تقوم هذه المقالة على استقصاء مفهوم "النصر المطلق" لدى رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، كما تعمل على الإضاءة على سياسته في التعامل مع المخاطر الشخصية التي تمس مقعده ووظيفته، إذ يقوم بتصوير تلك المخاطر المزعومة كما لو كانت خطراً قومياً يستهدف الكيان برمته. كما تهدف المقالة إلى تحديد معنى النصر المطلق؛ تلك العبارة الضبابية التي يصعب تحديد مغزاها من الوهلة الأولى.
لقد عاش نتنياهو ما يقارب ثلاثة عقود من حياته في أميركا قبل أن يصبح رئيساً للحكومة الإسرائيلية، وبدأ يعدّ نفسه لخوض معترك الحياة السياسية، فعاد من أميركا، واستخدم عدداً من المستشارين الاستراتيجيين، والخبراء في مجالات الإعلام ولغة الجسد والعلاقات العامة، كأرتور فنكلشتاين، ووظف عدداً من مختصي استطلاعات الرأي ورؤساء الحملات الانتخابية المعروفين، كريتشارد فالترين، لكي يستفيد من تجاربهم في استمالة الجمهور والكسب السريع لأصوات ذلك الجمهور. ونتنياهو، بحسب الكاتب الصحافي بن كاسبيت، هو ممثل بارع، يتقمص الشخصيات، ويقدم إلى كل طرف الوعود والشعارات التي يحب سماعها من دون الحاجة إلى أن يؤمن بها أو يصدقها؛ فهو ممثل يؤدي دوراً. أمّا الهدف الاستراتيجي، فهو السيطرة على ديوان رئيس الحكومة لأطول فترة ممكنة، وذلك عبر تحييد الخصوم الخارجيين والمنافسين الداخليين على حد سواء.[1]
صناعة رئيس الحكومة القادر على توفير السلعة
عمل نتنياهو عبر استشارة ومرافقة حثيثة من مستشاره فنكلشتاين، وقامت نظرية العمل عنده على قراءة استطلاعات الرأي المعمقة الخاصة بالمجتمع الإسرائيلي – اليهودي – وتحديد اتجاهات المجتمع في مختلف القضايا والموضوعات، ثم صناعة – تفصيل – شخصية سياسية مألوفة ومقبولة عند المجتمع، بحيث يردد الشعارات التي يحب اليمين الإسرائيلي أن يسمعها، علماً بأن نتنياهو علماني في جوهره وتربيته، وبعيد عن الدين، ويسخر من الطقوس والشعائر الدينية بصورة عامة، ولا يتردد في الوقت ذاته في اللعب على الوتر الديني، ولا يوجد أدل على ذلك من العبارات التي همس بها إلى أحد رجال الدين اليهود (الحاخام كادوري) في الحملة الانتخابية قائلاً له: "لقد نسي اليسار ما معنى أن تكون يهودياً."[2]
وإذا كان الهدف هو ديوان رئيس الحكومة، فبالتالي، كل الطرق والمواقف والأساليب التي تضمن وصوله تُعتبر مشروعة، ومن هنا تمت صناعة نتنياهو؛ من روح نظريات التسويق التي تأثر بها في الولايات المتحدة على مدى ثلاثة عقود، وهي ببساطة: قراءة اتجاهات السوق ورغبات الناخبين، ثم تفصيل شخصية على مقاس هذه الرغبات وتلك الحاجات، وذلك بعد تزويد نتنياهو بكل التكتيكات والمواهب التي يحتاج إليها أي ممثل سينمائي، لأنه، كما يقول الكاتب الصحافي بن كاسبيت؛ ممثل يتناول السيناريو ويتقن قراءته.
ممثل أم قائد؟
تدرب نتنياهو أشهراً عديدة على مهارات الوقوف أمام الكاميرا، والتعامل مع المايكروفون، نزولاً عند أدق التفاصيل المتعلقة بزاوية التصوير ونبرة الصوت، ثم استخدام العبارات التي فيها سجع، ولها إيقاع، لما تحمله من الأثر البليغ في الجمهور، إذ تنتشر بسرعة وتترسخ إلى أن يتم تصديقها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد زرع بين مؤيديه عبارت كـ "إمّا بيبي وإمّا الطّيبي" بمعنى "انتخبوا بنيامين نتنياهو (بيبي اختصاراً)، وإلاّ فإن البديل هو حكم العرب!"، و"لا عباس ولا ’حماس‘"، وذلك في إشارة إلى إصراره على مواصلة الحرب على غزة وعدم استعداده لتسليم الحكم هناك إلى طرف فلسطيني، فضلاً عن شعار ثالث "الانتصار المطلق – أمن مطلق" وشعار آخر يندد بـ "حماستان"، في إشارة إلى طالبان وأفغانستان، وذلك عملاً بتوصيات فنون السجع المتمثل في عبارات قصيرة – سهلة الحفظ – وواسعة التأثير، وأساساً شعبوية يلتقطها العامة، وتنتشر بسهولة بين جمهور المصوتين الممكنين في الانتخابات![3]
وماذا عن الصدقية؟ نلاحظ على سبيل المثال، لا الحصر، أن نتنياهو أدخل ملايين الدولارات في كل عام إلى القطاع، ولم يُسقط نظام "حماس"، ولم يهاجم إيران، ولم يحقق الأمن الشخصي ولا الانتعاش الاقتصادي، فكانت السياسات مخالفة للوعود، والشعارات في وادٍ والممارسات في وادٍ آخر. لا يهم أن يكون لهذه الشعارات تعبير أو رصيد على أرض الواقع، ولا يهم إن كانت لها صدقية أو معنى، إنما المهم أنها ساحرة ومؤثرة، وكفيلة بزيادة عدد الناخبين لشخص نتنياهو، فبعد قرابة عقدين من الحكم، أصبح هو الكيان، وهو الليكود، وهو اليمين الحقيقي "المهدَّد".[4]
النصر المطلق: على من بالضبط؟
من الواضح أن نتنياهو تعلّم الدروس من فترات ولاياته السابقة (1996، 2009، 2015، وغيرها)، وقرر تصفية الحسابات مع عدد من مظاهر السلطة والإدارة، وخصوصاً تلك التي تناولت قضايا الفساد التي تدور بشأنه، فقرر أن يعيد ترتيب مؤسسات القضاء، والشرطة، والإعلام، وذلك بصورة تضمن عدم تهديدها لسلطته ونفوذه في المستقبل، ومن هنا، رأت النورَ صحيفة "يسرائيل هيوم" المملوكة لشلدون أدلسون قبيل انتخابات 2009، ووُزعت مجاناً، وكانت إحدى الأدوات والتدابير الهادفة إلى إعادة نتنياهو إلى الوعي الجماهيري، والترويج له بعد خسارته المدوية أمام زعيم حزب العمل بقيادة باراك سنة 1999. وقد آتت تلك الدعاية أُكُلها، وذلك إلى حد وصل إلى أن يقول أحد أعضاء مركز حزب الليكود (شلومي فاكنين) ما يلي: "منذ أيام الملك داود، لم تُرزق إسرائيل بقائد بحجم نتنياهو."[5]
يمكن أن يتمثل الانتصار المطلق بحسب مدرسة نتنياهو بالفوز على المعارضة بالمزايدات والتحريض، فهو يقدم المواعظ إلى الحكومة السابقة (حكومة بينت - لابيد) بأنها تحالفت مع منصور عباس، رئيس القائمة العربية الموحدة، بصفتها فرعاً للإخوان المسلمين في إسرائيل، علماً بأن نتنياهو أجرى مفاوضات مع تلك القائمة على دخول حكومته، وتوقفت المفاوضات بسبب خلاف على التفاصيل، لا على المبدأ.
وحقق نتنياهو نصراً على الشرطة الإسرائيلية التي لاحقته وحققت معه، فحوّلها إلى ما يشبه السيرك، وشرطة ميليشياوية في خدمة اليمين، وذلك بأن عيّن بن غفير وزيراً مسؤولاً عنها، فأصبح إنفاذ القانون في قوانين الهدم والبناء في المناطق العربية يتم بصورة انتقائية، وبدوافع عنصرية، وصار التساهل مع متظاهري اليمين المتطرف، والعنف ضد متظاهري اليسار، معياراً من معايير الترقية في سلك الشرطة، إذ اضطر قائد شرطة تل أبيب، عامي إيشد، إلى الاستقالة على خلفية توترات بينه وبين الوزير بن غفير، حين اتهمه الأخير بالتساهل مع المتظاهرين ضد الانقلاب القضائي، وعدم فض تظاهراتهم بقوة وحزم كما هو متوقع.[6]
وانتقل نتنياهو من الشرطة إلى الإعلام، فحقق النصر المطلق عليه، بدعمه قناة اليمين المتطرف الشعبوي الداعم بصورة مطلقة لسياساته ولشخصه "القناة 14"، وتشجيعه لظهور عدد من الصحافيين الموالين من اليمين المتطرف، فأنشأ وكرّس بذلك صحافة سطحية وموالية وشعبوية، والتي من ثمارها محرر صحيفة "يسرائيل هيوم" السابق بوعاز بيسموت، الذي فاجأ المراقبين في الانتخابات الأخيرة، وذلك بحصوله على مكان مرتفع في قائمة الليكود، ودخوله الكنيست كأحد أهم الداعمين والمدافعين عن نتنياهو.
وحقق نتنياهو الانتصار المطلق على المعارضة بأن حافظ على الائتلاف الحكومي لأطول فترة ممكنة، وذلك عبر توزيع الوعود على كل شركائه في مقابل سلامة الائتلاف الحكومي. وقد تمثّل النصر المطلق في المعايير العائلية – الأسرية عند نتنياهو بعدم إبرام صفقة، وبالتالي، إنقاذ الائتلاف الحكومي، ثم الهروب من المحاكمة، والبقاء لأطول فترة ممكنة في الحكم.[7]
أمّا عن القضاء، فقد قطع نتنياهو شوطاً في تحقيق النصر المطلق عليه حتى قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، وذلك عبر محاولاته تنفيذ الانقلاب القضائي، ووضْع اليد على السلطة القضائية بتعيين القضاة، وبالتالي، تهديدهم إن لم يخضعوا، بمعنى إلغاء مبدأ فصل السلطات، والتدخل في عمل القضاة، وتهديدهم بالإيقاف عن العمل إذا تجرأ أحدهم على محاسبة رؤسائه، صناع القرار، فجاء 7 تشرين الأول/أكتوبر ووضع حداً للانقلاب!
هذا الانتصار المطلق يشمل توزيع الوعود بفرض التجنيد على المتدينين (الحريديم)، وعدم فرض التجنيد في آن واحد، والعمل على توقيع صفقة تبادل وعدم توقيع صفقة تبادل، وإرضاء أميركا بالسير في صفقة تبادل أسرى، وعدم تنفيذ أي وعد من الوعود المقطوعة أمام أميركا. والعجيب هنا هو ذلك الافتتان برأس الحكومة الإسرائيلية والتصفيق له على نحو استعراضي من طرف أعضاء الكونغرس. كيف زرعت حكومة إسرائيل الخوف في قلوب ممثلي الشعب الأميركي، في الوقت الذي يكسر فيه الفلسطيني كل حواجز الخوف؟
لقد أخذ مؤيدو نتنياهو زعيمهم على محمل الجد، وكذلك كثير من المعارضين، فاختلط عليهم عالم المفاهيم، واستثمروا كثيراً من الوقت والجهد في تحليل معنى عبارة "النصر المطلق"، لأن كل ما يهم رئيس الحكومة الإسرائيلية هو النجاة الشخصية، حتى قبل الدولة والجيش والنازحين والرهائن.
لقد صنع نتنياهو لنفسه ذلك المفهوم المضلل والخاص للنصر؛ فالانتصار المطلق هو عدم خسارة المقر الرسمي لرئيس الحكومة، ولا موكب السيارات، ولا فريق الحماية، ولا الهدايا، ولا الرحلات على حساب الدولة، ولا تلك الهالة الملكية التي اكتسبها نتنياهو بعد قرابة عقدين من الحكم. ويحتار المراقب هنا في مغزى النصر المطلق: هل هو نصر على "حماس" في الحرب على غزة؟ أم إنه نصر على مؤسسات الدولة التي تجرأت على الكشف عن ملفات نتنياهو من القضاء إلى الشرطة إلى الإعلام؟ أم هو النصر الشخصي لنتنياهو وزوجته سارة في الاحتفاظ بالمكانة المرموقة المتمثلة في مظاهر السلطة والعيش على حساب الدولة؟ يبدو من الأمثلة ومجريات الأحداث أن النصر المطلق هو ذلك النصر الشخصي للثنائي نتنياهو؛ تلك الأسرة الملكية التي تعيش هاجس التهديد والملاحقة، وتؤكد باستمرار أنها ضحت بفرصة ذهبية، فبدلاً من أن تتجه إلى مجال المال والأعمال في أميركا، فقد اختارت حكم الشعب اليهودي وإدارة شؤونه، ومن هنا، تظن الأسرة الحاكمة أنه يحق لها ما لا يحق لغيرها.[8]
قلّما يقف الإعلام عند المزايا الشخصية في تحليل النمط القيادي، وهناك علاقة قوية بين فترة حكم نتنياهو الطويلة نسبياً ومقارباته في التعامل مع الملفات الداخلية والخارجية، وذلك ضمن قاعدة فحواها أن السلطة المطلقة فساد مطلق، إذ يرى نتنياهو في كل انتقاد موجه إلى سياساته خطراً شخصياً عليه، وليس مجرد انتقاد موضوعي يتعلق بإخفاقاته في الحكم، ويعتبر البقاء في الحكم هدفاً أسمى وأولية قصوى يجب عليه تحقيقها بكل ثمن وطريقة ممكنة. أمّا مؤيدوه، فأصبحوا ينادونه "بيبي ملك إسرائيل"، فهو خالد في وعيهم، وبالتالي، فإن بقاءه المؤبد في الحكم مفهوم ضمناً.
وفق هذه المفاهيم، انتصر نتنياهو إلى حد الآن، وفاز في لعبة الظهور الإعلامي، وفي تكريس الكيمياء التاريخية بينه وبين الكاميرا، وفي تسويق الشعارات، وفي التنبؤ بالمؤامرات التي تحاك ضد وظيفته (كرسيه)، والعمل على إحباطها قبل حدوثها. أمّا المطلوب والمأمول على أرض الواقع؛ فمن يكترث بالواقع إذا ما عاش الملك؟
[1] بن كاسبيت، "بنيامين نتنياهو، بيوغرافيا" (تل أبيب: يديعوت – حيمد، الجزء 2، 2021).
[2] بن كاسبيت، "بنيامين نتنياهو، بيوغرافيا" (تل أبيب: يديعوت - حيمد، الجزء 1، 2018).
[3] المصدر نفسه.
[5] "ثلاثون سنة نتنياهو"، فيلم وثائقي، قناة "كان" (بالعبرية)، سلطة البث الإسرائيلية، تل أبيب، 2018.
[6] ليرون ليفي، "استقالة عامي إيشد"، "واي نت"، 5/7/2023.