يُعتبر بنيامين نتنياهو من أكثر رؤساء الحكومات الإسرائيلية قدرةً على البقاء في سدة الحكم، وهو الذي شغل منصب رئيس الحكومة لفترات متقطعة تصل في مجموعها إلى عقدَين من الزمن؛ منذ سنة 1996 إلى اليوم. وتعمل هذه القراءة على استقصاء وتتبُّع بعض المحطات المفصلية في فترة حكمه، كما تتناول الخيارات السياسية التي تقف أمامه في ظل ساحة سياسية داخلية مضطربة، ومنقسمة على نفسها، ورأي عام دولي يضع إسرائيل داخل ما يشبه العزلة، على خلفية الحرب على غزة، كما تتناول المقالة البدائل الممكنة أمام رئيس الحكومة الإسرائيلية في ظل قراءة نفسية - اجتماعية خاصة، يدّعي الكاتب أنه من الصعب فهم اعتبارات نتنياهو ومعاييره بعيداً عنها، إذ يرتسم، عن طريقها، خط فاصل واضح بين المصالح الشخصية التي تحرك قرارات نتنياهو والمصالح السياسية للشعب والدولة.
الوظيفة أولاً؛ فن البقاء على كرسي الحكم
يبدو المشهد الإسرائيلي عجيباً على نحو غير مسبوق، وخصوصاً فيما يتعلق بإمكان وقف الحرب على غزة، وذلك عبر رزمة تشمل وقف إطلاق النار، وتبادُل الأسرى، وزيادة كمية المساعدات، وصولاً إلى الانسحاب التام من غزة، وإعادة الإعمار.
والثابت هنا هو استراتيجيا نتنياهو في البقاء في الحكم لأطول فترة ممكنة، والفرار من المحاكمة.. وما سوى ذلك، فهي أمور يمكن التفاهم بشأنها، ويمكنها أن تنتظر.
وعلى ما يبدو، فإن الأهداف التي وضعها نتنياهو كشرط لوقف الحرب هي أهداف من غير الممكن تحقيقها: القضاء على "حماس"، والانتصار المُطلق، وإعادة كل الأسرى من غزة، وشل قدرة "حماس" على تكرار مشهد 7 تشرين الأول/أكتوبر. ومن الواضح أن خطة نتنياهو منذ 8 أشهر لا تؤدي إلى أي من هذه الأهداف، ويبدو أنه لا يقوم بما يكفي لتحقيقها، أم إنه غير معني بتحقيقها بصورة حاسمة. فما معنى ذلك؟ معناه استمرار الحرب، وإبعاد كابوس المحكمة، والبقاء في الحكم أطول فترة ممكنة.
تصوير: محمد أبو بكر.
وماذا عن صفقة الأسرى؟
يتحكم بهذا الملف طرفان: الأول، قيادة "حماس" في غزة ممثَّلة بيحيى السنوار، والتي تؤكد إمكان إبرام صفقة متى قررت إسرائيل وقف المماطلة وعقد اتفاق. أمّا الطرف الثاني، فهو الزعيم اليهودي الصهيوني، رئيس حكومة إسرائيل، الذي يعتقد أن إبرام صفقة التبادل ووقف الحرب يعني خسارة الوظيفة المرموقة؛ رئاسة الحكومة الإسرائيلية، وخسارة المقر الرسمي في شارع بلفور في القدس.. وخسارة الموكب الحكومي والحراسة والامتيازات الإضافية، وبالتالي، فتح أوتوستراد المحكمة المركزية في شارع صلاح الدين في القدس، والتي تبعد بضعة كيلومترات عن مقر إقامته.
يفضل نتنياهو عدم إبرام صفقة، وَلْتَبْقَ الشوارع مقطوعة بالمتظاهرين المطالبين بإعادة الأسرى.. لأن هذه الشوارع، متى عُقدت الصفقة، وأُفرغت من المتظاهرين، فإنها سوف تُفتح أمام المارة.. ومعها طريق المحكمة المركزية في الاتجاهَين!
خياران أحلاهما مُرّ: إمّا محاكمة في الداخل، وإمّا محاكمة دولية
يقف نتنياهو أمام قَدَرَين اثنين: إمّا أن يوقف الحرب على غزة عبر صفقة تبادُل للأسرى، وانسحاب كامل لقوات الاحتلال من غزة، وبالتالي، يتفكك الائتلاف وتسقط الحكومة على يدَي بن غفير وسموتريتش، ويكون الطريق قصيراً إلى المحكمة بِتُهَمِ الفساد والرشوة وخيانة الأمانة، وإمّا أن يواصل الحرب، ولا يوقّع صفقة تبادُل الأسرى، ويحافظ على الائتلاف الحكومي، ويواجه مذكرات التوقيف الدولية على خلفية ارتكاب جرائم حرب في غزة بحسب المحكمة الدولية.
نتنياهو والصراع الداخلي.. وعود لكل الأفرقاء من دون إرضاء أي منهم
ينسب الخبراء والمحللون السياسيون، ومنهم الصحافي الكاتب، بن كاسبيت، إلى نتنياهو قدرات استثنائية على التلاعب والبلاغة في الخطاب والقدرة على الإقناع والسيطرة، وذلك إلى جانب قدرات استثنائية على الوقوف أمام الكاميرا واحتراف المناظرة، وتُنسب إليه أيضاً سهولة الوقوع تحت ضغط العمل والارتباك، أمّا المفترقات المصيرية، والقابلية للابتزاز السياسي من شركائه الائتلافيين إذا ما تعلق الأمر بالبقاء في الحكم، فهنا لا مانع لديه من قطع الوعود لكل شريك من دون إرضاء أحد.
وأمام سيناريوهات غزة واليوم التالي فيها، يَعد نتنياهو شركاءه في مجلس الحرب، كبيني غانتس وأيزنكوت، بتنفيذ صفقة تبادُل ووقف الحرب في مقابل بقائهم في كابينيت الحرب، وإلى جانب ذلك، يعدهما ببلورة قانون التجنيد للمتدينين وعَرْضِهِ على الكنيست للمصادقة. وفي الوقت ذاته، يطمئن المتدينين الحرديم بأنه لن يكون هناك قانون تجنيد في الأفق، وبالتالي، يضمن عدم تفكيكهم للحكومة التي يرأسها، وفي الوقت والحين نفسهما، يُطِلُّ عليه قادة "الصهيونية الدينية" و"القوة اليهودية" (سموتريتش وبن غفير) بتهديد فحواه أن وقف الحرب وتبادُل الأسرى والخروج من غزة يعني تفكيك الحكومة وسقوطها، فيستجيب نتنياهو بأن الحرب مستمرة إلى حين القضاء على "حماس"، وإعادة ما يُسمى الرهائن - المختطفين من غزة.
وبناء على ما تقدّم، فإن نتنياهو نجح إلى حين كتابة هذه الأسطر في إبقاء أعضاء الائتلاف وشركاء كابينيت الحرب والمتدينين وأهالي الرهائن في غزة في حالة ترقُب وانتظار، من دون أن يخسر أحداً من الأفرقاء، أو أن يحقق لأي منهم مطلبه بصورة حاسمة وواضحة.
بطاقة هوية
وُلد نتنياهو في تل أبيب سنة 1949م، وخدم في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي (1967 - 1972)، وأمضى سنوات من حياته في الولايات المتحدة الأميركية بين نيويورك وبوسطن، وتعلم الهندسة وإدارة الأعمال في جامعة إم آي تي، وعمل سفيراً لإسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية في ثمانينيات القرن الماضي.
وُلد جده نتان ميليكوفسكي سنة 1879 في بيلاروسيا، وكان من رجال الدين ورواد الحركة الصهيونية آنذاك، أمّا والده، فهو بن تسيون ميليكوفسكي - نتنياهو، وقد وُلد سنة 1910 في وارسو - بولندا، وكان ناشطاً في الحركة الصهيونية، وعُرف بأفكاره العلمانية، وتعلم الفلسفة والتاريخ في الجامعة العبرية في القدس.
تصدّر نتنياهو المشهد السياسي والأُسري بعد مقتل شقيقه يونتان في عملية تخليص رهائن في عنتيبي في أوغندا سنة 1976، حين قامت المقاومة بخطف طائرة إيرفرانس، وكان يوني نتنياهو قائداً لوحدة الاقتحام، وقُتل في العملية، وكان بنيامين نتنياهو حتى ذلك الحين في الظل، وكانت الأضواء كلها موجهة إلى شقيقه الأكبر يونتان، الذي أخلى له المشهد السياسي - العائلي بعد مقتله.
جنون العظمة وأعراض الدكتاتورية
يذكر الكاتب الصحافي بن كاسبيت في السيرة الذاتية التي أعدها بشأن بنيامين نتنياهو بعضاً من أحاديث الصالونات الخاصة التي دارت بين عائلة نتنياهو ومقرَّبين من العائلة؛ فينقل على لسان سارة نتنياهو ما فحواه: "فلتحترق الدولة.. نتنياهو كبير على إسرائيل، وهو يستحق دوراً أكبر.. كان في إمكانه البقاء في أميركا والاهتمام بأعماله التجارية، لكنه ضحى من أجل إسرائيل.. الكل يستهدفنا ويشهر بنا من أجل إسقاط رئيس حكومة منتخب.." (كاسبيت: 2018).
بمعنى فليحمد الشعب الإسرائيلي ربه لأننا وافقنا على حكمه وإدارة شؤونه!
ولنا أن نكوّن صورة للمناخ النفسي - الثقافي لهذه العائلة، ونطرح أسئلة بشأن سلّم الأولويات لدى هذه العائلة الحاكمة التي تشعر بجنون العظمة.. فترى أن كل ما تقوم به - بحسب الإعلام الإسرائيلي - من تجاوزات ومغامرات وتخريب لمؤسسات القضاء والإعلام والبرلمان والشرطة وتعريض الجيش للخطر اليومي في غزة في مقابل الكرسي وكل ما تتعرض له من شبهات وملفات جنائية.. يهون، ويَسْهُل في مقابل استعداد الأُسرة للتضحية من أجل حكم شعب إسرائيل وحماية المشروع الصهيوني.
أعتقد أنه لا يمكن قراءة استراتيجيا نتنياهو بصورة وافية وعميقة إلاّ إذا أخذنا في الحسبان ذلك الشعور التاريخي بالمطاردة والمظلومية والاستهداف الشخصي عند نتنياهو.. وبالتالي، فإن أي خطوة أو قرار تتم دراستهما في ضوء صراعه للبقاء الشخصي.. سواء أكان الصراع متخيلاً أم حقيقياً، فإنه يبقى المحرك الأساسي له، وأظن أن كثيراً من القراءات والتحليلات المهمة ربما تتجاهل هذا الجانب الشخصي – النفسي - الاجتماعي لدى أحد أكثر القادة الإسرائيليين صموداً وأطولهم بقاءً على مقعد رئيس الوزارء.
مراجع:
1- كاسبيت، بن. سيرة نتنياهو. يديعوت أحرونوت- حيمد. الطبعة الأولى (بالعبرية)، تل أبيب، 2018.