قبل اندلاع العدوان على قطاع غزة، كانت تدير معلمة اللغة الإنكليزية دينا، عكاشة (24 عاماً)، مركزاً تعليمياً في مخيم جباليا، مسقط رأسها. وكان مركز "مساق التعليمي" هو الأول من نوعه في المخيم الذي يقدم دروساً خصوصية وخدمات تعليمية شاملة لطلبة جميع المراحل الدراسية، من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية. وكان المركز يضم فريقاً متميزاً ومتعاوناً من المعلمات، وسرعان ما أصبح أهم مركز للتعليم في المنطقة.
لكن في غضون أيام من بدء العدوان، تعرض خلالها المركز للقصف وتحول إلى أنقاض، فقدت دينا المركز التعليمي الذي عملت بجد لتأسيسه، وكانت تأمل في تطويره وتوسيع نطاق خدماته. وعلى الرغم من هذه الخسارة المؤلمة، فإن دينا تواصل اليوم رسالتها التعليمية، وتسعى جاهدة وسط معاناة النزوح وأحلك الأوضاع لتوفير التعليم للأطفال الذين حُرموا منه منذ أكثر من تسعة أشهر.
وقد استلهمت دينا فكرتها خلال رحلة نزوحها من شمال قطاع غزة إلى جنوبه. وفي مخيم رفح للنازحين، الذي أصبح ملاذ عائلتها الجديد، شهدت تحولاً مأساوياً في حياة الأطفال، ومغايراً لما اعتادته قبل بدء العدوان، إذ وجدت الأطفال في طوابير طويلة للحصول على الطعام عوضاً عن وجودهم في مقاعدهم الدراسية، وأصبحت أيديهم تحمل أوعية المياه بدلاً من الدفاتر والأقلام. وقد دفع هذا المشهد الذي قلب حياة الأطفال رأساً على عقب، بالإضافة إلى شغفها في التعليم وإحساسها بالمسؤولية تجاه أبناء شعبها والحاجة الملّحة إلى مواصلة التعليم، إلى البدء في رحلة البحث عن خيمة تستقبل فيها الأطفال لتعليمهم، ووجدتها فرصة لاستثمار وقتها بعد أن وجدت نفسها بلا عمل أو إنتاج، ومواجهة التحديات النفسية التي فرضها العدوان عليها وعلى أبناء غزة كافة.
أرادت دينا تأمين خيمة خاصة بها لمشروعها التعليمي، لكن أسعار الخيم الباهظة التي تجاوزت الألف دولار شكلت عائقاً كبيراً أمامها، وهو ما دفعها إلى البحث عن دعم خارجي بعد أن استُنفدت إمكاناتها المادية في تأمين الحاجات الأساسية. وتوضح دينا: "فقدت مركزي التعليمي بسبب القصف، وما ادخرته سابقاً أنفقته على تأمين الضروريات الباهظة الثمن من طعام وشراب." لذلك، فقد توجهت إلى إدارة مخيم النزوح في رفح، عارضة عليها فكرة مبادرتها التعليمية، ونظراً إلى كون هذا المخيم أكبر مخيمات النزوح في رفح، وبلغ حد طاقته لاستيعاب الخيم، فقد اقترحت الإدارة حلاً بديلا،ً وهو استخدام خيمة المصلى الواسعة للتدريس صباحاً، بحيث يقتصر استخدامها من الساعة السابعة صباحاً حتى الثانية عشرة ظهراً، قبل موعد صلاة الظهر. وبهذا الحل، نجحت دينا في تأمين مساحة كبيرة تكفي لاستيعاب أعداد كبيرة من الأطفال داخل المخيم.
استطاعت دينا نشر فكرة الخيمة التعليمية عبر جولتها في المخيم، إذ كانت تزور الخيام واحدة تلو الأُخرى، معرّفة بنفسها لأهالي الطلبة، شارحة مبادرتها التعليمية ومواعيد الحصص ومكانها، ولاقت إقبالاً كبيراً من الأهالي والطلبة. وأضافت قائلة: "رأيت أن أفضل طريقة لنشر مبادرتي التعليمية هي أن أتجول بين الخيام بنفسي، فمهما يستغرق الأمر من وقت، سواء أكان ساعتين أم أكثر، فإن هذا الجهد والتعب كله يهون في سبيل إنجاح فكرتي، واستقطاب أكبر عدد من الطلبة لتعليمهم."
برزت خيمة مساق التعليمية كأول خيمة تعليمية في المخيم، وكانت تستقبل يومياً أكثر من 300 طالب من مختلف الأعمار، وهو ما دفع دينا إلى تقسيمهم إلى ثلاث فئات: إبتدائي، وإعدادي، وثانوي. وركزت جهودها على تدريس اللغة الإنكليزية لسد الفجوة التعليمية التي خلّفها العدوان الإسرائيلي، وفي هذا الصدد تقول: "بدأت من الصفر." وتضيف: "تعاملت مع الطلبة وكأنهم لا يعرفون القراءة والكتابة، واخترت التركيز على تأسيسهم في اللغة الإنكليزية نظراً إلى الضعف العام الذي يعاني جرّاءه الطلبة جميعهم في هذه المادة." ولم تحصر دينا عملها في اللغة الإنكليزية فقط، بل أيضاً نوعت في المواد التعليمية، كاللغة العربية والرياضيات بين الحين والآخر. وتردف: "كان الطلبة أنفسهم يقترحون عليّ تدريس الرياضيات واللغة العربية، ولأنني متمكنة من هذه المواد، كنت ألبي رغبتهم لكسر شعورهم بالملل، لأنهم كانوا يلتزمون الحضور إلى الخيمة من دون أي تغيب."
واستمرت دينا في تقديم خدماتها التعليمية في مخيم النزوح في رفح لمدة ثلاثة أشهر ونصف، ومع تصاعد وتيرة الأحداث في رفح، اضطرت هي وعائلتها إلى النزوح مجدداً إلى دير البلح، وسعت لاستئناف خيمتها التعليمية في مخيم النزوح في دير البلح، لكنها واجهت تحديات مماثلة لما شهدته في رفح، إذ إن ارتفاع أسعار الخيام حالت دون مقدرتها على توفير خيمة خاصة بها، لذا، فقد توجهت إلى إدارة مخيم "الست أميرة"، وهو أحد مخيمات النزوح في مدينة دير البلح، بحثاً عن خيمة، ونظراً إلى تكدس المخيم، فقد اقترحت الإدارة فكرة بديلة، وفي هذا الصدد، تقول دينا: "عرضت عليّ الإدارة استخدام العيادة الطبية بعد انتهاء دوامها الرسمي عند الساعة الثالثة عصراً، حيث أقدم دروساً لمدة ثلاث ساعات يومياً."
وفي الوقت الحالي، تستقبل دينا في خيمتها التعليمية في مخيم "الست أميرة" نحو 100 طالب، وهذا العدد آخذ في الازدياد، ويتوافد الطلبة من مختلف المراحل الدراسية، وتقوم دينا بتنظيمهم في مجموعات وفقاً لأعمارهم، بينما تركز أيضاً على تأسيسهم باللغة الإنجليزية.
وتسعى دينا جاهدة لتوفير القرطاسية والمواد التعليمية اللازمة للطلبة، وفي غياب الدعم من المؤسسات، اعتمدت على مواردها الشخصية المحدودة لتأمين بعض المستلزمات الأساسية لضمان استمرارية العملية التعليمية. لكن في ظل تزايد أعداد الطلبة، تسعى دينا لتقديم المزيد لطلبتها، لكنها تواجه تحديات في تلبية جميع حاجاتهم في ظل شح الموارد، فتقول: "تمكنت من توفير القرطاسية والمواد الأساسية من مالي الخاص. كما تلقيت العديد من الوعود من بعض المؤسسات والأفراد، لكنني لم أحصل على أي دعم. ومع ازدياد أعداد الطلبة، بدأت أطلب منهم مشاركة الأوراق والأقلام بين بعضهم البعض."
وتهدف مبادرة دينا إلى مكافحة الجهل الذي يمكن أن ينتج من انقطاع الطلبة عن التعليم لفترة طويلة، كما تشدد على أهمية تذكير الأطفال بدورهم الأساسي كطلبة، فهي تدرك أن واقع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة فرض عليهم مسؤوليات شاقة وغير معتادة، كالانتظار في طوابير طويلة لتوفير الطعام والمياه وجمع الحطب لإشعال النار مع عائلاتهم في الخيام. لذلك، فهي تسعى لتوفير مساحة يومية، ولو لساعة واحدة، يقوم خلالها الطفل بدوره الطبيعي كطالب يمسك الأقلام والدفاتر، ويتعلم القراءة والكتابة. كما أن جهودها في خيمة مساق التعليمية لا تقتصر على الجانب التعليمي فقط، بل أيضاً تقدم فعاليات ترفيهية لكسر الشعور بالملل، فهي تخصص وقتاً للاستماع إليهم والتحدث إليهم محاولةً التخفيف من الآثار النفسية والطاقة السلبية التي خلّفها العدوان. وتضيف قائلة: " لاحظت تراجعاً وحدوث فجوة في المستوى التعليمي للطلبة، وهذا أمر طبيعي ومتوقع في ظل الأوضاع التي يمرون بها. لكن للتخفيف من تبعات هذا الأمر، الذي سيظهر بوضوح بعد انتهاء العدوان، فقد سعيت عبر مبادرتي لتوفير مساحة للأطفال وتذكيرهم بأهمية التعليم. أردت أن أؤكد لهم وأذكّرهم بأن مكانهم الطبيعي هو في مقاعد المدرسة، وأنه يجب عليهم المحافظة على هويتهم كطلبة، حتى لو فرض عليهم العدوان القيام ببعض المسؤوليات والأعمال الشاقة."
حظيت مبادرة دينا بإقبال كبير من جانب الأطفال على الرغم من التحديات الصعبة المتمثلة في ارتفاع درجات الحرارة داخل الخيمة، وغياب المقاعد الدراسية، ومستلزمات التعليم الأساسية. تقول دينا: "أرى حماسة ملحوظة لدى الأطفال وشوقاً واضحاً للعودة إلى أجواء المدرسة، حتى إن الأطفال الذين يمرون عادة بجوار الخيمة ويشاهدون السبورة والطلبة والمعلمة ينضمون إلينا في اليوم التالي."
لم يكن واقع التدريس داخل الخيمة سهلاً، إذ واجه أوضاعاً صعبة مقارنة بأوضاع عمل دينا السابقة في مركزها التعليمي. وكانت في مخيم النزوح في رفح، تواصل التدريس لمدة خمس ساعات يومياً تحت حرارة الشمس القوية نظراً إلى ارتفاع عدد الطلبة. أمّا في مخيم "الست أميرة" في دير البلح، فهي تكابد مشقة المواصلات للوصول إلى الخيمة التي تبعد عن مكان إقامتها.
وعلى الرغم من كل هذه الأوضاع والتحديات، فإن دينا تصر على مواصلة رسالتها التعليمية، وتلبية رغبة الطلبة في طلب العلم، وتقول: "ألتزم التدريس يومياً لمدة ثلاث ساعات على الأقل. صحيح أن أوضاع الخيمة سيئة وغير معتادة عليها، لكنني ممتنة لقدرتي على الاستمرار في أداء مهنتي التي أحبها. وعلى الرغم من أن الأطفال في هذه الأوضاع الاستثنائية التي يمرون بها يحتاجون إلى جهد وطاقة أكثر كثيراً، فإنني غير مستاءة أبداً، واستمراري حتى هذا اليوم هو دليل على القوة التي منحني إياها الله."
تطمح دينا عبر مبادرتها "خيمة مساق التعليمية"، المستوحاة من اسم مركزها التعليمي الذي أسسته سنة 2021 في مخيم جباليا، إلى ترك بصمة إيجابية حتى في خضم العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، ودافعها الأساسي ليس الربح المادي، إنما خدمة أبناء شعبها الذين حُرموا حقهم في التعليم.
كما تحمل في قلبها أمنية بسيطة، فتقول: "أتمنى أن أجمع كل أطفال غزة في مكان واحد لأعلّمهم وأقدم إليهم الدعم النفسي. لدي المقدرة على مواساة الأطفال والتخفيف عنهم. وبعد أن التقيت في مخيمات النزوح كثيراً من الأطفال، ازدادت رغبتي في الوصول إلى الجميع. أعلم أن هذا الحلم ربما يبدو مستحيلاً، وصعب المنال، فهو يتجاوز مقدرتي كإنسانة، ولا يوجد مكان أصلاً يتسع لكل الأطفال في آنٍ واحد، ومع ذلك، فقد أردت مشاركة هذه الأمنية."
على الرغم من نجاح دينا في إطلاق مبادرة "خيمة مساق التعليمية"، فإنها ترفض بشدة اعتبار الخيمة بديلاً دائماً للمدرسة. فمنذ بداية مبادرتها، حرصت على إقناع الطلبة بأن هذه الخيمة مجرد حل موقت، مؤكدةً باستمرار أن المدارس هي المكان الأنسب لتعليمهم، رافضة أي اقتراح لتبنّي أي نظام تعليمي دائم داخل الخيام. وتوضح دينا قائلة: "تجربتي في التدريس داخل الخيمة أكدت لي استحالة اعتبارها بديلاً. أذكّر الأطفال دائماً بأن الخيمة ليست مكانهم الدائم، ولا أريدهم أن يعتادوا هذا المشهد، وأؤكد لهم أن الخيمة حل موقت، وأنهم يستحقون العودة إلى المدارس والمراكز التعليمية التي تليق بهم كأي طالب في العالم."
تتطلع دينا كغيرها من سكان قطاع غزة إلى انتهاء الإبادة الجماعية والعودة إلى حياة طبيعية تخلو من صوت القصف ومشاهد الدمار والركام، رافضين أن تصبح مشاهد العدوان والخيام جزءاً من حياتهم اليومية، أو أن تسلب منهم حقهم في عيش حياة طبيعية. وتأمل دينا أن ينتهي كابوس العدوان، وتعيد افتتاح مركزها التعليمي لتنهض بغزة وشعبها مجدداً.