في 9 أيار/مايو 2024، نشر موقع "Y-net" خبراً يفيد بأن الجيش الإسرائيلي أكمل بناء 4 مواقع عسكرية دائمة على طول "نتساريم"، وذلك بهدف تأمين أماكن راحة دائمة لمئات الجنود العاملين في غزة، والذين يشرفون على تأمين بناء الميناء الجديد من جانب الجيش الأميركي. وتمت إضافة سارِيَتَين كبيرتَين إلى هذه المواقع الدائمة للاتصالات التشغيلية، بالإضافة إلى عشرات وسائل تجميع المعلومات والمراقبة والتصوير، والتي تتم إدارتها على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع من غرفة العمليات. وأفاد الموقع أيضاً بأن الجيش يعمل حالياً على استكمال طُرُق عبور كبيرة بوسائل التفتيش عن بُعد، وخصوصاً الكاميرات المزودة بتقنية التعرف إلى الوجه.[1]
وقد أعادني متن الخبر إلى القواعد والمعسكرات الإسرائيلية. وينتشر في أرجاء الضفة الغربية أكثر من 64 قاعدة ومعسكراً تابعاً للجيش الإسرائيلي،[2] وتُعد هذه القواعد والمعسكرات نقاط انطلاق للنشاطات العملياتية للجيش الإسرائيلي، كما تُعتبر نقاط عبور أو "حواجز" للفلسطينيين، كحاجز حوارة الواقع على الطريق بين مدينتَي نابلس ورام الله، وحاجز سالم الواقع شمال غربي مدينة جنين، وحاجز عوفر الواقع بين مدينتَي رام الله والقدس، وهذه مجرد أمثلة بشأن الحواجز المنتشرة في المنطقة.
ويمكن لمراقب تطورات الحرب الجارية في قطاع غزة أن يلمح وجود تشابُه بارز بين شخصيتَي رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، بنيامين نتنياهو، ورئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، أريئيل شارون، إذ كل منهما تولى زمام القيادة في إسرائيل في فترات متعددة، ويبدو أن هذا التشابه لا يُحصر فقط في النهج العسكري، بل أيضاً يمتد إلى الأهداف السياسية للدولة الاستعمارية.
وتهدف هذه المقالة إلى مقارنة بين حملة "السور الواقي"[3] التي نُفذت في الضفة الغربية سنة 2002، والحرب الدائرة اليوم في قطاع غزة فيما يتعلق بمساعي إسرائيل لضمان حرية تنفيذ العمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية، ومحاولات صناعة البديل الفلسطيني في إبان انتفاضة الأقصى والمحاولات الجارية اليوم لإيجاد بديل لحركة "حماس" في سدة الحكم في غزة.
أهـداف متـماثــلة
عملية "بارك"؛ هي عملية نفذها عبد الباسط عودة، وهو شاب من مدينة طولكرم، قام خلالها بتفجير نفسه داخل فندق بارك في نتانيا غربي طولكرم، وقد تسبَّب هذا الهجوم بمقتل نحو 30 إسرائيلياً، وإصابة 146 آخرين خلال احتفالات عيد الفصح اليهودي. واستجابة لهذا الحادث، قام رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، شارون، بتنفيذ عملية "السور الواقي" في سنة 2002، والتي استمرت لمدة تقارب الـ 70 يوماً، حاملة شعار تدمير البنية التحتية للفصائل والسلطة الفلسطينية. لكن هدفها الأساسي، وفقاً لرؤية الصحافيَين الإسرائيليَين، عوفر شيلح ورفيف دروكر، في كتابهما "בומרנג (بوميرانج)/السهم المرتد"،[4] كان تعزيز مبدأ حرية عمل الجيش الإسرائيلي في المناطق المصنفة "أ"، وهو ما يعني جعْلها مستباحة للجيش في أي وقت وأي مكان، وكان الهدف الأسمى وراء ذلك تقليل مستوى الهجمات الفدائية الصادرة عن المناطق الفلسطينية، والقضاء على معاقل المقاومة الفلسطينية.
وفعلاً، على الرغم من نجاح شارون نسبياً في تحقيق أهدافه خلال عملية "السور الواقي"، وتكبيل السلطة الفلسطينية بمزيد من التفاهمات التي تكفل الاستقرار، فإنه بعد مرور عدة سنوات، ظهرت أشكال جديدة للمواجهة مع الفلسطينيين. وتقود هذه المواجهات تشكيلات مسلحة مرنة، بعضها غير منتمٍ لتنظيمات معينة، بينما البعض الآخر له صلة بالفصائل المنهكة في الضفة الغربية نتيجة بناء جدار الفصل والحملات الأمنية الإسرائيلية المتكررة، ككتيبة الرد السريع في طولكرم، وكتيبة جنين في مخيم جنين، وهذا فقط على سبيل المثال لا الحصر.
اتفاقيات مقيدة كحل للخروج من الأزمات
كان وصول الرئيس محمود عباس إلى الحكم، مع شعاره "لا لعسكرة الانتفاضة"، وتبنّي فكرة "الانفصال الأحادي الجانب" من جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، أريئيل شارون، من العوامل الرئيسية التي ساهمت في خبو جذوة الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
وكانت القمة الرباعية التي عُقدت في شرم الشيخ، في 8 شباط/فبراير 2005، محطة مهمة في تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، أعلن الأطراف خلالها التزامهم وقفَ "أعمال العنف" ضد الطرف الآخر، وكان هذا الإعلان خطوة مهمة نحو إنهاء الانتفاضة الثانية، "انتفاضة الأقصى".
وبدوره، حدّد شارون شروطه المتعلقة بوقف جميع عمليات المقاومة الفلسطينية كشرط أساسي لتوقُف العمليات العسكرية الإسرائيلية في جميع المناطق الفلسطينية، وشدّد على ضرورة أن يكون الوقف الذي وصفه بـ "العنف" دائماً، كما دعا السلطة الفلسطينية إلى التحرك ضد ما وصفه بـ "الإرهاب". وجاء في معرض كلامه: "... نعلن هنا اليوم أن العنف لن ينتصر ولن نسمح للعنف أن يغتال الأمل. علينا جميعاً أن نتعهد ألاّ نكتفي بتهدئة مؤقتة وألاّ نسمح للعنف أن يرفع رأسه. علينا أن نعمل معاً وبحزم على تفكيك البنية التحتية للإرهاب وعلى نزع سلاحه عنه وإخضاعه إلى الأبد لأن تحطيم شوكة الإرهاب والعنف هو الذي يبني السلام."[5]
ووفقاً لرؤية السلطة الفلسطينية، فإن هذا الاتفاق يُعتبر خطوة أولى نحو تنفيذ خارطة الطريق الأميركية. وفي كلمته، عبَّر الرئيس عباس عن هذه الرؤية مؤكداً أهمية هذه الخطوة في تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة بقوله: "اتفقنا ورئيس الوزراء أريئيل شارون على وقف كافة أعمال العنف ضد الإسرائيليين والفلسطينيين أينما كانوا، إن الهدوء الذي ستشهده أراضينا ابتداء من اليوم، هو بداية لحقبة جديدة وبداية للسلام والأمل.
ما أعلناه اليوم، بجانب إنه يمثل تنفيذاً لأول بنود خارطة الطريق [...] فهو أيضاً أساسية خطوة هامة توفر فرصة جديدة كي تستعيد عملية السلام مسارها وزخمها، وكي يستعيد الشعبان الفلسطيني والإسرائيلي الأمل والثقة في إمكانية تحقيق السلام..."[6]
بالإضافة إلى ذلك، فقد وقّعت السلطة الفلسطينية، في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 2005، مع إسرائيل اتفاقية تُعرف باسم "اتفاق المعابر"، تهدف إلى تنظيم حركة المرور من وإلى الأراضي الفلسطينية عبر المعابر المحددة، ومن أهم هذه المعابر معبر رفح البري، الذي يُعتبر إحدى أبرز نقاط التواصل بين قطاع غزة ومصر.
رؤية واحدة وأحداث متغايرة
بعد 24 عاماً، وقع الهجوم المباغت المعروف باسم "طوفان الأقصى" من جانب حركة "حماس"، في 7 تشرين الأول/أكتوبر، على ما يُعرف بـ "مستوطنات غلاف غزة"، وهو ما دفع رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، بنيامين نتنياهو، إلى شن حملة عسكرية واسعة النطاق ضد قطاع غزة، وما زالت مستمرة حتى كتابة هذه الأسطر. ويبدو أن أهداف إسرائيل اليوم تتجاوز تدمير قدرات المقاومة وإعادة أسرى إسرائيليين في قبضة المقاومة الفلسطينية كما أُعلن مراراً وتكراراً، فهي تشمل أيضاً ضمان حرية عمل الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، على الرغم من الاختلافات الجغرافية والقدرات العسكرية للمقاومة في هذا القطاع مقارنة مع الضفة الغربية.
وبرز ذلك عبر "ممر نتساريم"، الذي أصبح واحداً من أهم النقاط الاستراتيجية في قطاع غزة في الوقت الحالي. ويَقسِم هذا الممر القطاع إلى جزئَين، ويمتد إلى مسافة تفوق 6 كيلومترات، وتم إنشاؤه خلال الأسابيع الأولى من بدء الهجوم الإسرائيلي على غزة، وذلك لمراقبة القطاع والإشراف على العمليات العسكرية. كما يضم هذا الممر عدة قواعد عسكرية صغيرة تعمل على تعزيز السيطرة الإسرائيلية على المنطقة، وتوفير نقاط تفتيش ومراقبة دقيقة لحركة السكان والأنشطة في المنطقة.
وفي الحقيقية، لم تكن فكرة الممر جديدة؛ ففي سنة 1971، قدّم قائد المنطقة الجنوبية في إسرائيل في ذلك الوقت، أريئيل شارون، خطة تُعرف باسم "خطة الأصابع الخمسة"، تهدف إلى قطع القطاع الفلسطيني عن طريق الكتل الاستيطانية اليهودية، وتسهيل السيطرة عليه. وتم تصميم "الأصابع الخمسة" لقطع القطاع وفصل مدينة غزة، التي كان يسكنها جزء كبير من السكان، عن بقية القطاع.[7]
ولم تُخفِ إسرائيل إماكن إعادة احتلال محور فيلادلفي لاستعادة السيطرة على المنطقة الحدودية بين قطاع غزة ومصر. وكان هذا المحور نقطة تمركُز استراتيجية لإسرائيل للحد من تهريب الأسلحة والمواد الممنوعة إلى قطاع غزة. إن هذه التصريحات تكشف مدى الرغبة الإسرائيلية في إعادة احتلال المحور والسيطرة على هذه المنطقة، سواء بواسطة القوات العسكرية، أم بواسطة وسائل أمنية وتقنيات متطورة.
شروط تعجيزية قبل وقف النار
قدّم نتنياهو مجموعة من الشروط قبل التوصل إلى أي اتفاق لوقف إطلاق النار، ورأى أن الأولوية القصوى هي تدمير حركة "حماس"، وهو يعتقد أن عدداً من الدول الغربية تؤيد جهود إسرائيل في هذا الصدد، كالولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وألمانيا. ويرى أيضاً أنه يجب تفكيك القدرات العسكرية للحركة وإنهاء حكمها السياسي على غزة.
أمّا الشرط الثاني، فهو جعْل غزة منطقة خالية من السلاح، لضمان عدم استخدامها كقاعدة للهجوم على إسرائيل، ويبدو أن هذا يتطلب إنشاء منطقة أمنية موقتة حول غزة.
والشرط الثالث هو إعادة إنتاج ثقافة المجتمع الفلسطيني، عن طريق المدارس أولاً، عبر تعليم الأطفال معاني الحياة بدلاً من الموت - على حد زعمه - والمساجد ثانياً، إذ يتطلب ذلك من أئمة المساجد الكف عن التحريض ضد إسرائيل. ويُضاف إلى ذلك دعم مجتمع مدني فلسطيني يعمل على مكافحة "الإرهاب" بدلاً من تمويله.
ولم يتطرق نتنياهو إلى دور إسرائيل في مواجهة العصابات الاستيطانية المنتشرة في أرجاء الضفة الغربية والداخل المحتل سنة 1948، المدعومة من جانب منظمات وجمعيات قانونية، وهذه العصابات تساهم في تهجير الفلسطينيين بصمت، عبر أعمال عنف منظمة ومخططة مسبقاً واعتداءات متكررة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن بعض المدارس الدينية المنتشرة في المستوطنات تقوم بتعزيز هذه السياسات عبر ترسيخ هذه المبادئ الاستعمارية في نفوس طلبتها، كعصابات تدفيع الثمن، وبنات دانيلا، وجمعية لاهافا، وغيرها.
فكرة لأزمة متجددة
في جلسة مجلس الوزراء المنعقدة، في 23 شباط/فبراير 2024، قدّم رئيس الوزراء نتنياهو للمرة الأولى موقفاً منظماً بشأن سياسة إسرائيل في غزة بعد انتهاء الحرب، ووفقاً للرؤية التي قدّمها، فإن إسرائيل ستتولى السيطرة على الأمن في غزة، مع نقل الإدارة المدنية إلى "مسؤولين محليين ذوي خبرة إدارية."[8]
وفي الصدد نفسه، كانت صحيفة "هآرتس" قد نشرت، في 7/5/2024، أن شركة أمنية أميركية خاصة ستتولى إدارة معبر رفح الحدودي مع مصر بعد انتهاء العملية العسكرية الإسرائيلية في رفح جنوبي غزة، وبررت إسرائيل عمليتها في منطقة رفح بأنها تهدف إلى منع "حماس" من السيطرة على المعبر الحدودي الذي يربط غزة بمصر.
وستتولى هذه الشركة مسؤولية تشغيل المعبر، وفقاً للصحيفة، عبر مراقبة البضائع التي تصل إلى غزة من مصر، كما تنص الاتفاقية على أن تقدّم إسرائيل والولايات المتحدة المساعدة إلى الشركة عند الحاجة.[9]
ختاماً؛ نقطة اختلاف
على الرغم من التشابه الكبير بين المرحلتَين، فإن هناك اختلافاً جوهرياً بين الأطراف الفلسطينية، إذ كانت السلطة الوطنية الفلسطينية ضعيفة عسكرياً، لكنها حظيت بشرعية دولية، وسلاحها ومؤسساتها كانت رسمية ومعترفاً بها دولياً، وهو ما جعل نجاح إسرائيل يكمن، بصورة رئيسية، في استعراض قوتها وتجريد السلطة من القوة السياسية في علاقتهما الثنائية. أمّا "حماس"، فتتمتع بقوة عسكرية واضحة، لكنها لا تحظى بأي شرعية دولية، وهو ما يشكّل تحدياً لإسرائيل.
ونظراً إلى هذه الدينامية، فإن أي اتفاق مع "حماس" يُعتبر اعترافاً غير مباشر من إسرائيل بها، وهو ما يمكن أن يفتح الأبواب أمام "حماس" للمشاركة في الساحة الدولية بصورة أكبر. ومستقبل الحرب في غزة غير واضح في الوقت الحالي، لكن من المتوقع أن تتسبب التطورات الراهنة بزيادة الضغوط على إسرائيل للبحث عن حلول للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، تصب في مصلحة الفلسطينيين إذا تم استغلالها بصورة جيدة وعملية.
[1] يوآف زيتون، "إطلاق نار يومي من قبل حماس، 4 بؤر استيطانية دائمة، استعدادات لسيناريوهات متطرفة: الواقع الجديد في ممر نيتزر"، "يديعوت أحرنوت"، 9/5/2024.
[2] "معسكرات الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية"، وكالة "وفا".
[3] الاسم الذي أطلقته إسرائيل على عملية اجتياح الضفة الغربية سنة 2002.
[4] رافيف دروكر وعوفر شيلح، "بوميرانج: فشل القيادة في الانتفاضة الثانية"، القدس: كيتر 2005.
[5] "كلمة لرئيس الحكومة الإسرائيلية، أريئيل شارون، في مؤتمر قمة شرم الشيخ 8/2/2005"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، المجلد 16، العدد 62 (ربيع2005)، ص 186.
[6] "كلمة للرئيس محمود عباس في مؤتمر قمة شرم الشيخ يعلن فيها التوصل إلى اتفاق فلسطيني – إسرائيلي على وقف العنف ضد الشعبين شرم الشيخ، 8/2/2005"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، المجلد 16، العدد 62 (ربيع2005)، ص 177.
[7] حنان غرينوود، "’اليوم التالي‘ هنا: هكذا يحدد الجيش الإسرائيلي الحقائق في قطاع غزة"، "يسرائيل هيوم"، 21/3/2024.
[8] باراك رافيد، "وثيقة ’اليوم التالي‘: نتنياهو لا يستبعد تورط السلطة الفلسطينية في غزة"، موقع "وللا"، 23/2/2024.
[9] يانيف كوبوفيتش، "والتزمت إسرائيل بقصر القتال على معبر رفح في هذه المرحلة، وستنقل السيطرة على المكان إلى شركة أمنية أميركية"، "هارتس"، 7/5/2024.