نعيشُ هذه الأيام الذكرى الأولى لطوفان الأقصى. تأتي هذه الذكرى والعالَمُ برمته إزاء مشهد لمدن تطحنها الحرب العدوانية الاسرائيلية. مدنٌ لم تعد مدنًا، بل أنقاض من خرسانة وبارود تكوَّمت على أجساد ساكنيها. مشهد مروِّعٌ لا مثيل له إلا تلك المشاهد التي حفظتها الذاكرة الإنسانية لحطام المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية. لقد أصبحت غزة 2024 تشبه "دريسدن/Dresden" 1945.
تتبنى إسرائيل في حروبها استراتيجيات باتت معروفة، تتمثلُ في تدفيع خصومها ثمنًا باهظًا على المستويين المادي والبشري. رأينا ذلك في حروبها الطاحنة على لبنان وغزة بدءًا من عام 2006 وحتى الآن. فقتلُ إسرائيلي واحد يقابله قتلُ عشرات الفلسطينيين في الضفة الغربية ومئات في غزة، ناهيك عن التجريف العمراني والبيئي للمناطق التي تجتاحها آليات الحرب الإسرائيلية. ففي كل اجتياح لمخيمات جنين وطولكرم ونابلس كانت البلدوزرات والجرافات العملاقة تسبق الدبابات وناقلات الجند، وتحوِّلُ الطرق والمحلات التجارية وشبكات المياه والهاتف والكهرباء إلى كومة أنقاض. إنه شكل جديد من أشكال التطهير البيئي يسمى الأيكوسايد/Ecocide وهو المصطلح المجاور للتطهير العرقي الجينوسايد/Genocide.
ترمي إسرائيل من وراء هذا التوحش البربري إلى دفع الشعب الفلسطيني إلى اليأس من المقاومة والشعور بعدم الجدوى واللامعنى، وتحويل المدن الفلسطينية إلى أرضٍ موات ومدن أشباح. هذا إضافة الى إشغال المجتمع بسؤال وجوده عوضًا عن الانشغال في دعم المقاومة. بمعنى أن إسرائيل تستنزف قدرات الشعب الفلسطيني في إعادة إعمار ما دمرته آلة الحرب عوضًا عن التفكير في تنمية المجتمع وتطويره.
الاستراتيجية الثانية هي اختزال جغرافيا الصراع الى أضيق نطاق. لأسباب عديدة تخشى إسرائيل من تعدد جبهات القتال، إنها تكتفي بجبهة واحدة، وتصب نار مدافعها على الناس، وتحرقُ الأخضر واليابس، وتحول المدن الى مشهد خراب أسطوري. ثم توظف هذا المشهد لردع خصومها.
وأخيرًا تعتمدُ إسرائيل على استراتيجية الحرب من الجو مصحوبة بإفراط في القسوة إلى حد يصْعبُ تصوره. وفيما هي توغل في دماء المدنيين في غزة تبعث رسائل رادعة لتلك الجبهات المحتملة في لبنان والضفة الغربية أو أي جبهات أخرى كاليمن والعراق وإيران. رغم ذلك استجاب حزب الله منذ الأيام الأولى للحرب لنداء غزة، وحذا حذوه اليمن والعراق. لكن ماذا عن الضفة الغربية وكيف استجابت لنداء غزة؟
- الضفة الغربية: برميل البارود
منذ بدء الحرب على قطاع غزة شكَّلت الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية هاجسًا مُلِحًا للمؤسسة الأمنية الإسرائيلية. إذ يدركُ خبراءُ الأمن الإسرائيليون أن الضفة الغربية وإن بدت ساكنة فهي خزان بارود لا أحد يتنبأ متى ينفجر. إن أي شاب من الضفة الغربية وبغض النظر عن خلفيته السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية، يمكن أن يصير بين عشية وضحاها "ذئبًا منفردًا"، ولعلَّ قراءة بسيطة في سيرة الغالبية العظمى من الشباب الذين نفَّذوا عمليات هجومية ضد أهداف إسرائيلية منذ السابع من تشرين أول هم أفراد لا علاقة لهم بالأحزاب ولا يمتلكون مهارات عسكرية وغالبًا لا يحوزون بنادق.
وأخيرًا فإن لدى إسرائيل خوفا دائمًا من انتفاضة فلسطينية جديدة في الضفة الغربية يمكن أن يتمدد لهيبها الى مدن الداخل على غرارة هبَّة أكتوبر عام 2000.
- الواقع الجيوأمني للضفة الغربية
بمقابل التحديات التي أشرنا اليها أعلاه ثمة عناصر قوة لصالح إسرائيل فيما يختص بالواقع الجيوأمني في الضفة الغربية، تتمثل في النقاط التالية:
- القدرة على تقسيم الضفة الغربية إلى معازل مقطعة الأوصال. فحاجز "الكونتينر" المقام على أرض السواحرة يفصلُ كليًا شمال الضفة الغربية عن جنوبها. وهذا الإجراء ينطبق على كل محافظة ومدينة وقرية على حدة. بحيث يغدو كل تجمع سكاني منعزلًا كليًا عما يجاوره بفضل البوابات الحديدية المنصوبة على مداخل ومخارج المدن والبلدات. عززت هذه الميزة من قدرة إسرائيل على إغلاق أي منطقة وتشديد الحصار عليها وفرض عقوبات جماعية على سكانها.
- تُعَدُّ الضفة الغربية سجنًا كبيرًا يخضع للمراقبة الحثيثة والدائمة، إذ تخضعُ شوارعها كليًا الى أنظمة مراقبة وتعقب الكترونية مزروعة على أعمدة الكهرباء والهاتف على طول الشوارع الالتفافية، ما يعني سرعة القبض على المقاومين، ففي غضون ساعات قليلة تستطيع إسرائيل تحديد الدائرة الضيقة التي يتواجد فيها المقاوم.
- سهولة الحصار الاقتصادي على الضفة الغربية ويتمثل بقطع امدادات الماء والكهرباء وحركة العمال والبضائع واغلاق بوابات المدن. وهذا السلاح تشهره إسرائيل وتستخدمه ضد أي تجمع سكاني ينطلق منه مقاومون. فمثلا تتعرض بلدات محافظة الخليل منذ عدة أشهر لحصار مائي بحيث تضاعف سعر تنك الماء إلى ثلاثة أضعاف.
أدى الواقع الجيوأمني في الضفة الغربية الى مزيد من تآكل أو تلاشي أطر المقاومة التقليدية وتحول افرادها الى كتائب مناطقية صغيرة مركزة في محافظات الشمال جنين وطولكرم ونابلس، محدودة الامكانيات القتالية. يوازي ذلك تغوُّلُ المستوطنين الذين راحوا ينتظمون بتوجيهات من وزير الأمن الداخلي "بن غفير" ضمن أطر إرهابية من قبيل "فتيان التلال" وجماعة "تدفيع الثمن" يهاجمون القرى والرعاة ويسرقون أغنامهم ويقطعون الأشجار ويصادرون الأراضي، كما حدث ويحدث في مسافر يطا هذه الأيام.
- السلطة الفلسطينية في العين الاسرائيلية
رغم كل الإشارات السابقة ظلَّت مخاوف إسرائيل وتحذيرات خبرائها من انفجار الضفة الغربية قائمة. فما الذي يربك حسابات إسرائيل في الضفة الغربية؟
ثمة عوامل عديدة تجعل إسرائيل تحسب حسابا للضفة الغربية. أولها الخشية من تقويض السلطة الفلسطينية، فهذا الأمر لا يعجب الامريكان ولا الأوروبيين؛ باعتبار السلطة الفلسطينية بالنسبة لهم الخيار الأفضل وتحظى بقبول دولي. بينما تنظر إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية من منظورين: سياسي وأمني، فإسرائيل من جهة غير راضية عن التوجهات السياسية للسلطة الفلسطينية والتي تتأسس وتنطلق من مقولات حل الدولتين، الحل الذي تتهرب منه إسرائيل دائمًا. لكن بالمقابل تريد إسرائيل أن تستمر أجهزة السلطة في أداء دور أمني.
خلاصة
منذ فترة طويلة وحتى قبل الحرب الأخيرة على غزة، تركزت المقاومة الفلسطينية في المحافظات الشمالية في جنين ونابلس وطولكرم وقلقيلية، بفضل وجود كتائب المقاومة فيها. وفيما كانت قذائف الراجمات والصواريخ تدك هذه المدن ومخيماتها، كانت محافظة الخليل تنام ليلها الطويل. وعندما تطورت الحرب وأخذت بعدًا متوحشًا وتطهيريًا، بدأ الخليل تنهض من سباتها، انطلقت سلسلة عمليات موجعة نفذها شباب من الخليل.
ان السلطات الإسرائيلية تحاول إعادة انتاج نموذج روابط القرى عبر التهديد بالتدمير كما حصل في جنين وطولكرم، وعبر التلويح بالجزرة باستخدام المصالح الاقتصادية المشتركة، وهذا ينسحب على مصير كل محافظة على حدة. وهذا التوجه يصب في خانة الرؤية الإسرائيلية للوضع السياسي المستقبلي للضفة الغربية. والذي يتمثل بإمارات عشائرية فلسطينية، إمارة في كل محافظة يقودها زعماء عشائر مدعومون من الطبقة الرأسمالية المحلية. وتقوم إسرائيل بتوفير المواد والخدمات لهذه الامارات. وهذا المشروع الذي تطرحه إسرائيل بديلًا عن حل الدولتين.