على الرغم من مظاهر الهدوء الزمني الطويل والاستقرار النسبي الذي نعمت به منطقة جنوب الليطاني منذ سنة 2006 وحتى 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، فإن هذه المنطقة كانت بلا شك مصدر قلق دائم محلياً وعالمياً، وذلك مرده إلى حالة التوتر التي كانت تسود الحدود الجنوبية باستمرار، فهذه المنطقة التي ينتشر فيها عدد كبير من وحدات وجنود الجيش اللبناني، بالإضافة إلى عدد لا يستهان به من باقي أجهزة الدولة اللبنانية الأمنية، يرصدها أيضاً أكثر من 10,000 جندي حفظ سلام، وهي منطقة تعرضت منذ احتلال فلسطين لكثير من الظلم والقهر والدمار والموت، ولا تزال هكذا.
وتمتد حدود لبنان الجنوبية البرّية من نقطة رأس الناقورة على البحر الأبيض المتوسط غرباً إلى أعالي جبل الشيخ شرقاً، وهي تنقسم إلى قسمين وفق ما يلي:
- القسم الأول: يشمل الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، ويمتد من صخرة رأس الناقورة غرباً إلى الجسر الروماني القديم على نهر الوزاني شرقاً، بطول 82 كيلومتراً تقريباً. وهذه الحدود تم ترسيمها وتثبيتها في اتفاقية بوليه – نيوكمب سنة 1923، وهي الاتفاقية التي عينت الحدود بين الانتداب الفرنسي على لبنان وسورية من جهة، والانتداب البريطاني على فلسطين من جهة أُخرى، ثم تم تثبيت هذه الحدود مجدداً في اتفاقية الهدنة الموقعة بين لبنان والكيان الإسرائيلي سنة 1949.
- القسم الثاني: ويشمل الحدود بين لبنان وسورية التي وضعها الانتداب الفرنسي عند إعلان دولة لبنان الكبير سنة 1920، وتمتد من الجسر الروماني القديم على نهر الوزاني من جهة الغرب إلى جبل الشيخ شرقاً، حيث نقطة التقاء الحدود اللبنانية – السورية الشرقية، ويبلغ طول هذا القسم من حدود لبنان الجنوبية نحو 40 كيلومتراً، مع العلم أن هذه المنطقة الحدودية مع سورية، والمعروفة باسم الجولان السوري، تحتلها إسرائيل منذ سنة 1967.
الخط الأزرق
ينطلق الخط الأزرق من رأس الناقورة غرباً، ليصل إلى جبل الشيخ شرقاً، هو خط وضعته الأمم المتحدة للتحقق من انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان سنة 2000، وللتأكد من تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 425، وقد أرادته مطابقاً للحدود الدولية، لكن هذا الخط بالنسبة إلى لبنان لا يمثل بأي شكل من الأشكال حدوداً دولية، وتتحفظ عليه الحكومة اللبنانية في 13 منطقة على طول الحدود اللبنانية – الفلسطينية، وهي مناطق لا يتطابق فيها الخط الأزرق مع خط الهدنة، كما تعترض الحكومة اللبنانية بشدة على عدم شمول هذا الخط منطقة مزارع شبعا وتلال كفرشوبا اللبنانية، والتي تقع على الحدود اللبنانية - السورية المحتلة من جانب إسرائيل.
منطقة جنوب الليطاني
هذه المنطقة هي قطاع عمل قوات الأمم المتحدة الموقتة في لبنان، أي أنها المنطقة الواقعة بين نهر الليطاني شمالاً والخط الأزرق جنوباً، ويبلغ عمق هذه المنطقة في حده الأقصى نحو 30 كيلومتراً، وفي الحد الأدنى نحو 7 كيلومترات، وينطلق الحد الجغرافي الغربي للقطاع المذكور من مصب نهر الليطاني على البحر المتوسط في منطقة القاسمية صعوداً نحو الشرق في مجرى النهر حتى شمال حاصبيا، حيث تصبح حدود القطاع عبارة عن خط برّي يصل مجرى النهر بالنقطة الواقعة على جبل الشيخ، ومنها تنحدر حدوده في اتجاه الغرب بمحاذاة الخط الأزرق جنوباً، ولتنتهي عند نقطة رأس الناقورة على البحر (انظر إلى الخريطة)، وتبلغ مساحة هذا القطاع نحو 900 كيلومتر مربع.
قوات اليونيفيل
في 17 آذار/مارس 1978، وبناءً على طلب تقدمت به الحكومة اللبنانية، فقد عُقد مجلس الأمن الدولي الذي تبنّى القرارَين 425 و426. وبموجب القرار الأول، قرر مجلس الأمن الدولي أن ينشئ تحت سلطته المباشرة، وبصورة فورية، قوات دولية موقتة في لبنان سُميت بـ "اليونيفيل" كتعبير مختصر (UNIFIL | United Nations Interim Force In Lebanon) على أن يتم تأليفها من عناصر حفظ سلام تابعة للدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة، وقد حددت مهمات اليونيفيل في الفقرة الثالثة من القرار 425 في 19 أذار/مارس 1978 وفق ما يلي:
- التحقق من انسحاب القوات الإسرائيلية من لبنان.
- إعادة السلام والأمن الدوليَين.
- مساعدة الحكومة اللبنانية في تأمين عودة سلطتها الفاعلة إلى المنطقة.
خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان سنة 2006، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 1701 المؤرخ في 11 آب/أغسطس 2006، ورحب فيه بقرار الحكومة اللبنانية الصادر في 7 أب/أغسطس الذي يقضي بنشر نحو 15,000 جندي من الجيش اللبناني والقوات المسلحة اللبنانية في جنوب لبنان، كما قرر مجلس الأمن بموجب هذا القرار زيادة عدد قوات اليونيفيل إلى 15,000 جندي حفظ سلام كحد أقصى. وحددت الفقرة 11 من هذا القرار أن تتولى قوات اليونيفيل، بالإضافة إلى مهمتها الأساسية المحددة بموجب قرارَي مجلس الأمن 425 و426، القيام بمهام عديدة أهمها ما يلي:
- رصد الأعمال القتالية.
- مرافقة القوات المسلحة اللبنانية ودعمها في أثناء انتشارها في جميع أرجاء الجنوب اللبناني، وتقديم المساعدة إليها.
- ضمان وصول المعونات الإنسانية إلى السكان المدنيين، وتأمين العودة الطوعية والآمنة للنازحين من قراهم وبلداتهم.
وبموجب قرار الحكومة اللبنانية الرقم 1 في 16 آب/أغسطس 2006، تقرَّرَ تكليف الجيش اللبناني بالانتشار في منطقتَي جنوب نهر الليطاني والعرقوب، وفي قضاء حاصبيا وقضاء مرجعيون على امتداد الخط الأزرق بمشاركة قوات اليونيفيل، وباشر بعدها الجيش اللبناني انتشاره في المناطق التي كانت تنسحب منها قوات الاحتلال الإسرائيلي، وبموازاة ذلك، انتشرت عناصر القوة الدولية المعززة، وضمت وحدات من إيطاليا وإسبانيا وفرنسا، حيث أنهت تمركزها الكامل في منطقة عملياتها في 15 أيلول/سبتمبر 2006، بعد أن انضمت إلى وحدات اليونيفيل التي كانت موجودة سابقاً. ومنذ ذلك التاريخ، أرسلت دول أُخرى لم تشارك في قوات اليونيفيل في البداية وحدات عسكرية للمشاركة في هذه المهمة، وبلغ عدد الدول المشاركة إلى غاية سنة 2024 50 دولة، لكن بنسب متفاوتة في عدد القوات، ويبلغ عدد قوات اليونيفيل حالياً ما يقارب 11,000 جندي حفظ سلام ينتشرون على كامل مساحة بقعة عمل قطاع جنوب الليطاني.
وفي الفترة الممتدة من سنة 2006 إلى بداية حرب "طوفان الأقصى"، تمكنت قوات اليونيفيل من تأدية دور فعال نسبياً في معالجة العديد من المناوشات والخروقات المحدودة التي كانت تحدث على طول الخط الأزرق، وكانت دائماً تقوم بمساعي حفظ السلام من أجل استقرار هذه المنطقة، وكانت فعلاً عاملاً مهماً للاستقرار، لكنها اليوم تجد نفسها في وسط حالة حرب واسعة، وعلى الرغم من ذلك، فإن وجود قوات اليونيفيل وتشبثها بمراكزها ورفضها ترك مراكزها أو التراجع عن الخط الأزرق ربما يشكّل مظلة دولية تمنع العدوان الإسرائيلي البرّي على لبنان، ولو بصورة محدودة، بصرف النظر عن تعرض هذه القوات للاستفزاز والاعتداء المتكرر على مراكزها من جانب إسرائيل.
وورد في الفقرة 12 من القرار 1701، بما معناه، أن مجلس الأمن يأذن لليونيفيل باستخدام ما يلزم لمقاومة محاولات منعها بالقوة من القيام بواجباتها، وحماية موظفي الأمم المتحدة ومرافقها ومنشآتها ومعداتها، وكفالة أمن تنقّل موظفي الأمم المتحدة والعاملين في المجال الإنساني وحريتهم، وحماية المدنيين المعرضين لتهديد وشيك بالعنف البدني، من دون المساس بمسؤولية حكومة لبنان.
إن هذه الفقرة يمكن أن تسمح في حالات محددة لقوات اليونيفيل باستخدام سلاحها لحماية مهمتها بالحد الأدنى وفق ما ورد أعلاه، ومن الممكن أن نجد قوات اليونيفيل المتشبثة بمراكزها وهي تمارس حقها الطبيعي والقانوني في الدفاع عن نفسها وعن مراكزها وفق ما أذن لها مجلس الأمن الدولي.
القرار رقم 1701
في 11 آب/أغسطس 2006، اتخذ مجلس الأمن الدولي القرار رقم 1701 بإجماع أعضاءه الـ 15، وأكد فيه قراراته السابقة الخاصة بلبنان، ولا سيما القرار 425، ودعا إلى الوقف الفوري للعمليات القتالية، ونشر قوات اليونيفيل جنباً إلى جنب مع القوات المسلحة اللبنانية، وأكد ضرورة بسط الدولة اللبنانية سيطرتها على كل الأراضي اللبنانية، كما شدد على الاحترام الشديد للخط الأزرق، وعلى سيادة لبنان وسلامة أراضيه واستقلاله السياسي داخل الحدود المعترف بها دولياً وفق اتفاقية الهدنة بين لبنان وإسرائيل، والمؤرخ في 23 آذار/مارس 1949. كما طالب مجلس الأمن في الفقرة 10 من القرار بترسيم الحدود الدولية للبنان في المناطق المتنازَع عليها، أو غير المؤكدة، ومعالجة قضية مزارع شبعا.
ونصت الفقرة 8 من القرار 1701 على إنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية من أي أفراد مسلحين، أو معدات، أو أسلحة، بخلاف ما يخص حكومة لبنان وقوة اليونيفيل، كما دعت الفقرة 9 إلى إرساء حل طويل الأجل بين لبنان وإسرائيل.
وقد أرسى هذا القرار فترة طويلة من الهدوء، وتوقفت العمليات القتالية، إلاّ فيما ندر، طوال 17 عاماً نعم فيها جنوب لبنان بالأمان والاستقرار الذي انعكس عمراناً وازدهاراً في مختلف أنحاء الجنوب وبلداته، والتي كان عدوان 2006 قد دمر قسماً كبيراً منها، لكن ما إن بدأت الحرب في غزة في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، حتى انقلب الوضع رأساً على عقب، واجتاحت الحرب معظم قرى جنوب الليطاني وبلداته، فنزح معظم سكانه هرباً من آلة الحرب المدمرة الدائرة.
الوضع الميداني الحالي في جنوب الليطاني
تطبيقاً للقرار 1701، بقيت قوات اليونيفيل في مواقعها على الرغم من الاستهدافات الإسرائيلية المقصودة لمراكزها ودورها، وأعاد الجيش اللبناني تموضع عناصره في تجمعات تكتيكية، وتعرضت مراكزه للاستهداف الإسرائيلي المعادي المتكرر، فسقط له شهداء وجرحى، لكنه تشبث بمراكزه، بأوامر واضحة من الحكومة اللبنانية، والتي تنص على التشبث بالأرض، والدفاع عن المراكز في حال تعرضها للاعتداء.
ويمثل بقاء اليونيفيل والجيش اللبناني في قطاع جنوب الليطاني شرعية محلية ودولية، ويمنع إسرائيل من تنفيذ أي مخطط يرمي إلى احتلال أي جزء أو أرض من لبنان، أو التفكير في إنشاء حزام محتل من الأراضي اللبنانية المدمرة، والخالية من السكان.
واليوم، على الرغم من عدم ثقة الأطراف المتنازعة في إمكان تطبيق القانون الدولي والقرار 1701، فإن التجارب التاريخية - ولا سيما في نهايات الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة لجنوب لبنان عبر السنين - أثبتت أن الحلول الدبلوماسية هي التي ستُعتمَد في النهاية من أجل إنهاء حالة الحرب، وهذه الحلول سوف تكون وفق قرارات مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، لأن التجارب أثبتت أيضاً أن أي حل آخر أو تسوية موقتة أُخرى لا تكون تحت رعاية الأمم المتحدة سيكون مصيرها الفشل.
ولذلك، لا بد في النهاية من تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 1701، ولبنان وإسرائيل ملزمان بصورة غير مباشرة بقبول هذا القرار، وذلك وفقاً للمادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تشير إلى تعهُد أعضاء الأمم المتحدة بقبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها، علماً بأن الحكومة اللبنانية ناشدت منذ بداية الحرب الحالية بتطبيق هذا القرار كما كانت تطالب دائماً وما زالت.
إن أهم الأسباب التي أدت إلى فشل القرار 1701 في إيجاد حل طويل الأمد للنزاع والمصدر الأساسي والجوهري للخلافات منذ انسحاب إسرائيل إلى ما وراء الخط الأزرق سنة 2000 هو بلا شك إشكالات الحدود البرّية، وقضم واحتلال إسرائيل لمساحات من الأراضي اللبنانية، ومن الضروري في أي حل أو تسوية مرتقبة للحرب أن تُحل هذه الإشكالات، علماً بأن المطلب اللبناني لتثبيت حدوده البرّية الجنوبية قانوني ومحق.
فبالنسبة إلى حدود لبنان البرّية مع فلسطين، فإن الطرح اللبناني المحق هو التزام إسرائيل التراجع إلى ما وراء خط حدود اتفاقية بوليه – نيو كمب سنة 1923، والذي أكدته اتفاقية الهدنة بين لبنان وإسرائيل سنة 1949، وهذا يعني استعادة مناطق التحفظات اللبنانية إلى الخط الأزرق، وعددها 13 منطقة مساحتها 485,487 متراً مربعاً، وتراجُع إسرائيل عن مناطق الخروقات الدائمة للخط الأزرق، والبالغ عددها 17 خرقاً دائماً مساحتها نحو 17,000 متر مربع.
ومن جهة الحدود الدولية اللبنانية مع سورية في الجولان المحتل، فلبنان يطالب باستعادة الأراضي اللبنانية المحتلة في خراج قرية الماري اللبنانية، والتي تبلغ مساحتها نحو 719,000 متر مربع، وهو ما يُعتبر خرقاً إسرائيلياً دائماً للخط الأزرق، وقد أكد ذلك قرار مجلس الأمن رقم 2695 سنة 2023، والذي نصت مقدمته على القلق إزاء استمرار الوجود الإسرائيلي في شمال قرية الغجر والمنطقة المتاخمة لها شمال الخط الأزرق، كما يطالب لبنان بإصرار، وبصورة قاطعة بمعالجة قضية استعادة مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، وهو الأمر الذي أشارت المادة 10 من القرار 1701 إلى ضروروة معالجته كما ذكرنا.
وفي النهاية، فإن أي حل مرتقب للحرب الدائرة في جنوب لبنان يجب أن يعالج المطالب اللبنانية المحقة في التطبيق الكامل للقرار الأممي رقم 1701، وضمان التزامه بالكامل من جانب إسرائيل، ولا سيما وقف الخروقات المعادية بكل أشكالها ونهائياً، وعلى التسوية أن تتضمن بصورة أساسية استعادة لبنان لأراضيه المحتلة من جانب إسرائيل، وأي تسوية لا تراعي هذه الشروط، لن تؤسس أبداً لحلٍ دائم أو طويل الأجل بين الطرفين، وستعود الأمور سريعاً إلى المربع الأول.