كثيراً ما كنت أحلم بقضاء حياتي بين الكتب، وأتنقل من كتاب إلى آخر، ومن معجم إلى موسوعة، وأبحث في الفهارس، وأتصفح كل يوم عشرات المراجع، فتأسرني صفحة هنا وفصل هناك، وغلاف هنا وخاتمة هناك. لذا، قررت أن أصنع داخل بيتي مكتبة، تكون أثراً من بعدي لأطفالي وجيراني والمهتمين بالقراءة والكتابة في الحي الذي أسكنه، فبدأتُ مذ كنتُ في الجامعة بشراء الكتب، وخصوصاً الأدبية منها، ولا سيما أنني كنتُ في بداية طريقي نحو كتابة السرد الذي أحترفه اليوم؛ إذ صدرت لي 9 أعمال بين قصة ورواية، وتُرجم كثير منها إلى لغات عديدة، كما تم إصدار العديد من تلك الأعمال بطبعات متعددة، آخرها رواية "ملابس تنجو بأعجوبة" الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، والتي كانت استشرافاً لهذه المقتلة العظيمة عبر صناعة عالمين داخل متن السرد؛ مركز إيواء، ومذكرات وزير ثقافة أسبق.
وكبرت المكتبة داخل البيت، كما تطورت المكتبات داخل البيوت والمدينة، وصارت المقاهي أيضاً تجمعات ثقافية، نلتقي فيها من حين إلى آخر، في تجمع قرطبة الثقافي الذي قمت بتأسيسه قبل ثماني سنوات، للقاء النخبة وأعلام الأدب في غزة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى مبادرة شغف الثقافية التي ركزت فيها على الأدباء الجامعيين، بين مطعم بالميرا، ومقهى قرطبة، ومؤسسة مسارات، وبيت الحكمة، إلى أن شعرت للحظة بأن غزة كلها مركز وحاضنة لأي مثقف يبحث عن نفسه بين الحروف أو الألوان، كما في محترف شبابيك الذي أصبح مكاناً لإقامة المعارض الفنية للفنانين المعروفين والمغمورين، من أجل صناعة الخلود وتثبيت الهوية التي يحاول الاحتلال طمسها وشطبها من ذاكرة العالم. لكن طبعاً لن يموت مَنْ يرسم أو يكتب شعراً، فكيف بمَنْ يحمل البندقية ليقاتل؟
صورة للروائي يسري الغول
قبل عدة سنوات، قام الاحتلال بتدمير المكتبة الوطنية في مدينة غزة، وجعل المبنى الشاهق أثراً بعد عين، وانتهى بذلك حلم تأسيس مكتبة تضم الأعمال الفلسطينية القديمة والحديثة في هذا الفضاء الذي أصبح لاحقاً منصة لرفع رايات الأحزاب وصور القادة فقط. وسبق ذلك التدمير حصار الكتب، إذ كان يعتقد الفلسطيني أن الاحتلال سيحاصر المواطن المكلوم بالطعام والوقود والسفر فقط، لكنه لم يعرف أن الاحتلال قرر حصار العقول وسجن الكتب ومنع تداولها أو إدخالها بينما ينام العالم عن حق الفلسطيني في التمتع بحرية القراءة، وهي أبسط الحقوق التي يمكن أن يتمتع بها أي مواطن في أي مكان من هذا العالم، لذا، فقد افتقدت المكتبات كثيراً من العناوين، وصار جلب تلك الأعمال يجري عبر الإنترنت، وتكون طباعتها متواضعة من أجل الوصول إلى آخر ما أنتجت المعرفة أو أصدر الأدباء.
وعندما وصلت "حماس" إلى السلطة، تمت محاصرة قطاع غزة، وتعرض لاحقاً للعديد من الاعتداءات والعمليات العسكرية الإسرائيلية التي أدت إلى مقتل الآلاف من هذا الشعب المكلوم، وتم تدمير البنية التحتية كي ينشغل الفلسطيني بإعادة إعمار ذاته وانشغاله بنفسه عن دولة الاحتلال التي تنهش جسد الضفة الغربية، وتمارس التهويد بحق العديد من الأراضي، وتبني مستوطنات جديدة لشعب جاء إلى أرض لها أصحابها المتجذرون فيها منذ أزل التاريخ.
والفلسطيني في غزة يرضى بالقليل، وقد عمل الانقسام على تهميش دور الثقافة، المهمش أصلاً من السلطة، ولا تزيد ميزانيته على واحد في المئة، بينما في قطاع غزة، لا تهتم الحركات الإسلامية أصلاً بالعمل الثقافي، حتى على صعيد مؤسساتها، أسوة بجميع النظم العربية والفلسطينية الرسمية للأسف.
وأذكر كيف قام الاحتلال في آب/أغسطس 2018 بتدمير مبنى مؤسسة سعيد المسحال للثقافة والفنون، وكان هذا المكان هو الملاذ الآمن لدى الشباب الحالمين، الباحثين عن الجمال في اللوحات والقصائد، وفي الأمسيات الثقافية والمسرح، وفي العرض السينمائي وحفلات توقيع الكتب، فدُمر المبنى وانتهت معه أحلام وجود مكان متميز. وكان يحتوي على مسرح كبير وقاعات عرض متعددة، شاهدنا فيه العديد من العروض الفنية والمسرحية لكبار الفنانين الغزيين، ووقّعنا فيه أعمالنا الأدبية، وشاركتنا فيه مؤسسة بيت الصحافة التي رعت أعمالاً لشبان يافعين، إلى أن جاء الوقت الذي نندب فيه بيت الصحافة أيضاً وصاحبها الشهيد بلال جاد الله.
جاءت المقتلة وانتهى حلم الحياة، وليس فقط حلم الكتابة والرسم، إذ عمد الاحتلال خلال ذلك إلى استهداف الإنسان وليس الهوية فقط، عبر إبادة جماعية لم يشهد التاريخ الحديث مثيلاً لها، قضت على الحجر والشجر، وصار جل اهتمام الفلسطيني في قطاع غزة المحافظة على حياته وعائلته، لكن ذلك بات حلماً صعباً أمام طائرات تلقي البراميل المتفجرة فوق بيوت المخيمات المتواضعة، إلى درجة باتت تصعب معها رؤية البيوت وهي تتكئ على أخواتها، مدماة تبكي انهيار الأحلام والذكريات، فهذا الجدار كان يحمل صورة لشاب فقد قدماً خلال الحرب، وهذا الطلاء جاء بعد إصرار الزوجة على اختيار اللون رمادياً أسوة بطلاء جدار في فيلم مصري قديم، وتلك الخرابيش كانت لأطفال يحلمون بأن يصبحوا أطباء ومهندسين، وهذه اللوحة لطفل فاز بجائزة في المدرسة وحصل على المركز الثاني في مسابقة حقوق الطفل، وتلك شهادة بكالوريوس لشاب نزح إلى الجنوب ليلقى حتفه في الطريق بعدما قنصه جندي بطلقة واحدة، وتلك أغراض المطبخ التي جاءت بعد "طلوع الروح" ومشاجرات بين الزوج وزوجته، لأن الراتب قليل ولا يفي بكل التزامات المنزل.
والصور تتداعى، والمواطن العادي التائه الباحث عن لقمة لعياله لا يهتم لمشهد تدمير مكتبة بلدية غزة العامة، فهو يبحث عن طعام، أي طعام، في ظل حصار مطبق على شمال غزة، حتى طعام الحيوانات لم يعد موجوداً، وأذكر كيف قمت خلال تلك الفترة القاسية من تاريخ البشرية، برفقة جاري "اللص"، بالذهاب إلى بيوت أناس آخرين فروا إلى جنوب القطاع بحثاً عن الأمان، كي نحصل على أي نوع من الطعام، حتى لو كان علبة تونة، أو كيلو طحين، أو حتى طعام الكلاب.
ذهبت معه إلى منطقة الشاطئ الشمالي، وفوقنا طائرات الكواد كابتر والزنانة "درونز"، فكنا ننطق الشهادة ونحن نتخفى في الأزقة وبين البيوت المدمرة إلى أن نصل إلى بيت شخص نعرفه، فندخل من ثقب كبير داخل جدار، ونصعد إلى الطبقة الأولى بينما تطلق المدفعية نيرانها على لصوص آخرين يبحثون عن طعام لأطفالهم، ونهرول بين الجدران داخل المنزل، وأنا أرتعد من الخوف، وصديقي يقول: "متخافش، راح ترجع لأولادك، لأنك جاي مشان تطعميهم، مش تسرق." وأنا المحاضر الجامعي والمدير في مؤسسة رفيعة المستوى، أبث شكواي إلى الله وأدعو ألاّ أموت في بيت عائلة لا أعرفها، بينما يهتف صديقي بفرح: "تعال"، فأحمل فوق رأسي خبزاً وطحيناً، ويحمل صديقي علبة بلاستيكية فيها ماء حلو، إذ إن غزة كانت تشرب الماء الذي لا يصلح للاستخدام الحيواني في ظل استهداف محطات التحلية، ثم نهرب، ونعود أدراجنا بينما تحلّق الطائرات في الأعلى، ونحث الخطى، ونتعجل الوصول إلى مكان النزوح في مخيم الشاطئ، فيضحك صديقي ويقول: "متخافش، هما بيعرفوا إنو إحنا جايين نسرق مش مقاومة." ونعود منتصرين؛ وأنا أحمل أكثر من 15 كيلوغراماً من الطحين الأبيض، كفارس استطاع أن يوفر طعاماً لعائلته لمدة شهر، بينما يموت آخرون وهم يبحثون عن طعام، تماماً كأحمد محمد الغول (31 عاماً)، وهو ابن عمي الذي لم يعد حتى انسحب الاحتلال بعد عدة أشهر من المكان، وكانت جثته متحللة، وظهر عليها التشظي، ربما لأن الحيوانات استطاعت أن تأكل شيئاً من جسده كما فعلت مع كثيرين من الشهداء في ظل هذه الإبادة الجماعية، وربما لأن الطائرات قررت تقسيم جسده كما قام الاحتلال بتقسيم الوطن.
صورة للروائي يسري الغول
وبين جدتي التي اختبأت في مقر مؤسسة "UNDP"، ولم تجد ماءً لتشربه، فقرر عمي وضع علبة أسفل خرطوم "بربيش" المكيف كي تشرب الماء الذي يخرج من هذا الجهاز، وبين مكتبة بلدية غزة العامة التي قام الناس بسرقة الكتب منها كي يشعلوا النار لطهي الطعام، سقطت ثقافة الحضارة والإنسانية، وصار المواطن المكلوم لا يؤمن بعروبة أو إسلام، في ظل صمت شعبي ورسمي عربي مريع، وفي ظل تواطؤ عالمي مريب.
إذ لم تعد هناك للكتب مساحة بين الدم، فقد سقط القناع عن النخبة العربية الصامتة، وجاء دور النساء اللواتي فقدن أنوثتهن لحرق تلك الحروف والكلمات كي ينضج الطبيخ؛ خشاش الأرض الذي قمنا بجمعه من الأراضي المغمسة بالبارود والدماء وبقايا صواريخ متناثرة.
في أثناء ذلك، عدت إلى بيتي، فوجدت المكتبة - التي أرهقني جمع العناوين فيها لأكثر من عشرين عاماً - قد دُمرت بالكامل، ولم يبق منها سوى الرماد، لكنني على الرغم من ذلك، فقد حاولت توثيق المشهد بتصوير الكتب وهي تبكي الوجع على تراب مدينة غارقة في حزنها.
وفي هذه الأثناء، جاء بعض الأطفال الذين فقدوا طفولتهم ولم يعودوا يذهبون إلى المدرسة أو يشاهدون التلفاز أو يلعبون في الحدائق والملاعب، إنما صاروا يعملون في نقل الطعام والبحث عن الحطب والوقوف في طوابير الخبز، وما إن وصلوا، حتى حصلوا على تلك الكتب المتناثرة، وقالوا بفرح: "هاي ممتازة لإشعال النار." وعادوا إلى بيوتهم بتلك الهزائم الكبيرة، بينما أغادر بيتي إلى أماكن متعددة بحثاً عن الطعام، وفي الطريق يواجهني مركز رشاد الشوا الثقافي؛ ذلك المكان الذي كان الأفضل والأكبر لتنفيذ الفعاليات الضخمة في قطاع غزة، فأحصل على صورة عند بوابته المدمرة، وورائي ذكريات مكتبة ديانا صباغ والقاعات الضخمة، وجدران تتمتم عن علاقتها بالحروف والأفكار.
ومن هناك أواصل السير إلى مكتبة الصديق سمير منصور؛ تلك المكتبة المهمة في قطاع غزة، التي قررت نقل أعمال الأدباء الشباب من غزة إلى العالم، عبر المشاركة في معارض الكتب العربية، فذهبتُ إليها ووجدتُ أمامي دماراً هائلاً يشبه الجحيم، إذ احترقت الكتب بالكامل، تماماً كمكتبة الصديق عاطف الدرة، صاحب دار نشر "الكلمة"، الذي غادر إلى جنوب القطاع وترك الكتب وحيدة تحترق مع بيوت جيران آخرين.
وبين الكتب والمكتبات، اكتشف الفلسطيني أن التحرير لا يمكن أن يحدث ما دامت عقول أبنائه محتلة، لذا ظل العدو يحرق الكتب ويقتل الأبطال في الروايات والقصص، ويسرق التراث والهوية، حتى الطعام، كالشكشوكة والفلافل والحمص، مدعياً أنها تراث إسرائيلي، وهم لا يعلمون أن الفلسطيني ممتد، ولا يموت ما دامت اللغة بخير، لذا شرع كتّاب غزة في الحديث عن المقتلة، عبر يوميات ونصوص، نُشرت في العديد من الصحف والمجلات والكتب، آخرها إصدارات وزارة الثقافة "كتابة خلف الخطوط" عن المجازر التي يرتكبها الاحتلال بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، وكذلك كتاب "الوصايا" الذي كنت أحد المشرفين عليه.
إن مشاهد استهداف المناطق الأثرية أيضاً مثيرة للسخط، فهُم يستهدفون كل تراثنا؛ المسجد العمري الكبير، وقصر الباشا، ومسجد السيد هاشم "جد النبي محمد صلى الله عليه وسلم"، والكنيسة البيزنطية، وبيت الغصين الأثري، وبيت السقا، وأماكن لا يمكن حصرها في شهادة واحدة، كأنهم يقولون لنا: "إننا سنسحقكم من جذوركم"، على الرغم من أنهم يعرفون عن الفلسطيني الإسبرطي القوة والبنيان، وأنه لا يستسلم، وينتصر أو يموت، كما قالها همنغواي في روايته "العجوز والبحر": "من الممكن لك أن تدمّر الرجل، لكنك لا يمكنك هزيمته." فكيف يُهزم الفلسطيني صاحب الحق، والعالم صار مدركاً مدى وحشية الاحتلال الإحلالي الصهيوني الغاشم؟
صورة للروائي يسري الغول
قبل فترة قصيرة، ذهبت إلى غاليري "شبابيك"، حيث كنت أجلس دوماً برفقة الأصدقاء ماجد شلا وشريف سرحان وباسل المقوسي، مؤسسي هذا الغاليري الفني المهم، وما إن وصلت إليه، حتى وجدت اللوحات التي كنت أتمنى أن أحظى بواحدة منها لبيتي الجديد، لكنها كانت ممزقة وتشبعت الألوان من ماء المطر، بعدما قام الاحتلال بمسح المنطقة من الجغرافيا في إبان اقتحام مستشفى الشفاء. والمبهج في القصة أن باسل وماجد وشريف لا يتوقفون عن الرسم في أماكن نزوحهم، بل أيضاً زيادة على ذلك، فهم يقومون بتعليم الصغار الرسم، تماماً كما كنت أفعل مع الفتيان والفتيات في مدرسة أسماء التابعة لوكالة الغوث، بعدما صارت تلك المدرسة مركزاً للإيواء، وبعدما انتهت سنة دراسية من دون تعليم، وباستشهاد أكثر من 15,000 طالب، فأذكر سمية غازي هنية (16 عاماً) رحمها الله، عندما كانت تحضر إلى المدرسة لتطلب مني نصيحة بنوعية وأسماء الكتب التي يمكن لها أن تحضرها من المكتبة المتبقية في مركز الإيواء، وتظل تستمع بشغف إلى كل ما أقوله عن الأدب والأدباء. لكن شأن سمية كشأن آلاف البنات في غزة؛ قُتلت بقصف طائرة إف 35 لبيت عائلتها، وظلت حتى لحظة كتابة هذه الشهادة تحت الأنقاض، فأذهب أحياناً إلى هناك لأرد عليها السرد، أملاً بأن تقول لي: "لماذا لم أتحول إلى امرأة خارقة كأبطال قصصك يا يسري."
في المخيم، حيث الركام يحاصر الشوارع، وكذلك مياه الصرف الصحي، وفي المخيم حيث رائحة الجثث المتحللة التي لا تغيب، لا يمكن أن تمر عند أي طفل إلاّ وقد تحدّث معك في القضايا الحياتية الكبيرة، ككيفية طهي الطعام، وقد خلت المدينة من الخشب ولم يدخل أي لتر من غاز الطهي، متجاهلين الدماء والقمامة المنتشرة في الشوارع والخوف من الطائرات التي بات صوتها ملتصقاً بذاكرتنا، ثم فجأة يسألون: "برأيك يا عم، متى ستنتهي الحرب؟!"