في 2 تموز/ يوليو الماضي، أعلنت الدكتور ميساء أبو ستة، في صفحتها على "فيسبوك"، إنشاء مخيم "سيبقى الأمل"، وهو مبادرة مجانية مدتها 10 أيام للترفيه عن الأطفال وتعليمهم، تستهدف الطلبة، ذكوراً، من الصف الأول حتى الثالث، وإناثاً، من الصف الأول حتى السادس. أقيم هذا المخيم في شارع الهلال القديم في حي الأمل في خان يونس، وهذا المكان هو بيتها، أو بدقة أكثر، بقايا بيتها، بعد أن دمرته آلة الحرب الإسرائيلية.
صورة مرسلة من قبل ميساء أبو ستة لبيتها المدمر، ولتعليم الطلبة فيه
مدرسة وخبرات
لم تبدأ قصة أبو ستة، من مخيمها آنف الذكر، فقد كانت مديرة مدرسة "رواد المستقبل النموذجية الخاصة" في خان يونس؛ تلك المدرسة التي تتكلم عنها بكثير من الحب والحنين والحسرة: "كانت تضم مدرستي مكتبة، ومسرحاً، وقاعات رياضية، ومختبر حاسوب، ومختبر علوم، وساحات واسعة، وطلبة رائعين"، لكن، كما تقول: "هذا كله أصبح من الماضي، بعدما طال المدرسة ما طالها من التدمير، والطلبة بين مصاب وشهيد ويتيم."
ميساء أبو ستة، حاصلة على دكتوراه في اختصاص المناهج وطرق التدريس، من جامعة "القرآن الكريم وتأصيل العلوم" في السودان، بعد أن نالت الماجستير من جامعة الأزهر، والبكالوريوس من جامعة الأقصى. عملت منسقة مشاريع للدعم النفسي والاجتماعي للأطفال في قطاع غزة خلال الفترة 2005 - 2008، ولاحقاً مديرة مدرسة خاصة في خان يونس.
كانت مدرستها تقع في منطقة معن شرقي خان يونس، وتوضح أن "هذه المنطقة ما زالت ضمن مناطق العمليات العسكرية الخطرة"، أمّا بيتها فيقع في "حي الأمل غربي المحافظة، وقد سُمح لنا بالعودة إلى الحي منذ شهر [أرسلت أبو ستة الإجابات بتاريخ 31 تموز/يوليو] بعد نزوح دام 6 أشهر، في محافظة رفح خلال العملية العسكرية في خان يونس."
صورة مرسلة من قبل ميساء أبو ستة لمدرستها قبل الحرب
نزوح و"بوابة الأمل"
رحلة نزوح أبو ستة وعائلتها، بدأت يوم 5 كانون الأول/ ديسمبر 2023، عندما خرجت من خان يونس نحو محافظة رفح. وفي آخر نيسان/ أبريل الماضي، نزحت مجدداً من رفح إلى شرقي خان يونس هذه المرة، لكنها عادت إلى منزلها المدمر في أواخر حزيران/ يونيو. مع عودتها، لم تنتظر كثيراً لتعبّر عن شغفها برسالتها التعليمية، فأعلنت إنشاء مخيمها الصيفي الذي بدأ فعلياً في 1 تموز/ يوليو، مع أن الإعلان بشأنه وضعته في صفحتها في اليوم التالي. وكان هناك استجابة كبيرة، على الرغم من الظروف المعروفة في قطاع غزة كافة.
وتشير هنا، إلى أنها حين عودتها إلى منطقة بيتها في خان يونس، كان العام الدراسي بحسب توقيته المعتاد، وفقاً لقرارات وزارة التربية والتعليم العالي، قد انتهى: "عندما بدأت الحرب، كنا في نهاية الشهر الأول من العام الدراسي، أي أن عاماً دراسياً كاملاً سقط فعلياً من أجندتنا التعليمية، ومن أعمار طلابنا، وأصبح ضمن الفاقد التعليمي في قطاع غزة."
تمسُّك الأهالي بعلم أبنائهم دفع الدكتورة ميساء أبو ستة إلى تطوير فكرة المخيم، انطلاقاً من خبرتها الطويلة في التربية والتعليم، فافتتحت روضة ومركز "بوابة الأمل" مع متطوعات ومتطوعين في سلك التعليم.
صورة مرسلة من قبل ميساء أبو ستة لبيتها المدمر، ولتعليم الطلبة فيه
إرادة وإرادة
التحديات كانت بالمرصاد، عدا أن الواقع في القطاع كله كان في حد ذاته تحدياً، مع استمرار حرب الإبادة المسعورة على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وكانت أولى التحديات أمامها، إيجاد مكان ملائم. تقول أبو ستة عن ذلك: "لم أجد منزلاً واحداً سليماً في الحي يصلح لتنفيذ الفكرة، فجميع المنازل مدمرة، إمّا كلياً، وإمّا جزئياً. عندئذ قررت استقبال الطلبة في الطبقة الأرضية من منزلي المُدمر أيضاً، وكانت هذه الطبقة في السابق، تضم ثلاثة محال تجارية، وبحمد الله وتوفيقه، استطعت إزالة الركام من المكان، وتجهيزه من بقايا أثاث مدرسي تمكنت من الحصول عليه وترميمه."
لم تتوقف التحديات عند حد المكان، فكثيرون حولها شعروا باللاجدوى من هذا العمل، تقول أبو ستة: "معارف لي، وكذلك زملاء في سلك التدريس، أكدوا لي عدم جدوى التجربة، ونصحوني بعدم المجازفة، فمَن يرسل طفله إلى التعليم في هذه الظروف؟ فضلاً عن سؤال الاستمرارية في ظل الانقطاع التام عن الحاجات كلها التي تحتاجها العملية التعليمية." ولعل السؤال عن الاستمرارية كان مؤرقاً، كما توضح، وتضيف أيضاً: "إن أغلبية حاجات الروضة لم تكن متوفرة، فكل قلم استطعنا توفيره، خضنا من أجل الوصول إليه مغامرة، فالأسواق خالية تماماً من الأقلام والكرّاسات، والألوان، والسبورات، وحتى الأثاث. كل شيء نسعى لتوفيره كنا كمَن يبحث عن إبرة في كومة قش، وإن عثرنا على غايتنا نجد سعرها يتجاوز على الأقل 10 أضعاف سعرها الأصلي."
صورة مرسلة من قبل ميساء أبو ستة لبيتها المدمر، ولتعليم الطلبة فيه
تعليم بين الأنقاض
على الرغم من هذا كله، فإن أبو ستة لم تستسلم، وقررت تنفيذ فكرتها: "أعدت التواصل مع مَن استطعت من فريق العمل السابق الذي كنت أعمل معه، وأعلنّا البدء بالبرنامج التعليمي المقرر العمل عليه، وكانت خطتنا إنشاء شعبة واحدة لطلبة البستان (KG1)، وشعبة واحدة تمهيدي (2KG)، وشعبة واحدة لطلبة الصف الأول الأساسي. وكانت القدرة الاستيعابية لدينا 60 طالباً كحد أقصى، لمدة ساعتين يومياً، وعلى هذا كنا قد قررنا الانطلاق بحسب ما يُسمح لنا بالبقاء في الحي، إذ قد نتلقّى قرار إخلاء في أي لحظة."
المفاجأة جاءت عكس ما قاله الناس لها، بأن الأهالي لن يرسلوا أبناءهم إلى التعليم في ظل الظروف الحالية، وكان أن "الحد الأقصى لعدد الطلبة أُغلق بعد يومين فقط من إعلان الفكرة للجمهور. وبدأ الضغط من الأهالي لقبول المزيد، الأمر الذي اضطرنا إلى تمديد العمل 3 فترات خلال اليوم لاسقبالهم. وبعد مرور أسبوعين وجدت عشرات المطالبات من الأهالي بأن يشمل البرنامج فئات أُخرى من الطلبة." وتضيف أبو ستة: "لقد وجدت حرصاً كبيراً، وكذلك خوفاً لدى الأهالي من تراجع مستوى أبنائهم، ولا سيما أنهم لم يمسكوا ورقة أو قلماً على مدار نحو تسعة أشهر، ولم يتلقوا أي تعليم."
توسعت المبادرة، وصارت تحتضن طلبة أكثر وأكثر، تقول أبو ستة: "وسط مباركة أهالي الحي وتشجيعهم للفكرة، نعمل الآن مع ما مجموعه 215 طالباً وطالبة من مرحلة البستان حتى الصف السابع"، وتلفت إلى أنها، خلال 10 أعوام من مسيرتها التعليمية، لم تشهد قط "اهتماماً والتزاماً من الطلبة وأولياء الأمور، كالذي أشهده في هذه الأيام." وتضيف: "طلبت من المعلمات تزويدي بأسماء الطلبة الذين لا يلتزمون بكتابة الواجبات المنزلية، فكان ردهم، لا يوجد أحد."
صورة مرسلة من قبل ميساء أبو ستة لبيتها المدمر، ولتعليم الطلبة فيه
لم يعودوا أطفالاً
تشير الدكتورة ميساء أبو ستة إلى جانب إيجابي في مبادرتها، وهو التفريغ النفسي للأطفال: "بالحديث مع أقرانهم عمّا واجهوه خلال الحرب من نزوح وفقد ومعاناة، فمشاعرهم مرهفة تجاه بعضهم، حتى إن كتابة الكلمات، وتكرار نسخها، لم يعودا عبئاً عليهم، وإنما باتا وسيلة للانشغال عمّا يدور حولهم. وأنا أستمع يومياً إلى قصصهم ومغامراتهم وأوجاعهم."
وتوضح أبو ستة أن أطفال القطاع لم يعودوا أطفالاً قط، وتقول: "لقد تغيّرت سمات مراحل النمو لدى أطفالنا، فشعورهم بالمسؤولية تجاه جلب الماء، والبحث عن وقود للنار، واهتمامهم بأشياء خارج حدود اهتمامات الأطفال، كلها أمور جعلتهم يتجاوزون حدود الطفولة التي يعهدها العالم."