Elias Khoury’s Working Day at "Majallat al-Dirasat al-Filastiniyya"
Date: 
October 01 2024
Author: 

كُتب الكثير عن عزيزنا الراحل الياس خوري، الأديب والمناضل، وكُتب أقل عنه كصحافي لامع ولمّاح يعرف كيف يوائم اللحظة الصحافية الراهنة مع مجلة دراسات تلامس الاستراتيجيات بصورة أكبر، كما نُشر قليلاً، أو حتى لم يُنشر، أو ربما لم يتسنَّ لي الاطلاع على ما نُشر، عن الحضور الشخصي "المهضوم" لالياس في يوميات عمله، والحديث هنا عن يومياته في الطبقة السابعة في مبنى مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت، حيث مكتب المجلة.

أتصدى لهذا الوجه من وجوه الياس الكثيرة، انطلاقاً من تماس يومي على مدى قرابة 11 عاماً، عاينت خلالها وصوله إلى مكتب المجلة، وكيف يفتتح صباحه، ويستكمل نهاره، حتى موعد مغادرته. وفي هذا الوجه من وجوهه، الهضامة والنكتة، والجدية في العمل، في آن واحد.

حتى الساعة العاشرة صباحاً، أو بعد ذلك قليلاً، تكون الطبقة السابعة في مبنى مؤسسة الدراسات الفلسطينية، حيث مكاتب "مجلة الدراسات الفلسطينية"، هادئة إلى درجة الملل، ليس فيها سوى التحيات الصباحية وبعض حديث سريع، بعدها يلتحق الجميع بمكاتبهم.

ثم تنقلب الطبقة السابعة رأساً على عقب لدى وصول الياس الذي نُدركه قبل أن نراه: "وينكن... يلا بدنا نشرب قهوة"... بعد ذلك نراه، وتبدأ جلسة القهوة التي يُعدّها هو، أو يبادر أحد منّا إلى تحضيرها.

لن يشرب القهوة وحيداً، وإنما علينا أن نلتحق به في غرفته حيث تعلو لوحة كبيرة ليافا خلف مكتبه، وتسود فوضى كتب منثورة هنا وهناك فوق المكتب. وإن تأخر أحد منّا عن الالتحاق بجلسة القهوة، يناديه باسمه أو يطلب من أحد منا مناداته.

فاكهة جلسة القهوة الدائمة هي عبارة عن أبيات من قصائد أمهات الشعر العربي، وعلى رأسها قصائد للمتنبي التي يُعجب بها الياس، لكنه ليس الشاعر الوحيد، بل هناك أيضاً امرئ القيس، وقصائد من زمن الأندلس، وكثير من الشعر الحديث: خليل حاوي، ومحمود درويش، صديق الياس، الذي حدّثنا عنه كثيراً، وأخبرنا عن تجارب مرّا بها، وطرائف عاشاها سوياً، وبدر شاكر السيّاب، وغيرهم... وأيضاً عن إدوارد سعيد صديقه الآخر أيضاً.

جلسة القهوة ليست الفسحة الوحيدة في صباحات الياس خوري في مؤسسة الدراسات، فمن وقت إلى آخر لا بد من فطور جماعي لمن هم في الطبقة السابعة؛ يبدأ ذلك بسؤال من الياس: "شو بدنا نتروق اليوم؟" و"الترويقة" المفضلة لديه هي الفول من عند القاووق، وهو مطعم قديم في بيروت، يوصي به الياس، يقدم الفول والحمص والفتة. ولا بأس أيضاً إذا ما كان الفطور عبارة عن مناقيش.

و"ترويقة" الفول أو المناقيش، ليست مساحة للأكل فقط، بل هي مساحة للمرح والضحك والتعليقات و"التزريكات"، ولجمع من هم في الطبقة السابعة، لتبادل أطراف الأحاديث.

بعد جلسة القهوة، أو "الترويقة"، يبدأ العمل؛ نقاش في التطورات، والاحتمالات، وما لدينا من أفكار لملفات العدد الحالي من المجلة، أو للأعداد اللاحقة، وما تجمّع لدينا من مواد، وما تم إنجازه من المواد المتفق عليها، مما كلّفنا بها، أو كلّف بها كتاباً آخرين... ولا تغيب الطرافة عن جلسات العمل أيضاً، ذلك بأنها عنصر دائم في حياة الياس.

وأهم ما افتخر به الياس من إنجازات، هو صدور أعداد المجلة في وقتها المحدد، إذ لا مجال لتأجيل صدور عدد ودمجه في العدد الذي يأتي بعده، فضلاً عن الملفات التي نُشرت في المجلة: انتفاضة بيروت عام 2019، وتفجير المرفأ عام 2020، وجائحة كورونا، وأهم الأهم هما ملف الأسرى، وملف غزة الأخير الذي أداره الياس وهو على فراش المرض.

رحل الياس ومجزرة غزة لا تزال مستمرة، والتطهير العرقي المتدحرج في الضفة قائم على قدم وساق، وإسرائيل النزقة والمدعومة من مستعمري الأمس واليوم في دول الغرب أسقطت صواريخها وقنابلها الأميركية الصنع على قرى الجنوب والبقاع وضاحية بيروت، في عدوان مستمر ومتمادٍ أيضاً؛ حبيبتا الياس، فلسطين ولبنان، تعانيان... وهو الغائب الحاضر.

ستبقى "مجلة الدراسات الفلسطينية: التي أحبها الياس ورعاها واعتبرها، وهي كذلك، آخر وأهم المنشورات التي ترفع راية القضية الفلسطينية وتتابع تفاصيل الصراع العربي - الفلسطيني مع الصهيونية... لكن ستغيب وإلى الأبد جلسات القهوة والشعر والحديث عن الحب والجمال والنكات والضحك... وفول القاووق.

Read more