تمارس سلطات الاحتلال الإسرائيلي سياسة الاعتقال الإداري بحق الفلسطينيين منذ ما يزيد على 57 عاماً؛ فقد توارثت هذه السياسة عن الانتداب البريطاني، وبدأت بممارستها منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا، وبتصاعد لافت.
تتمثل هذه السياسة في اعتقال الفلسطينيين بناءً على ملف سرّي لا يمكن للمعتقل أو محاميه الاطلاع عليه، وتدّعي النيابة العسكرية أن هذه المواد السرية تشير إلى أن المعتقل يشكل تهديداً وخطراً على أمن المنطقة، ما يستوجب احتجازه وزجه في السجن من دون تقديم أي تهم بحقه، ومن دون محاكمة طبيعية، أي أنه لا يكون أمام المعتقلين إدارياً أي وسيلة للدفاع عن أنفسهم لأنه لا يوجد ادعاءات علنية تقدَّم بحقهم. كما تدّعي سلطات الاحتلال أن المواد السرية المقدمة والمعلومات التي تحصّلت عليها يجب أن تبقى سرية بهدف الحفاظ على مصدر هذه المعلومات، ما يمنع أيضاً تقديم دفاع فعّال من جانب المحامي.
تهدف هذه الورقة إلى البحث في كيفية استخدام الاحتلال للاعتقال الإداري كأداة للقمع والسيطرة بحق الشعب الفلسطيني، وتحديداً في الانتفاضات والهبّات الشعبية، كإحدى أسهل الوسائل المتاحة لسلطات الاحتلال لزج أكبر عدد من الفلسطينيين خلف القضبان من دون المضي في مسار الإجراءات القانونية العادية. وتعتمد الورقة بشكل أساسي على الإحصاءات الصادرة عن المؤسسات العاملة في مجال الأسرى، وعلى مراجعة للقوانين والأوامر العسكرية الإسرائيلية، والتقارير المتخصصة بشأن جريمة الاعتقال الإداري بين الماضي والحاضر، بالإضافة إلى مراقبة الباحثة لجلسات المحكمة العسكرية في عوفر وما يصدر عنها من قرارات.
تضم الورقة خمسة عناوين فرعية وخاتمة: يتناول الفرع الأول تصاعد الاعتقال الإداري في الانتفاضات والهبّات الشعبية، ويتناول الفرع الثاني الاعتقال الإداري بحق الطلبة والمدافعين عن حقوق الإنسان، ويعرض الفرع الثالث التعديلات القانونية التي أقرتها سلطات الاحتلال لتسهيل عمليات الاعتقال، أمّا الفرع الرابع فيتطرق إلى اعتبار الاعتقال الإداري جريمة حرب وفقاً للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، والفرع الخامس والأخير يتناول الاعتقال الإداري كضرب من ضروب التعذيب النفسي المستمر.
تصاعد الاعتقال الإداري في الانتفاضات والهبّات الشعبية
على الرغم من أن سلطات الاحتلال تمارس الاعتقال الإداري بشكل دائم منذ بدء الاحتلال، فإنها تكثّف ممارسته في الانتفاضات والهبّات الشعبية بهدف قمع الصوت الفلسطيني المناهض للاحتلال، ولمنع أي مظاهر احتجاج؛ ففي الانتفاضة الفلسطينية الأولى وصل عدد المعتقلين الإداريين خلال سنتين، حتى عام 1989، إلى 1794 معتقلاً، وفي أوج الانتفاضة الثانية في عام 2003 وصل عدد المعتقلين الإداريين إلى 1007 معتقلين مقارنة بـ 34 معتقلاً في عام 2001.[1]
وفي أوج هبّة القدس التي انطلقت عام 2015، تصاعد عدد المعتقلين الإداريين أيضاً، الذين كان يبلغ عددهم، حتى نهاية عام 2014، 463 معتقلاً، ووصل إلى 685 معتقلاً في منتصف عام 2016.[2]
ومع بداية العدوان الشامل بحق الشعب الفلسطيني، ما بعد 7 أكتوبر 2023، بدأت سلطات الاحتلال بشن حملات اعتقال واسعة طالت شرائح الشعب الفلسطيني كافة، وتركزت الاعتقالات في بداية العدوان في الضفة الغربية والقدس والداخل الفلسطيني المحتل، إلى أن بدأ الاجتياح البري لقطاع غزة، وبدأت حملات الاعتقال الواسعة تطال الفلسطينيين في القطاع.
منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر حتى منتصف أيلول/ سبتمبر 2024، أي خلال ما يزيد على 11 شهراً، اعتقلت سلطات الاحتلال ما يزيد على 10,900 فلسطيني/ة من مناطق الضفة الغربية والقدس والداخل الفلسطيني المحتل، أفرجت عن بعضهم وأبقت على اعتقال الأغلبية. وفي خضم حرب الإبادة التي تمارس على الشعب الفلسطيني، وفي محاولات لمنع أي حراك أو احتجاج ضد الجرائم التي ترتكبها سلطات الاحتلال، قامت بتحويل 80% ممن جرى اعتقالهم إلى الاعتقال الإداري،[3] إذ صدر خلال 11 شهراً ما يزيد على 8872 أمراً إدارياً، بين أمر جديد وتجديد لأمر سابق، ليصل عدد المعتقلين الإداريين حتى منتصف أيلول/ سبتمبر 2024 إلى ما يزيد على 3400 معتقل، بينهم 40 طفلاً (أعمارهم أقل من 18 عاماً)، و27 من النساء.[4] وهذه الأعداد من الفلسطينيين المعتقلين إدارياً بشكل تعسفي هي أعداد غير مسبوقة، كما أنها الأعلى منذ عام 1967.
الاعتقال الإداري بحق الطلبة والمدافعين عن حقوق الإنسان
تستهدف سلطات الاحتلال، بشكل مكثّف وبصورة خاصة، طلبة الجامعات والمدافعين عن حقوق الإنسان بسياسة الاعتقال الإداري، إذ تعمل على إخماد وقود أي مبادرة أو حراك موجه ضد جرائم الاحتلال؛ فمن جهة تزج الطلبة والناشطين المجتمعيين داخل السجون رهن الاعتقال الإداري باعتبارهم طليعة العمل النضالي الشعبي الجماهيري، ومن جهة أُخرى تزج الصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في السجون باعتبارهم آلة للحشد الشعبي.
ونظراً إلى حالات الاعتقال الإداري في الأشهر الأخيرة، وفي ظل حرب الإبادة، يتبين أن معظم مَن قاد الحراك الشعبي والتظاهرات في الشوارع، وعدداً ممن شارك فيها قد تم اعتقاله وتحويله إلى الاعتقال الإداري، وأبرزها حالات اعتقال لشابات فلسطينيات، بعضهن طالبات، تم تحويلهن إلى الاعتقال الإداري على خلفية ممارستهن لحقهن في التجمع السلمي المكفول بموجب الاتفاقيات والمواثيق الدولية، والتي انضمت إليها دولة الاحتلال على مدار سنوات احتلالها. فبعد السابع من أكتوبر، اعتقلت قوات الاحتلال ما يزيد على 140 طالباً وطالبة من مختلف الجامعات الفلسطينية، جرى تحويل معظمهم إلى الاعتقال الإداري،[5] كما اعتقلت 15 نائباً سابقاً في المجلس التشريعي الفلسطيني، بمن فيهم النائبة السابقة خالدة جرار، وجرى تحويل 13 منهم إلى الاعتقال الإداري، وأفرجت لاحقاً عن معظمهم بعد انتهاء مدة الاعتقال الإداري، وبقي ثلاثة نواب سابقين اعتُقلوا بعد السابع من أكتوبر.[6]
وتسعى سلطات الاحتلال لتجريم أي فعل شعبي جماهيري مناهض للاحتلال وجرائمه والمعاقبة عليه، ولأنها غير قادرة على تقديم لوائح اتهام بحق النشطاء السياسيين والمجتمعيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، فإنها تلجأ إلى الاعتقال الإداري باعتباره أسهل وسيلة يمكن عبرها زج الفلسطينيين داخل السجون لأشهر وسنوات قابلة للتجديد إلى أجلٍ غير مسمى، من دون توجيه أي تهم بحقهم، ومن دون إجراءات محاكمة طبيعية، إذ يكفي أن تدّعي مخابرات الاحتلال أن المعتقل يشكل خطراً على أمن المنطقة. وفي الحقيقة هي محاولات لقمع الشعب الفلسطيني وترهيبه من خلال اعتقال كل مَن يقود حراكاً شعبياً جماهيرياً أو يشارك فيه.
ولا تكتفي سلطات الاحتلال بارتكاب جرائم فظيعة بحق الشعب الفلسطيني، بل تقوم باعتقال كل مَن يعمل على فضح هذه الجرائم بشتى الطرق، وبذلك هي تستهدف الصحافيين الفلسطينيين الذين يقومون بدورهم الطبيعي في فضح جرائم وممارسات الاحتلال من خلال النشر عنها على وسائل التواصل الاجتماعي، أو الحديث عنها في الراديو والتلفاز؛ فقد اعتقلت سلطات الاحتلال منذ السابع من أكتوبر 108 صحافيين، أفرجت لاحقاً عن بعضهم وأبقت على اعتقال 59 منهم، بينهم 7 صحافيات و14 صحافياً رهن الاعتقال الإداري.[7] أمّا مَن تبقى منهم فإنهم يخضعون للمحاكمة على لوائح اتهام بادعاء "التحريض"، أي أن كل من يتفوه بكلمة ضد الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني سوف يتم اعتقاله، حتى لو كان صحافياً يمارس عمله الصحافي المكفول أيضاً بموجب الاتفاقيات والمواثيق الدولية.
وفي ظل استهداف الاحتلال للمدافعين عن حقوق الإنسان، أكد الفريق العامل المعني بالاحتجاز التعسفي أن هؤلاء محميون بموجب القانون، وأن اعتقالهم إدارياً يثير مخاوف كبيرة بشأن الجهود الإسرائيلية الممنهجة لإسكات المدافعين عن حقوق الإنسان الفلسطينيين.[8]
وأبدى الفريق العامل المعني بالاحتجاز التعسفي مخاوفه من استخدام المحاكم العسكرية الإسرائيلية لمحاكمة المدنيين الفلسطينيين، وأوضح أنه يتم محاكمة المجموعات السياسية والصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان أمام هذه المحاكم في مخالفة للقاعدة العامة التي تعطي الاختصاص إلى المحاكم العسكرية لمحاكمة الأفراد العسكريين عن الجرائم العسكرية. وأكدت لجنة حقوق الإنسان أيضاً أن محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية يجب أن تكون استثنائية في الحالات التي تثبت فيها الدولة أنها لجأت إلى هذه المحاكمات لأسباب ضرورية ومبررة، وفي حالات عدم قدرة المحاكم العادية على إجراء هذه المحاكمات.[9] وفي ممارسة سلطات الاحتلال بحق الفلسطينيين المدنيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، فإنها تنتهك المعايير القانونية وتحاكمهم أمام محاكم عسكرية تفتقر إلى الحد الأدنى المطلوب لضمانات المحاكمة العادلة.
تعديلات قانونية هدفها تسهيل اعتقال الفلسطينيين إدارياً
تستخدم سلطات الاحتلال القوانين كأداة حرب في أثناء الانتفاضات والهبّات الشعبية من خلال إصدار قوانين وأوامر عسكرية حديثة، أو التعديل على القوانين والأوامر العسكرية السابقة، وذلك بهدف فرض مزيد من القمع والسيطرة بحق الشعب الفلسطيني، وإحباط وسائل وأدوات الاحتجاج والمقاومة.
فخلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وتحديداً عام 1988، قامت سلطات الاحتلال بإصدار الأمر العسكري رقم 1229 للضفة الغربية، ورقم 941 لقطاع غزة، وبموجبهما تم توسيع صلاحية إصدار أوامر الاعتقال الإداري بحق الفلسطينيين لتشمل ضابط برتبة عقيد أو أعلى، بعدما كانت صلاحية إصدار أوامر الاعتقال الإداري للقائد العسكري، كما أوقفت إجراء المراجعة القضائية أمام المحاكم لأوامر الاعتقال الإداري مع الإبقاء على حق المعتقل في تقديم استئناف إلى لجنة استشارية تقدّم لاحقاً توصياتها إلى القائد العسكري.[10]
أمّا بعد السابع من أكتوبر، فقد بدأت سلطات الاحتلال بإجراء سلسلة من التعديلات القانونية على الأوامر العسكرية والقوانين الإسرائيلية هدفها فرض مزيد من السيطرة على الشعب الفلسطيني. وفي هذا السياق، أعلنت الحكومة الإسرائيلية حالة الطوارئ الخاصة في 8 تشرين الأول/ أكتوبر، تبعها إصدار أول تعديل من خلال الأمر العسكري الموقت رقم 2141 بشأن عقد جلسات تمديد التوقيف والمراجعة القضائية لأوامر الاعتقال الإداري عبر تقنية الفيديو كونفرنس،[11] أي حظر إحضار المعتقلين وجاهياً إلى المحاكم، وتنفيذ الجلسات عن بعد، مع منع أهالي المعتقلين من التوجه إلى المحاكم وحضور الجلسات. وبعد ما يزيد على 5 أشهر، وتحديداً بتاريخ 10/3/2024، سمحت سلطات الاحتلال لفرد واحد فقط من العائلة بحضور جلسات المحاكم، بعدما كان يُسمح لشخصين حضورها سابقاً.
كما عملت سلطات الاحتلال على إصدار "تعليمات الساعة" والتي بموجبها تم تمديد فترة التوقيف لإصدار أمر اعتقال إداري حتى 144 ساعة، وكانت قبل التعديل 72 ساعة،[12] أي ضعف عدد الأيام التي كانت في السابق، وذلك نتيجة حملات الاعتقال الواسعة، والاستخدام الواسع لسياسة الاعتقال الإداري، وعدم قدرة سلطات الاحتلال على التعاطي مع كم الحالات الكبير في غضون الثلاثة أيام التي كانت محددة مسبقاً، وكل ذلك بهدف تسهيل اعتقال أكبر قدر من الفلسطينيين وتحويلهم إلى الاعتقال الإداري. كما حدد التعديل أنه يجب أن يمثُل المعتقل أمام القاضي لإجراء جلسة المراجعة القضائية خلال 12 يوماً من تاريخ صدور أمر الاعتقال الإداري، بينما كانت 8 أيام قبل إجراء هذا التعديل، وذلك أيضاً لفسح المجال أمام سلطات الاحتلال للتعاطي مع حالات الاعتقال المتصاعدة.
وعلى الرغم من هذه التعديلات التي جاءت لتسهيل عمليات الاعتقال، فإن سلطات الاحتلال تخرقها من خلال عدم الالتزام بما نصت عليه؛ فهناك عدد من الحالات الموثقة من قبل المحامين، والتي قامت فيها سلطات الاحتلال بعرض المعتقل على القاضي للمرة الأولى في اليوم التاسع من الاعتقال، في مخالفة لنص التعديل المذكور. وأبرز ما يعانيه المعتقلون خلال هذه الفترة، وفي ظل عدم حضورهم وجاهياً جلسات المحكمة، وعزلهم التام عن العالم الخارجي، هو عدم علمهم بنتائج الجلسات التي تُعقد لهم، لأن قرارات المحكمة في جلسات المراجعة القضائية أو الاستئناف، وأحياناً المحكمة العليا، تصدر في وقت لاحق، ويتبلّغ بها المحامي بعد مدة، في حين لا تصل إلى المعتقل داخل سجنه إلاّ بعد مرور عدة أيام، وأحياناً بعد أسابيع، على صدورها، ما يؤدي إلى عدم معرفته بالنتيجة. وكثيراً ما يتبلّغ المحامي والأهل بصدور تجديد أمر الاعتقال الإداري بحق المعتقل، من دون أن يعلم هو بهذا التجديد إلاّ بعد مدة قد تصل إلى أسبوعين.
الاعتقال الإداري جريمة حرب
وفقاً للأوامر العسكرية الإسرائيلية، فإن الحاكم العسكري الإسرائيلي للمنطقة هو المسؤول عن إصدار أوامر الاعتقال الإداري بحق الفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما يقع ضمن صلاحيات وزير الأمن الإسرائيلي للفلسطينيين من القدس المحتلة. وذلك يعني أن السلطة الإدارية هي صاحبة الاختصاص في احتجاز الفلسطينيين من دون أن يخضع إصدار الأوامر لأي جهة قضائية.
وتدّعي سلطات الاحتلال أنها تمارس الاعتقال الإداري وفقاً لاتفاقية جنيف الرابعة التي تتيح إمكانية احتجاز المدنيين إدارياً حسب المادة 78،[13] إلاّ إن هذه المادة قيّدت استخدام الاعتقال الإداري باعتباره الملاذ الأخير، ولأسباب أمنية قهرية وموقتة، بينما تمارس سلطات الاحتلال الاعتقال الإداري بشكل ممنهج وواسع النطاق بحق مختلف فئات الشعب الفلسطيني منذ قيام الاحتلال، وتستخدمه كبديل عن المحاكمة، أو كعقوبة بحق المعتقل، في مخالفة صارخة لنص اتفاقية جنيف الرابعة.
كما تخرق سلطات الاحتلال من خلال استخدامها للاعتقال الإداري على هذا النحو ضمانات المحاكمة العادلة، إذ نص نظام روما الأساسي الناظم للمحكمة الجنائية الدولية على أن تعمّد حرمان أي أسير حرب أو أي شخص آخر مشمول بالحماية من حقه في أن يحاكم محاكمة عادلة ونظامية يرقى إلى جريمة حرب تستوجب المساءلة والمحاسبة. وفي حالات الاعتقال الإداري، فإن المعتقل لا يحاكَم ضمن إجراءات المحاكمة النظامية، بل يُحرم من حقه في التبلّغ بطبيعة التهم الموجهة إليه، وبالتالي من حقه في الدفاع عن نفسه، ويتم فقط عرض المعتقل الإداري على قاض عسكري في جلسة المراجعة القضائية ليطّلع القاضي على المواد السرية المقدمة من النيابة العسكرية، ويقوم في معظم الحالات بتثبيت اعتقال المعتقل على كامل المدة المنصوص عليها في أمر الاعتقال الإداري. وتُعقد جلسات المراجعة القضائية بشكل سري وغير علني، ما يخرق أيضاً ضمانات المحاكمة العادلة، ويمنع أي رقابة خارجية على هذه الجلسات الصورية.
إن خروقات سلطات الاحتلال، سالفة الذكر، لضمانات المحاكمة العادلة في قضايا الاعتقال الإداري تشكل جريمة حرب وفقاً للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في المادة 8 فقرة أ بند 6، حيث لا يُحاكم المعتقلون الإداريون محاكمات عادلة أو نظامية، ويُحرمون من حقهم في التبلّغ بطبيعة التهم الموجهة إليهم، بالإضافة إلى عقد جلسات المراجعة القضائية والاستئناف بشكل سري وغير علني من دون تمكّن الجمهور من حضور هذه المحاكم ومراقبتها.
وفي سياق متصل، وعلى مدار سنوات، دانت عدة جهات دولية سياسة الاحتلال الممنهجة بالاعتقال الإداري، وطالب بعضها بوقف هذه السياسة بشكل نهائي؛ فقد أقرت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في ملاحظاتها الختامية على التقرير الدوري الرابع لدولة الاحتلال أن دولة الاحتلال تحتجز الفلسطينيين إدارياً بشكل تعسفي ومخالف للقانون، وطالبتها بوقف سياسة الاعتقال الإداري واستخدام الأدلة السرية في إجراءات الاعتقال الإداري، والتأكد من أن الأشخاص المعتقلين إدارياً إمّا أن تتم محاكمتهم على وجه السرعة في حال ارتكبوا مخالفة جنائية، وإمّا إطلاق سراحهم.[14]
الاعتقال الإداري.. تعذيب نفسي مستمر ومقاومة مستمرة
يشكّل الاعتقال الإداري ضرباً من ضروب التعذيب النفسي على المعتقل وعائلته ومحيطه، وذلك لعدة اعتبارات أبرزها: عدم وجود تاريخ محدد للإفراج، أي أنه لا يمكن للمعتقل معرفة، أو حتى توقُّع تاريخ الإفراج عنه، وفي إمكان سلطات الاحتلال تجديد الاعتقال الإداري في اليوم المحدد نفسه لانتهاء الأمر السابق وذلك في ظل الصلاحيات القانونية الممنوحة للقائد العسكري بتجديد الاعتقال الإداري إلى أجل غير مسمّى. كما تعيش عائلات المعتقلين الإداريين مستقبلاً مبهماً فيما يتعلق بالإفراج عن أحبائهم، ويخيّم المجهول على محيط المعتقل الإداري. وفي وصفٍ دقيق للمعاناة والتعذيب النفسي الذي يعانيه المعتقلون الإداريون، وصف المعتقل عبد الرازق فرّاج في كتابه عن الاعتقال الإداري لحظات الانتظار والترقب قبيل انتهاء مدة أمر الاعتقال الإداري بما يلي: "وتبدأ دوامة الانتظار والترقب في الشهر الأخير من الفترة المشار إليها عند دخول كل ورقة إلى القسم حيث يُحتجز المعتقل؛ هل هي قرار تجديد اعتقالي؟ العينان والأذنان تلتقطان كل حركة، ليتبدد الأمل في النهاية بوصول ورقة التجديد. واقع يتكرر مرات عديدة، عددها مرتبط بمدى الاستهداف ومحاولة الإخضاع والسيطرة. وقد تصل أوامر التجديد إلى عشرة أو أكثر."[15]
وفيما يتعلق بالمعتقلين الإداريين بعد 7 أكتوبر، فإن التعذيب النفسي مضاعف؛ أولاً بسبب فرض سلطات الاحتلال عزلاً تاماً على كل المعتقلين، ومنع الزيارات العائلية بشكل كامل، وهي الطريقة الوحيدة للتواصل الإنساني بين المعتقل الإداري وعائلته في ظل منع العائلات من حضور جلسات المراجعة القضائية والاستئناف للمعتقلين الإداريين. وثانياً بسبب مماطلة سلطات الاحتلال وتأخرها في تسليم المعتقل قرارات المحكمة أو أوراق تجديد اعتقاله الإداري، وبالتالي يبقى في حالة من الانتظار الطويل التي تسبب له معاناة نفسية كبيرة تضاف إلى جرائم التعذيب الجسدي والتجويع والتعطيش والإهمال الطبي المتصاعدة بحق الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
إن استخدام سلطات الاحتلال للاعتقال الإداري بحق مختلف فئات الشعب الفلسطيني هو جريمة دولية مكتملة الأركان، وتأتي حملة الاعتقالات الواسعة التي شنتها على مدار ما يقارب سنة من الإبادة المستمرة بحق شعبنا في قطاع غزة في إطار محاولات قمع الشعب الفلسطيني، ومنعه من ممارسة حقوقه الأساسية في التعبير عن الرأي والعمل السياسي وتقرير المصير. وعلى الرغم من عدم قانونية الاعتقال الإداري باعتباره اعتقالاً تعسفياً، والمطالبات الدولية الدائمة لدولة الاحتلال بوقف استخدام هذه السياسة، فإن سلطات الاحتلال تمعن في استخدامه بحق الفلسطينيين في ظل ثقافة الإفلات من العقاب التي يتمتع بها ضباط وقادة دولة الاحتلال، وتحديداً القائد العسكري المسؤول عن إصدار أوامر الاعتقال الإداري بشكل جماعي وممنهج وعلى نطاق واسع بحق مختلف فئات الشعب الفلسطيني من دون أي محاسبة.
وفي إطار مجابهة المعتقلين الإداريين لجريمة الاعتقال الإداري، قاموا باللجوء إلى مختلف الوسائل عبر التاريخ، كالإضرابات الجماعية عن الطعام، أو الإضرابات الفردية، بالإضافة إلى مقاطعة المحاكم العسكرية باعتبارها محاكم صوريّة.
وبدأت مواجهة المعتقلين الإداريين لهذه الجريمة في سنوات الانتفاضة الأولى، حين أعلنت الحركة الأسيرة إضرابات عن الطعام بين شباط/ فبراير وآذار/ مارس 1989 ضد ظروف الاعتقال الصعبة، وضد سياسة الاعتقال الإداري، وفي سنوات الانتفاضة الثانية بين عامي 2002 و2005، استخدم المعتقلون الإداريون عدة وسائل لمواجهة الاعتقال الإداري وتجديده المتواصل وظروف الاعتقال الصعبة، كرفض الامتثال لقرارات السجانين، والهتاف ضد الاعتقال الإداري وتجديده المتواصل، ورفض توقيع القرارات الجديدة أو استلامها.[16]
وشكّل عام 2014 فارقاً فيما يتعلق بمواجهة الاعتقال الإداري، حين قرر المعتقلون الإداريون خوض إضراب جماعي مفتوح عن الطعام ضد سياسة الاعتقال الإداري، انتهى من دون توقيع أي اتفاق بسبب ظروف خارجية أبرزها عدوان الاحتلال على قطاع غزة في حينه.[17] وعلى الرغم من عدم تحقيق مطالب المعتقلين الإداريين بإنهاء سياسة الاعتقال الإداري بشكل كامل، فإنها كانت خطوة مهمة ومنظمة توحد فيها المعتقلون لمجابهة هذه السياسة.
ولمّا كان المعتقلون الإداريون مدركين لدور المحاكم العسكرية الشكلي والصوري، بدأت مشاورات لبلورة موقف ضد هذه المحاكم العسكرية، باعتبار القضاة العسكريين أداة من أدوات النظام العسكري الاستعماري، وافتقار هذه المحاكم إلى الحد الأدنى المطلوب لضمانات المحاكمة العادلة، وبناء عليه اتخذ المعتقلون الإداريون خطوة جماعية بمقاطعة المحاكم العسكرية في عام 2018، وجاء في بيان لجنة المعتقلين الإداريين ما يلي: "إيماناً أن حجر الاساس في مواجهة سياسة الاعتقال الإداري الظالمة يكمن في مقاطعة الجهاز القضائي الصهيوني، الذي يسعى دائماً لتجميل وجه الاستعمار البشع، وبكلمات أُخرى لن ندعهم يثبتون الأكاذيب حول التزامهم بالقانون الدولي ووجود رقابة قضائية مستقلة."[18]
وفي نهاية عام 2021، قرر المعتقلون الإداريون مجدداً خوض مقاطعة شاملة للمحاكم العسكرية، ابتداءً من بداية عام 2022، تحت شعار "قرارنا حرية"، وجاء في مقدمة البيان الصادر عن لجنة المعتقلين الإداريين أنه: "واستكمالاً لما قام به الأسرى الإداريون من خطوات سابقة لمواجهة هذا الاعتقال الظالم وهذه السياسة التعسفية، ولمّا كانت المحاكم العسكرية الإسرائيلية جزءاً مهماً لدى الاحتلال في منظومته لقمع كل قوى شعبنا الحيّة، بل ومحاصرة وسلب ونهب كل حق فلسطيني، ومنها حق الفلسطيني في حريته، بل كانت تلك المحاكم أداة همجية عنصرية قضمت مئات السنوات من أعمار أبناء شعبنا تحت مطرقة الاعتقال الإداري، عبر محاكم صورية وشكلية مقررة نتيجتها مسبقاً من قبل قائد المنطقة العسكري، وزاد تغوّل هذه السياسة ضد الأطفال والنساء وكبار السن والمرضى وعموم كوادر ونشطاء شعبنا تحت مبررات واهية ولأهداف تطال كسر إرادتنا وكي وعي الفلسطيني...."[19]
وعلى الرغم من كل محاولات المعتقلين الإداريين لمواجهة هذه السياسة التعسفية بشتى الطرق، ومراكمة العمل على مدار سنوات لتأسيس حالة جماعية ومنظمة للضغط لإنهاء هذه السياسة بشكل كامل، فإن سلطات الاحتلال تحاول بكل الوسائل التصدي لنضالات الحركة الأسيرة عبر سلسلة من الإجراءات لقطع التواصل بين الأسرى والمعتقلين وعزلهم عن بعضهم البعض لمنع أي خطوات منظمة ضد منظومة الاحتلال.
وفي ظل تصاعد الهجمة الشرسة التي يتعرض لها الأسرى والمعتقلون في سجون الاحتلال بعد السابع من أكتوبر 2023، ومحاولات سلطات الاحتلال منعهم من مواجهة هذه الهجمة، عملت هذه السلطات منذ البداية على إغلاق الأقسام والغرف داخل السجن ومنع تنقل الأسرى فيما بينها، بالإضافة إلى التوقف عن التعامل مع ممثلي الأسرى، بحيث أصبح التواصل مع إدارة مصلحة السجون يتم بشكل فردي في كل ما يتعلق بالحياة في المعتقل، كما تم نقل قيادات الحركة الأسيرة إلى زنازين العزل، وانقطع التواصل بشكل تام فيما بينهم، باستثناء القابعين في الغرفة نفسها. ومنعت إدارة مصلحة السجون خروج الأسرى والمعتقلين إلى ساحة "الفورة" بشكل كامل، بهدف منع تواصل الأسرى من مختلف الغرف بعضهم مع بعض، ولاحقاً بعد عدة أشهر، سمحت للأسرى بالخروج إلى ساحة الفورة لساعة واحدة فقط، ولكل غرفة، أو غرفتين بحد أقصى، على حدا.
وكل هذه الإجراءات هدفها الأساسي عزل الأسرى والمعتقلين بعضهم عن بعض لمنع أي تواصل فيما بينهم، وأي محاولة لتنظيم احتجاج ضد ظروف الاعتقال الصعبة، أو ضد سياسة الاعتقال الإداري المتصاعدة بشكل كبير جداً، ما يجعل من الصعب على هؤلاء الأسرى والمعتقلين مواجهة جرائم الاحتلال المختلفة بحقهم في هذه المرحلة.
[1] معطيات عن الاعتقالات الإدارية في الضفة الغربية، بتسيلم، انظر.
[2] المصدر نفسه.
[3] "الاعتقال الإداري والتحريض"، مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، على الرابط.
[4] تقرير إحصائي صادر عن مؤسسات الأسرى (هيئة شؤون الأسرى والمحررين، نادي الأسير الفلسطيني، مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان)، للمزيد على الرابط.
[5] معلومات من وحدة التوثيق والدراسات في مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، مع العلم بأن هذا الرقم هو فقط ما تم إحصاؤه من خلال الباحثين الميدانيين، والعدد الفعلي هو أعلى.
[6] المصدر نفسه.
[7] إحصاءات وحدة التوثيق والدراسات في مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان.
[8] رأي رقم: 68/2022 بخصوص المعتقل بشير الخيري، تبناه الفريق العامل المعني بالاحتجاز التعسفي في جلسته الخامسة والتسعين.
[9] رأي رقم: 13/2023 بخصوص المعتقل صلاح حموري، تبناه الفريق العامل المعني بالاحتجاز التعسفي في جلسته السادسة والتسعين.
[10] عبد الرازق فراج، "الاعتقال الإداري في فلسطين كجزء من المنظومة الاستعمارية" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2020)، ص 15.
[11] الأمر رقم 2141 بشأن عقد الجلسات من خلال الفيديو كونفرنس للأسرى والمعتقلين والمحتجزين خلال حالة الطوارئ (تعليمات موقتة) (يهودا والسامرة) 2023، ساري من تاريخ 15/10/2023.
[12]الأمر بشأن تمديد مواعيد الاعتقال الإداري (السيوف الحديدية) (تعليمات موقتة) (يهودا والسامرة) رقم 2148 لعام 2023، بتاريخ 20/10/2024.
القوانين المستحدثة والتعديلات القانونية خلال عام 2023، مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان: https://www.addameer.org/ar/media/5347
[13] المادة 78 من اتفاقية جنيف الرابعة المؤرخة في آب/ أغسطس 1949: "إذا رأت دولة الاحتلال لأسباب أمنية قهرية أن تتخذ تدابير أمنية إزاء أشخاص محميين، فلها على الأكثر أن تفرض عليهم إقامة إجبارية أو تعتقلهم. تتخذ قرارات الإقامة الجبرية أو الاعتقال طبقاً لإجراءات قانونية تحددها دولة الاحتلال وفقاً لأحكام هذه الاتفاقية. وتكفل هذه الإجراءات حق الأشخاص المعنيين في الاستئناف. ويبت بشأن هذا الاستئناف في أقرب وقت ممكن. وفي حالة تأييد القرارات، يعاد النظر فيها بصفة دورية، وإذا أمكن كل ستة شهور، بواسطة جهاز مختص تشكله الدولة المذكورة."
[14] الملاحظات الختامية للجنة حقوق الإنسان على التقرير الدوري الرابع لدولة لإسرائيل، التقرير باللغة الإنكليزية.
[15] فرّاج، مصدر سبق ذكره، ص 38.
[16] المصدر نفسه، ص 67.
[17] المصدر نفسه، ص 68.
[18] بيان صادر عن مؤسسة الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، بتاريخ 13/2/2018.
[19] بيان صادر عن لجنة المعتقلين الإداريين في سجون الاحتلال، بتاريخ 20/12/2021.