عندما طُلِبَ مني كتابة تجربتي في سجون الاحتلال الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر، شعرت كما لو أنهم يطلبون مني أن أفتح جرحاً لم يلتئم بعد، وأن أنتزع كل حرف بألم. لكن كتابة هذه التجربة كانت ضرورية كشهادة على معاناة الضحايا داخل ظلمات السجون الإسرائيلية. إنها نافذة سريعة تطل على عالم العذابات التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون، وخصوصاً بعد السابع من أكتوبر 2023، وشاهد على تعذيبهم المرئي والمخفي داخل الزنازين.
تنشر مؤسسة الدراسات هنا سلسلة من الحلقات حول هذه التجربة:
الحلقة الثالثة
التجويع الممنهج والحرمان من الماء والكهرباء
أصبح على عاتقنا عبء آخر، وهو إخفاء بعض الأساسيات مثل ملح الطعام والسكر، لكن في النهاية، الغرفة محصورة والمكوث فيها موقت، إذ يمكن نقلك في أي وقت إلى مكان آخر. أذكر أننا قمنا بإخفاء القليل من الملح في زوايا الشباك، كما قمنا بإخفاء السكر الذي تم تغليفه في قطعة نايلون صغيرة في الملابس الداخلية.
تحمل هذه الخطوات عواقب وخيمة، ففي حال عثر السجانون على شيء من الأشياء المخبأة، يتعرض مَن في الغرفة لعقوبات قاسية، منها الضرب المبرح والحرمان من الاستحمام، على الرغم من ندرته، وقطع الكهرباء، وسحب الفرش والأغطية من الغرفة من الصباح الباكر حتى المساء.
وأدى هذا الوضع إلى قناعة، بعد مناقشات مطولة واختلاف في وجهات النظر بين الأسرى أنفسهم، بعدم جدوى الإخفاء، وأنه من الأفضل التسليم بما هو متاح والاستعداد لأي تغييرات محتملة. ولم يكن التجويع يتم بحرمان الأسرى من الطعام تماماً، وإنما من خلال عدم توفير كميات كافية منه، ما يؤدي إلى نقص الغذاء وتعرضهم للجوع الدائم. والهدف من هذه السياسة هو إرهاق الأسرى، وترهيبهم، وكسر إرادتهم وصمودهم.
بداية الأمر، كان الطعام الذي يُقدم غير صالح للاستهلاك، فقد كنتُ أفضل الجوع على تناول طعام غير ناضج ولا طعم له. ومع مرور الوقت، لم تكن هناك خيارات أُخرى سوى تناول هذا الطعام. وبالطبع، لا تُسمن وجبات الطعام ولا تُشبع من الجوع.
منذ الأسبوع الأول شرع بعض الأسرى في الصيام، كوقاية من الجوع، بينما اعتاد آخرون على جمع الوجبات في وجبة واحدة، فيتم تناول وجبات الإفطار والغداء والعشاء في وجبة واحدة في المساء؛ وأنا كنت من هؤلاء، وذلك كي أشعر بالشبع، الذي لم أعرفه لمدة قاربت الـ 7 أشهر.
قلة الطعام خلقت أعرافاً جديدة بين الأسرى، كالمقايضة؛ فمثلاً بعضهم يقايض حصته من الخبز بحبة خيار أو علبة من اللبن. كذلك كانت تنشب مشاجرات بين الأسرى على تقسيم الطعام. ففي غرفتي اتفقنا على تكليف واحد من أفراد الغرفة بتوزيع الطعام، كما اتفقنا على أن النقص في الطعام يوزع على الأفراد، كما الزيادة في حال توفرت، وبذلك تجنبنا أكثر المشكلات شيوعاً بين الأسرى.
ووجبات الطعام التي تُقدم هي عبارة عن مجموعة محدودة من الأطعمة على مدار الأسبوع، وكانت الكميات تختلف بين السجون؛ ففي سجن النقب، كان النظام يشمل 7 شرائح خبز يومياً للأسير، بينما في السجون الأُخرى كانت 12 شريحة. وكانت قائمة الطعام الأسبوعية تشمل فقط: شرائح من الخبز، والبرغل، والأرز، والبطاطا المسلوقة، والنقانق، والشنيتسل، ونصف حبة خيار، ونصف حبة بندورة، ونصف حبة جزر، وعدس، وحمص حب، وفاصولياء بيضاء.
وبالإضافة إلى الآثار الصحية، يمكن أن يؤثر التجويع المستمر في علاقات الأسرى الاجتماعية والصحية الطويلة الأمد، إذ يمكن أن يتسبب التجويع في زيادة المخاطر الصحية، مثل مشكلات القلب والجهاز الهضمي على المدى الطويل. حدثني سائد عن تجربته فقال لي: "كنا نعاني من الجوع الشديد، وكنت أتمنى أن أشبع من الماء. بعد ذلك، صار لدي قلة تركيز، كنت أجلس على الفراش ببساطة، حتى أصبحت غير قادر على التحدث مع الآخرين بشكل طبيعي من شدة التعب والإرهاق."
بمرور الوقت، أصبحت الظروف التي يواجهها الأسرى مصدراً للتندر والفكاهة. كنت أسمع من زملائي بعد كل وجبة طعام عبارات مثل: "اشتهينا الملح ولم نجد لأنه غير متوفر"، وكانت هناك أسئلة بسيطة مثل: "ماذا لو زادوا لنا حبة أو حبتين بطاطا؟" مع أنه سؤال مشروع، يعكس الطبيعة الاستعمارية. كانت هذه العبارات تعبّر عن مواقف الاحتياج والتساؤلات البسيطة التي تعكس الظروف القاسية التي يمرون بها.
عبارة: "هذا ريجيم الخاوة، ريجيم بن غفير" كانت تُستخدم بين الأسرى للتعبير عن مشاعر الإحباط والتعاطف مع النفس في آن واحد. وتعكس هذه العبارة روح الدعابة والسخرية التي تُستخدم كوسيلة للتغلب على الظروف الصعبة.
على الصعيد الشخصي، كنت أشعر بمعنى الحرمان من الطعام لحظة الإفطار في شهر رمضان، فكنت أسرح في التفكير، وأعود في الذاكرة إلى مائدة البيت ومائدة السجن قبل 7 أكتوبر، حين كانت "الكانتينا" توفر لنا معظم الطعام واللحوم والمعلبات، بالإضافة إلى الحليب والألبان وغيرها من الحلويات والتسالي.
ناجح أسير محرر قابلته على باب أحد المشافي فحدثني قائلاً: "كان وزني قبل 7 أكتوبر أكثر من 100 كيلوغرام، وعندما أفرجوا عني كان وزني حوالي 75-80 كيلوغراماً. خضعت مباشرة لفحوصات طبية، وتبين أن لدي نقصاً حاداً في الفيتامينات، وخصوصاً فيتامين D وB1، والأمر الأخطر هو زيادة إفرازات الكبد. حالياً، أنا تحت علاج ومتابعة طبية، وهذا الأمر مرهق نفسياً أيضاً."
عندما تم نقلي من سجن النقب إلى سجن مجدو بتاريخ 4 شباط/ فبراير 2024، مكثنا ليلة واحدة في سجن الرملة "المعبار". والقسم المخصص للأسرى الأمنيين كان في سجن مخصص للجنائيين، وهناك قدموا لنا طبقاً من الأرز مع ملح وبهارات. التهمت هذا الطعام بشراهة، حتى إنني كنت أتناوله من دون وعي.
التجربة في سجن مجدو كانت مختلفة تماماً، حيث كان يُقدم للأسرى يومياً أقل من ربع كأس من الشاي الخفيف، وفي كل بداية أسبوع كانوا يحصلون على نصف ملعقة من الشوكولاتة أو المربى فقط. كان الأسرى ينظرون إلى هذه اللحظات بشيء من الإنجاز والتميز عن باقي السجون. ومع مطلع الأسبوع كانت المقارنة المعتادة، كيف كان الأسرى في السابق يلقون هذا النوع من الشوكولاتة في القمامة لرداءتها، أمّا اليوم فأصبحوا يتشاجرون فيما بينهم للحصول عليها.
كان نقص الطعام أبرز الأسباب لكثير من الأمراض التي أصابت الأسرى، وأبرزها الإمساك المعوي، الذي يسبب مرض الباسور. كل هذا في ظل إهمال طبي متعمد، وفي ظل الحرمان من الحصول على الرعاية الصحية اللازمة، والمنع من زيارة الأطباء وأطباء الأسنان.
في السابق كان الأسير يخرج إلى العيادة في أي وقت يشاء، وكان يحصل على الدواء من الممرض الذي كان يتجول بين الأقسام كل يوم تقريباً، بالإضافة إلى الدواء المخصص للأمراض المزمنة الذي كان يوزع أسبوعياً. كل ذلك توقف بشكل تام يوم 7 أكتوبر. حتى المرضى الذين يعانون من السكري وارتفاع ضغط الدم لم يحصلوا على الغذاء المناسب لحالتهم الصحية. وكان توزيع الأدوية مقتصراً على حبة الأكامول فقط، ولم يتم وفقاً للاحتياجات الطبية، بل بناءً على مزاج الممرض الذي يوزع الأدوية.
في أحد الأيام، طلبت من الممرض دواءً لألم في أذني، فجاء رده: "هل يحصل الأسرى في غزة على دواء؟ أنت هنا في نعيم، والأفضل أن تموتوا وتعودوا إلى عوائلكم في أكياس سوداء". في بعض الحالات الصعبة كان يتم إخراج المريض إلى العيادة وهو مقيد اليدين ورأسه مطأطأ إلى الأرض، بالإضافة إلى تعرضه للضرب والإهانة.
قطع المياه والكهرباء
وتسبب أيضاً قطع المياه بالأمراض، فقد كانت إدارة سجن النقب تقوم بقطع المياه عن الأسرى لمدة 23 ساعة يومياً، ثم تعيد تشغيلها لمدة ساعة واحدة فقط من الساعة 2 إلى 3 ظهراً. وفي بعض الأحيان، كانت هذه الفترة أقل من ساعة. وقد تسبب هذا النظام بمعاناة حقيقية للأسرى.
كانت المياه تتوفر لساعة واحدة في اليوم، فإذا كان لديك محكمة، أو زيارة من المحامي في هذا الوقت، كانت تفوت عليك فرصة استخدام المياه. وكنا 10 شباب في الغرفة، لذا كان كل منا يحصل على 6 دقائق فقط لاستخدام الماء، ما يعني أنهم كانوا مضطرين إلى دخول دورة المياه، وغسل وجوههم، وشرب الماء، وغسل أطباقهم البلاستيكية، كل ذلك في 6 دقائق فقط.
كذلك يؤدي قطع المياه إلى نقص في المياه النظيفة التي تستخدم للشرب والغسيل، ما يضع الأسرى في خطر الإصابة بالأمراض المعدية والمشكلات الصحية المتعلقة بنقص السوائل، مثل الجفاف والتشققات في الجلد.
والمشكلة أننا لا نملك قنينة ماء، لذا بعد الساعة التي تتوفر فيها المياه نبقى عطشى. الأمر الذي يؤدي إلى صعوبة الحصول على الماء اللازم للنظافة الشخصية اليومية، ما يزيد من خطر الإصابة بالعدوى والأمراض الجلدية، مثل الجرب (السكابيوس) وغيرها من الأمراض الجلدية المجهولة للأسرى.
وكانت قد أشارت هيئة الأسرى في بيان لها إلى عدة أسباب لانتشار الأمراض الجلدية، مثل انعدام وجود مواد تنظيف، ومنع الاستحمام والتعرض لأشعة الشمس، بالإضافة إلى الظروف الجوية الملائمة لانتشار المرض، مثل الرطوبة وارتفاع الحرارة داخل بعض السجون ما يساهم في التعرق.
وأوضحت الهيئة أن كل أسير يُسمح له بالاستحمام مرة واحدة فقط كل أسبوع، إذ يتم تخصيص 60 دقيقة لكل مجموعة من 20 أسيراً للاستحمام. فيما ذكر نادي الأسير الفلسطيني أن تصاعداً كبيراً وغير مسبوق في أعداد الأسرى المصابين بأمراض جلدية في السجون الإسرائيلية، بما في ذلك مرض الجرب المعدي، إلى جانب إصابة الأسرى بأمراض جلدية معدية أُخرى لم يتم تحديد طبيعتها بدقة.
ومن أولى العقوبات التي فرضتها إدارة مصلحة السجون منذ اليوم الأول للحرب كانت تقليص ساعات الكهرباء في السجن، إذ تم قطع الكهرباء من السادسة صباحاً حتى السادسة مساءً. وفي بعض السجون، مثل سجن النقب، وصل الأمر إلى قطع الكهرباء بالكامل على مدار 24 ساعة.
بدايةً، كان قطع الكهرباء أمراً عادياً، لكن مع مرور الوقت بدأت أشعر بالعزلة، إذ كان هناك افتقار للاتصال بين الأسرى، لأن كل أسير يذهب إلى النوم، إن استطاع، بسبب الظلام، بالإضافة إلى الهزل والإعياء نتيجة الظروف الحياتية الصعبة، الأمر الذي يجعلك تشعر بفقدان الراحة النفسية. وفي بعض الأحيان، كان الظلام يسود بعد السادسة مساءً، مثل القبر تماماً، وكان ضابط فرقة العدد يحمل مصباحاً يدوياً كي يتمكن من عد الأسرى.
بعد أن تأقلم الأسرى على قطع الكهرباء، تم تشديد العقاب بإعادة التيار الكهربائي على مدار 24 ساعة، ومنع إطفاء الأضواء داخل الغرف. هذا التشديد تسبب في زيادة الأرق وصعوبة النوم لدى الأسرى، أي أن الإضاءة هي أحد الأساليب المستخدمة للتضيق عليهم. وبعد مرور ثلاثة أشهر على الحرب، مُنعنا من إطفاء الأضواء؛ كانت الأنوار تبقى مضاءة من الساعة السادسة مساءً حتى السادسة صباحاً، وكان هذا مرهقاً للعيون، فلم نكن نستطيع النوم.
وأحد السلوكيات القاسية التي تنتهجها إدارة السجون الإسرائيلية هي إفزاع الأسرى من النوم في أوج العتمة، وتُعتبر جزءاً من سياسات الضغط النفسي والتعذيب ضد الأسرى، وتتضمن أساليب إفزاع الأسرى من النوم، الإضاءة المستمرة، وإصدار أصوات مزعجة، والتشغيل المتكرر للإنذارات، والتخويف بواسطة القنابل الصوتية أو الكلاب، وإيقاظ الأسرى بصورة مفاجئة خلال ساعات الليل لأغراض التفتيش.
في الواقع، لم نعرف طعم النوم لفترة طويلة من الوقت. عندما تدق الساعة 12 منتصف الليل، كانت إدارة السجن تشغل الأغاني باللغة العبرية عبر مكبرات الصوت، أتذكر أغنية "عام يسرائيل حاي" وغيرها.
بعد مدة من الوقت، أصبح تشغيل الأغاني العبرية عبر مكبرات الصوت تجربة يتعامل الأسرى معها بطريقة ساخرة أحياناً. في الوقت الذي كان يتأخر فيه بدء تشغيل الأغاني وقرابة الساعة 12 بعد منتصف الليل، كان الأسرى يبدأون بالقول: "يلا، ليش ما بدأت الحفلة؟" أو يعبرون عن أمانيهم بسماع دحية أجمل.
في الأيام الأولى من وجودي في سجن النقب، كانت لدي تجربة مزعجة مع الطرق على الأبواب. بعد منتصف الليل، كنت أستيقظ باستمرار على صوت الطرق على باب الغرفة، إذ كان السجان أو السجانة يطرقون بالعصا أحياناً. كان هذا الوضع يستمر طوال الليل، وفي بعض الأوقات يتم إجراء تفتيش ليلي يصاحبه نباح الكلاب. أمّا في النهار، لم يكن هناك نوم، إذ كنا دائماً نترقب تفتيشاً أو عملية قمع.