عند كتابة هذه السطور، يوم الجمعة 7 حزيران/ يونيو، يكون قد مضى على الحرب الإسرائيلية على فلسطين والفلسطينيين، وخصوصاً في قطاع غزة، وربما أقل عنفاً قليلاً في الضفة الغربية، 245 يوماً، لم تحقق إسرائيل خلالها، عسكرياً، سوى دمار شامل للأعيان المدنية، وإبادة موصوفة للبشر في القطاع، دفعت محكمة العدل الدولية إلى توجيه أمر عاجل بوقفها على خلفية طلب بهذا الخصوص قدمته جنوب أفريقيا، كما دفعت مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية كريم خان، بعد صمت طويل، إلى الادعاء على رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت، بارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية، وفي موازاة ذلك ربما، ادعى أيضاً على رئيس حركة "حماس" إسماعيل هنية، ورئيس الحركة في قطاع غزة يحيى السنوار، وقائد "القسام" محمد الضيف، بارتكاب جرائم حرب.
شهر حزيران /يونيو معلم تاريخي في التاريخ العربي، وخصوصاً في الخامس من هذا الشهر، اليوم الذي هُزمت فيه جيوش الدول العربية شر هزيمة أمام الجيش الإسرائيلي.
حرب حزيران/ يونيو 1967 شارك فيها بشكل مباشر ثلاثة جيوش: مصر (190 ألف جندي) وسورية (110 آلاف جندي) والأردن (55 ألف جندي)، ومعها الجيش العراقي الذي دخل المعركة إسناداً. في الإجمال، بلغ عدد جيوش الدول العربية الثلاث الأساسية 355 ألف جندي، فيما بلغ عدد جنود الجيش الإسرائيلي بين 240 – 260 ألف جندي. وكما أن عدد الجنود العرب كان أعلى من عدد الجنود الإسرائيليين، فإن عدد العتاد الحربي بدوره مال لمصلحة الجيوش العربية، بغض النظر عن كفاءة العتاد العربي في مقابل العتاد الإسرائيلي،[1] علماً بأن نقاشاً جديّاً دار ويدور في أوساط مراكز البحوث الإسرائيلية، ولدى قيادة الجيش الإسرائيلي، بشأن إعادة النظر في مفهوم الجيش الحديث الذي يعتمد التفوق الجوي والإلكتروني ويُقلل من أهمية سلاح المُشاة، وجرى عرض وجهات نظر ذات مصداقية عن ضرورة الأخذ بعين الاعتبار إعادة تأسيس سلاح مشاة قوي ومعزز، وهذا النقاش بدأ بعد حرب لبنان الثانية (تموز/ يوليو 2006)، وهو يتكرس حالياً في الحرب على غزة؛ وضمن مراجعة التجارب، جرى نشر وثيقة عن استراتيجيا الجيش الإسرائيلي تُشير إلى ضرورة العودة إلى الاهتمام بالجيش المقاتل، وعدم الاكتفاء بالجيش المتفوق إلكترونياً وعتاداً.[2]
ووفق تقديرات الجيش الإسرائيلي، فإن عدد مقاتلي حركة "حماس" قبل معركة "طوفان الأقصى"، في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بلغ نحو 30 ألف مقاتل،[3] وإذا أضفنا عدد مقاتلي حزب الله، المساند للمقاومة الفلسطينية، وفق إعلانه عند دخوله الحرب في 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فإن عدد مقاتلي الحزب، وفق تقديرات المخابرات المركزية الأميركية يبلغ 45 ألف مقاتل، في حين يقول الحزب إن عدد مقاتليه المحترفين، ومَنْ هم تحت السلاح عند استدعائهم، يبلغ 100 ألف مقاتل،[4] وذلك في مقابل "173 ألف جندي [إسرائيلي] في الخدمة الفعلية، ونحو 465 جندي احتياط، ويبلغ تعداد المؤهلين للخدمة العسكرية نحو 1,7 مليون شخص"، وما من داع للحديث عن العتاد الذي يملكه الجيش الإسرائيلي في مقابل عتاد "حماس" وحزب الله، فالكفة راجحة لإسرائيل بالمطلق.[5]
السؤال إذن، كيف يصمد مقاتلون غير نظاميين عددهم في أحسن حالاتهم نحو عشر عدد الجيش الإسرائيلي المحترف مع مَنْ هم تحت السلاح، وبعتاد لا يمكن مقارنته، بل كيف يمكن لهؤلاء المقاتلين أن يقارعوا الجيش الذي يُعد الـ 18 بين أكبر جيوش العالم، وفي المراتب الأولى من حيث نوعية السلاح والتكنولوجيا العسكرية، إلى درجة يكاد هذا الجيش ينهار، ويتطلب الأمر تدخلاً مباشراً عبر جسور سلاح، ومخفياً عبر "مستشارين" أميركيين وأوروبيين لنجدته؟
على أن هذا النقاش المبكر لا يبدو أنه غيّر كثيراً في مفهوم الجيش المتفوق إلكترونياً، وهو ما أثبتته عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حين اكتسحت المقاومة الفلسطينية جميع التجهيزات الإلكترونية وسيطرت خلال ساعات على عدد كبير من مستوطنات غلاف غزة، بعد أن حيّدت المراكز العسكرية بسرعة وكفاءة عالية، وأوجدت مناخاً للقراءة والتحليل بشأن مستقبل أي حرب بين جيش تقليدي ومقاومة "هجينة" تجمع ما بين الكفاءة الفردية والقدرة على استخدام التكنولوجيا، و/ أو مواجهة التكنولوجيا العسكرية المتطورة.[6]
أمّا السؤال الأكثر إلحاحاً، برأي كاتب هذه السطور، والذي عُنونت به هذه المقالة، هو: "هل من مصلحة بعض الدول العربية انتصار الفلسطينيين؟"
مع عدم الاستفاضة في مدح "محور المقاومة" الفلسطيني، إذ ثمة أخطاء مقترفة قد تكون عصيّة على الغفران، ولا سيما عدم الاهتمام بالجبهة الداخلية، سياسياً ومدنياً، والتقدير الخاطئ لتجاوب الحلفاء وردة فعل العدو وحلفائه، إلّا إن المقاومة الفلسطينية أثبتت علوَّ كعب عسكرياً تكتيكياً واستراتيجياً، كما أن صمودها ومقارعتها العدو بكل إمكانياته فعل فعله على مستوى التأييد الشعبي، عربياً وعالمياً. وللأسف، كان للدم الفلسطيني المُسال بغزارة في قطاع غزة دوره في انقلاب الرأي العام العالمي من تأييد إسرائيل بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وفي كشف زيف ادعاءات ارتكاب جرائم قتل أطفال واغتصاب نساء خلال عملية "طوفان الأقصى"، وكشف حقيقة ارتكاب الجيش الإسرائيلي تلك الجرائم، ولا سيما جريمة ارتكاب إبادة جماعية، التي قبلت محكمة العدل الدولية النظر بها، بعد أن قدمت جنوب أفريقياً ملفاً ادعت فيه على إسرائيل، وأعلنت دول من أميركا الجنوبية، وأخيراً واحدة من كبريات الدول الأوروبية، أي إسبانيا، التدخل في القضية إلى جانب جنوب أفريقيا.
عربياً، شاع إعلامياً ومن دون أي تأكيد، نية دول عربية التدخل في الملف، وحتى شعبياً، فإن الدول غير المساندة للمقاومة لم تشهد حراكاً شعبياً ملحوظاً؛ فإذا استثنينا مشاركة حزب الله في معركة الإسناد، وهو ما قد يشفع لضعف الاستجابة الشعبية في لبنان، كون الثمن المدفوع شعبياً في جنوب لبنان عالياً، واليمن بدخولها عبر ممر البحر الأحمر، مع التدفق الشعبي الهائل كل يوم جمعة في صنعاء تأييداً للمقاومة الفلسطينية، فإن الشارع الأردني وحده أظهر ردة فعل تمثلت في تظاهرات شبه يومية في محيط السفارة الإسرائيلية.
رسمياً، أظهرت الأنظمة العربية، بتفاوت طبعاً، تأييداً شفوياً للفلسطينيين، وبعضه خجولاً، إزاء ما يُراق من دم غزير في قطاع غزة، بل إن ثمّة شبهة ترقى إلى اليقين بأن بعض تلك الأنظمة يضغط على المقاومة لقبول حلول تراوح بين الاستسلام والتخلي عن مطالب أساسية، ولا يتمنى رؤية نصر فلسطيني، ولو نسبي، لأن نصراً فلسطينياً قد يعني أملاً لشعوب عربية سعت مطلع العشرية الثانية من القرن الحالي للانعتاق من التبعية، ومغادرة دائرة النظام العربي التابع إلى ساحات الحرية، وفشلت أو أُفشلت، ويدفع تلك الشعوب إلى أن تُفكر مجدداً في الانتفاض على أمل التغيير.
لقد لعب الفلسطينيون منذ ما بعد النكبة، وانطلاق الكفاح المسلح في ستينيات القرن الماضي، دوراً قيادياً على أمل التغيير إقليمياً ودولياً. ومع غياب هذا الدور، وخصوصاً بعد خطيئة أوسلو، وقبل وخلال ذلك انهيار الحليف الاشتراكي السوفياتي والأوروبي الشرقي، شهدنا انهياراً لأمل التغيير الذي لم يعُد بالشكل الذي كان سائداً، حتى مع بزوغ قوة الثورة الإسلامية في إيران، ونهضة تركيا نحو الشرق الأوسط.
إن عودة فلسطين والفلسطينيين إلى لعب دور ريادي، فيما لو حققت المقاومة، كل المقاومة، في غزة والضفة والشتات العربي والمهجر الغربي، بعض نصر مضرج بدم عشرات آلاف الشهداء في غزة، سوف يعني عودة الأمل للشعوب، وخشية الأنظمة من هذا الأمل الذي سُحق؛ فيكون الجواب المُفترض في حينه، أن بعض سلطات العرب الحاكمة لا تتمنى نصراً فلسطينياً مهما يصغر حجمه.
[1] "نكسة 67... عندما هزمت إسرائيل العرب في 6 أيام"، "الجزيرة نت"، 5/6/2024، في الرابط الإلكتروني التالي:
نكسة 67.. عندما هزمت إسرائيل العرب في 6 أيام | الموسوعة | الجزيرة نت (aljazeera.net)
[2] مايكل هيرتسوغ، "الاستراتيجية الجديدة لـ 'جيش الدفاع الإسرائيلي' تخرج إلى العلن"، معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، 28/8/2015، في الرابط الإلكتروني التالي:
الاستراتيجية الجديدة لـ "جيش الدفاع الإسرائيلي" تخرج إلى العلن | The Washington Institute
[3] "طوفان الأقصى: انهيار الردع الإسرائيلي ومحاولات استعادته" مركز الجزيرة للدراسات، 8/11/2023، في الرابط الإلكتروني التالي:
طوفان الأقصى: انهيار الردع الإسرائيلي ومحاولات استعادته | مركز الجزيرة للدراسات (aljazeera.net)
انظر أيضاً:
"الجيش الإسرائيلي يكشف لـCNN تقديراته حول عدد مقاتلي حماس قبل الحرب"، "سي إن إن بالعربية"، 10/12/2023:
الجيش الإسرائيلي يكشف لـCNN تقديراته حول عدد مقاتلي حماس قبل الحرب - CNN Arabic
[4] "ترسانة حزب الله: صواريخ وطائرات مسيرة وأسلحة مضادة للدبابات والسفن"، "i24"، 5/6/2024، في الرابط الإلكتروني التالي:
ترسانة حزب الله: صواريخ وطائرات مسيرة وأسلحة مضادة للدبابات والسفن - I24NEWS
[5] سيد أحمد الخضر، "إسرائيل التي انتكست أمام القسام تملك هذه القوة العسكرية الهائلة"، "الجزيرة نت"، 9/10/2023، في الرابط الإلكتروني التالي:
إسرائيل التي انتكست أمام القسام تملك هذه القوة العسكرية الهائلة | أخبار | الجزيرة نت (aljazeera.net)
[6] انظر: "طوفان الأقصى: انهيار الردع الإسرائيلي ومحاولات استعادته"، مركز الجزيرة للدراسات، 8/11/2023، في الرابط الإلكتروني التالي:
طوفان الأقصى: انهيار الردع الإسرائيلي ومحاولات استعادته | مركز الجزيرة للدراسات (aljazeera.net)
انظر أيضاً: شادي عبد الحافظ، "هل ينتصر حزب الله إذا اندلعت حرب مع إسرائيل؟"، 13/6/2024، في الرابط الإلكتروني التالي:
هل ينتصر حزب الله إذا اندلعت حرب مع إسرائيل؟ | سياسة | الجزيرة نت (aljazeera.net)