلفتها القليلة لدى الجماعات التي تمارس حرب العصابات وكذلك الدول الفقيرة، وتكلفتها العالية تبعاً لما تتضمنه صناعتها من تقنيات عالية، وقدرات تدميرية لدى الدول الغنية. وربما من أكثر الأمثلة نصاعة عما يمكن أن تتسبب به جماعات تتبع حرب العصابات، ضربة الدرون التي نفذها حزب الله في 13 تشرين الأول/أكتوبر 2024 على قاعدة للواء غولاني في بنيامينا جنوبي حيفا، وسقط فيها أكثر من 70 جندياً إسرائيلياً بين قتيل وجريح.
في منطقتنا، كانت إسرائيل سباقة في استخدام المسيّرات؛ ففي جنوب لبنان في سبعينيات القرن الماضي، كانت المسيّرات الإسرائيلية تحلّق فوق المدن والقرى لجمع المعلومات، ولم يكن تحليقها طويلاً، إذ يمكن أن تحلّق لعدة ساعات ثم تغيب.
وفي الأعوام اللاحقة، وخصوصاً خلال الحروب في مطلع القرن الـ 21 التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، بات سلاح المسيّرات متعدد المهام: جمع المعلومات، والإغارة على المواقع، والاغتيالات، والإزعاج الصوتي، وهذا علماً بأن الولايات المتحدة كانت رائدة في مجال استخدام المسيّرات الكبيرة والحديثة وذات التكنولوجيا الفائقة في اغتيال العديد من قيادات المنظمات التي تصفها بالـ "إرهابية".
وفي غزة، "يطلَق على الطائرات الإسرائيلية من دون طيار اسم زنانة [....]، وهي كلمة يقلد صوتها صوت المروحة. والدوران حول الزنانات لا يرهب الناس بأزيزه فحسب، بل أيضاً يعطل استقبال التلفزيون، ويغزو أجهزة التلفزيون الفلسطينية." وفي أفغانستان وباكستان، يُطلق عليها اسم "بانغانا لصوتها الغريب، وهي ترمز في لغة الباشتو إلى صوت الدبور الطنان."[1] أمّا في لبنان، فكان يُطلق على المسيّرات اسم "أم كامل"، تحريفاً لاسم تلك الأجسام الطائرة بالإنكليزية "MK"، واليوم باتت تُعرف بالمسيّرات، أو الدرون التي باتت في الحرب الحالية على لبنان حديثاً دائماً؛ في الشارع، وفي وسائل النقل، والمحلات التجارية، وأينما وُجد شخصان أو أكثر. وهذا الحديث الدائم إنما سببه التحليق الدائم، ليلاً ونهاراً، في أرجاء لبنان، وخصوصاً في الجنوب وبيروت وضواحيها.
فتحليق الدرونات يشي بأن غارة ما ستحدث في مكان ما، وفي الأغلب في المناطق التي يكثر التحليق فوقها، فهي نذير شؤم لما يمكن أن يحدث من قتل وتدمير.
والمزعج جداً، والأمر الذي يترك تأثيراً نفسياً شديد الوطأة هو صوت المسيّرات التي لا تتوقف عن الأزيز، وما يرافقه من شعور بأنها تلاحقك شخصياً، وكأنها مخصصة لك وأنت تسير في الشارع، وتتنقل من غرفة إلى أُخرى في منزلك، فتسلب خصوصيتك، وتجعلك في حالة قلق شديد. وحتى لو كنت على دراية بأن المسيّرات تستطلع مساحة شاسعة فوقك، وأن صوتها الذي تسمعه، وكأنه فوقك أنت وحدك، هو بسبب "اتجاهية انبعاث عمودية واضحة لكن تشع بصورة موحدة إلى حد ما في المستوى الأفقي"،[2] وتوحي بأنها تحلّق فوقك، لكنها في الحقيقة تحلق في محيط دائري يمكن أن يكون بعيداً عنك.
لم تنتَج دراسات كثيرة تقيس الأثر النفسي والذهني والجسدي لصوت المسيّرات، لكن كلاً من غونزالو كاردوسيو وروبن باتر بيّن في بحث تحت عنوان "دراسة في صوتيات الطائرات من دون طيار في القرن الـ 21" لسنة 2015 أن صوتها يُعد "شكلاً من أشكال العنف الصوتي"، وأن "أولئك الذين يعيشون تحت الطائرات من دون طيار يعانون جرّاء التوتر والقلق الهائل من أصواتها." ووثّقت الدراسة "تجارب الناس"، ووجدت أن "الحالات المبلّغ عنها" تقود إلى معاناة جرّاء "متلازمة ما بعد الصدمة نتيجة أصوات الطائرات من دون طيار."[3]
وتنقل دراسة عن الصحافي ديفيد رود، الذي احتجزته طالبان في أفغانستان، وصفه للعيش "تحت طائرات من دون طيار" بقوله: "كانت الطائرات من دون طيار مرعبة. من الأرض مستحيل تحديد من أو ما الذي يتتبعونه في أثناء دورانها فوقهم. إن طنين المروحة البعيدة هو تذكير دائم بالموت الوشيك."[4]
وتشير الدراسة نفسها إلى أن "العنف الصوتي ليس ظاهرة جديدة [.... و] يسميها المؤلف ستيف جودمان ’الخوف الافتراضي‘: ’الخوف الناجم عن المؤثرات الصوتية البحتة، أو على الأقل عدم القدرة على التمييز بين ’هجوم فعلي‘ و’هجوم صوتي‘‘."[5]
وتضيف الدراسة أنه "في سنة 2005 استخدم الجيش الإسرائيلي أساليب متعددة من الحرب الصوتية ضد السكان الفلسطينيين، ونشر ’قنابل صوتية‘ ليلاً فوق غزة. [هذا فضلاً عن] الطائرات النفاثة التي تحلّق على ارتفاع منخفض وتكسر حاجز الصوت. [و] قارن الشهود ذلك بانفجار كبير تسبب بنزيف في الأنف ونوافذ مكسورة ونوبات قلق. واستخدم الجيش الإسرائيلي أسلحة صوتية خاصة كالجهاز الصوتي بعيد المدى (LRAD) أيضاً. وتم استخدام هذا ’المدفع الصوتي‘ من جانب شرطة المدينة ضد متظاهرين في نيويورك [....و] في فيرغسون في ولاية ميسوري. كما تطلَق صفارة إنذار عالية بصورة مؤلمة مثبتة على المركبات في الاتجاه الذي تشير إليه." كما "استُخدمت الموسيقى كسلاح للتعذيب في سجن خليج غوانتنامو؛ إذ تم تشغيل أغنية ’Enter Sandman‘ لميتاليكا بصوت عالٍ للغاية لساعات متتالية"، ووفق تقدير ما، فإنه "باستخدام الموسيقى الصاخبة بين جلسات الاستجواب، سيستغرق الأمر أربعة أيام لكسر شخص ما، وفقاً لأحد المحققين."[6]
وفي الخلاصة، فإنه على الرغم من أن الدراسات بشأن "تأثيرات ضوضاء الطائرات من دون طيار في البشر [لا تزال] نادرة للغاية [....]، فإن الأدبيات الحالية تقدم صورة متسقة إلى حد ما، وهو ما يشير إلى أن ضوضاء الطائرات من دون طيار مزعجة أكثر كثيراً من حركة المرور على الطرق، أو ضوضاء الطائرات بسبب الخصائص الصوتية الخاصة في نغمات نقية بصورة خاصة، وضوضاء النطاق العريض العالية التردد. ومع ذلك، فإن الجوانب المتعددة، كالسياق الواقعي والظرفي، والمشهد الصوتي، والتفاعلات السمعية والبصرية، وكلها يمكن أن تندرج في تأثيرات الضوضاء، لا تزال غير مستكشفة إلى حد كبير. وهناك حاجة إلى أبحاث مستقبلية لتوصيف الطائرات من دون طيار كمصادر للضوضاء، واستكشاف آثارها في البشر لتبليغ المعايير والتشريعات، وذلك بهدف تقليل الآثار السلبية لعمليات الطائرات من دون طيار المستقبلية في السكان."[7]
وفي الجانب القانوني، فإن "مجتمع المعلومات والتكنولوجيا لم يمهل مجتمعَي القانون والسياسة ليقننا القواعد اللازمة لمجابهة المخالفات الجسيمة التي تُرتكب عند استخدام آليات التكنولوجيا الجديدة، ومنها الطائرات المسلحة من دون طيار، بذرائع منها مواجهة الإرهاب"، و"أخطر المحاذير التي يمكن لفت الأنظار إليها" أن مشغلي المسيّرات البعيدين عن ساحة المعركة يستهينون "بالإصابة والقتل"، ويشرعون "الطمأنينة لانعدام الدفاع والرد، وعدم مشاهدة المصائب التي يتكبدها المحيطون من المصابين والقتلى والسكان المحليين، وكل ذلك يدفع إلى مزيد من القتل وارتفاع مستوى الانتهاكات."[8]
[1] Gonçalo F. Cardoso & Ruben Pater, “A Study into 21st Century Drone Acoustics”, Untold story.
[2] Antonio J. Torija, “Drone Noise Emission Characteristics and Noise Effects on Humans—A Systematic Review”, National Library Of Medicine, 1/6/2021.
[3] Gonçalo F. Cardoso & Ruben Pater, op.cit.
[4] Ibid.
[5] Ibid.
[6] Ibid.
[7] Antonio J. Torija, op.cit.
[8] أبو بكر الديب، "معضلة المشروعية: الطائرات المسيَّرة وإشكاليات الامتثال للقانون الدولي"، "الإنساني – مجلة تصدر عن المركز الإقليمي للصليب الأحمر الدولي".