لا يمكنني أن أصف معنى الخيمة، ولا معنى النزوح بصورة عامة، لكن يمكنني أن أقول إن الخيمة تعني أن لا حائط تستند إليه، وليست هناك حياة خاصة بك، لأن الستر ارتبط دائماً بجدران أربعة، حتى إن بعض الزوجات المطيعات القانعات يصفن درجة قناعتهن بأنهن لا يرغبن في القصور، فالواحدة منهن تريد فقط 4 جدران وسقفاً، أمّا النزوح، فيعني ألاّ تعيش في أمان واستقرار. وقد حدث ذلك معي كامرأة وأمٍّ أكثر من مرة؛ إذ نزحنا من مدينة غزة إلى شمالها بحثاً عن أمان زائف، حتى دكت الصواريخ منطقة الشمال، وخصوصاً منطقة الكرامة، فهربنا نحو جنوب القطاع في الجمعة الأولى من الحرب، واستقر بنا الحال في أمان زائف في مدينة خان يونس لمدة شهرَين، ثم نزحنا إلى مدينة رفح مع البدء بعملية اجتياح خان يونس مع مطلع شهر كانون الأول/ديسمبر 2023. وفي كل مرة تنقّلتُ فيها مع عائلتي، كنتُ أفقد خيطاً من خيوط خصوصيتي التي تهمني كامرأة، ويصبح كل من الضياع والتشرد سمتَيّ، كما هو حال آلاف الأشخاص في قطاع غزة.
وقد استقر بنا الحال في بيت أحد أقربائي في مدينة خان يونس، وكان نصيبي مع أولادي غرفة واحدة في بيت مكون من 3 غرف، لجأتْ إليه 3 عائلات بالإضافة إلى عائلة صاحب البيت، وفي الغرفة الواحدة، بدأت الحياة تضيق بي وبابنتَيّ الاثنتَين حين أصبحت الغرفة مكاناً للنوم، ولتكديس الطعام وبعض أدواته البلاستيكية التي تَصْلُح للاستخدام مرة واحدة بسبب عدم توفُر الماء، وللاحتفاظ بأغطيتنا وملابسنا القليلة، فضلاً عن كونها غرفة معيشة حيث ألتقي عائلتي لنتابع وقع القصف من بعيد، ونسمع الأخبار ونتابعها عبر هواتفنا النقالة بتقطُّع متذبذب لخدمة الإنترنت. والأهم من هذا كله أنك تطلب من الجميع مغادرة الغرفة لكي تغير ثيابك، وتطلب من أحدهم أن يقف معك في الحمام لكي يصب الماء الشحيح فوق يدَيك لتغسلهما. أمّا بالنسبة إلى دخول الحمام لقضاء الحاجة، فهذا يتطلب منك انتظار دور طويل، والويل لك إذا ما كان هناك طفل صغير قد سبقك، فيطول الانتظار، وأهم ما يمكن أن يؤلم ويزعج المرأة أو الفتاة وسط هذا التجمع البشري أن تقف في الطابور وخلفها أحد الرجال القاطنين في الشقة، والذي لا تتجاوز علاقتها به إيماءة رأس خجولة للتحية. أمّا الاستحمام، فهذه معضلة، لأن صاحب البيت قد وضع قانوناً استخدمناه لمدة شهرَين؛ إذ يكون الاستحمام مرة كل 10 أيام، وبكمية ماء لا تزيد على عبوّة صغيرة من الماء البارد، وقد بدأ البرد يشتد مع دخول أربعينية الشتاء، فلا كهرباء ولا غاز طبخ لكي تقوم بتسخين الماء.
ولقد بكت ابنتي ذات العشرين عاماً حين أخبرتُها بالقانون، إذ إن شعرها طويل، ويحتاج إلى أكثر من عبوّة ماء لتشعر بأنه تم غسله وتنظيفه. أمّا الاستحمام بالماء البارد كفكرة، فقد أصابنا جميعاً بالجزع، حتى تفتّق ذهني من فكرة.
وحينما كنتُ أطل من شرفة البيت، وجدتُ بائع القهوة يشعل نار الحطب أمام مستشفى الهلال الأحمر، والذي ضم آلاف النازحين، فنزلتُ متوجهة نحوه، وطلبتُ منه أن يقوم بتسخين الماء لنا بمقابل مادي، فوافق على أن يقوم بتسخين كل عبوّة صغيرة في مقابل 5 شواكل إسرائيلية، وبعد ذلك، بدأ يطلب منا أن نقوم بإحضار الخشب ليشعل النار مع ارتفاع سعر الحطب وشحّه.
وهكذا، كنتُ أحمل عبوّة الماء الساخن وأصعد بها، وأطلب من ابنتي أن تحاول الاقتصاد في حمامها الأسبوعي، فكانت تدخل الحمام، وتغلق بابه بطريقة تعبّر عن سخط بلا حيلة.
وفي الحمام الضيق المشترك، لم يكن في استطاعتنا، أنا وابنتي، أن نترك أي أداة أنثوية كما كنا نفعل في حمام بيتنا، والذي لم يكن يستخدمه سوانا مع ابني الشاب، والذي اعتاد منذ صغره أن يرى مستلزمات العناية الشخصية والحماية الشهرية، سواء على رف الحمام الخراساني، أم في سلة القمامة. أمّا هنا، فكل واحدة تحمل بين طيات ثيابها كيساً صغيراً من النايلون الأسود اللون، وتضع داخله مستلزماتها قبل دخول الحمام، وبعد أن تنتهي من استخدامها، تضعها في الكيس نفسه، الذي تخفيه في الثياب كي تخبئه في غرفتنا، وتخفيه عن أعين الرجال الغرباء.
وقد اشتكى ابني من النوم على فرشة رقيقة لا تقي برد الشتاء القارس، لكن البلاط والفرشة لم يدوما طويلاً، فانتقلنا في رحلة نزوح شاقة ومرهقة ومكلفة مادياً نحو مدينة رفح، وكان علينا أن نبحث عن مكان لنستقر فيه بعد أن شهدنا جموعاً غفيرة من الناس تقصد المدينة الصغيرة على خط ساحل البحر. فوصلنا إلى منطقة تُعرف بالحي السعودي غربي المدينة، ووضعنا متاعنا أرضاً، ودارت معركة صغيرة بين ابني والسائق الذي نقلنا، تغلب فيها جشع السائق واستغلاله، أمّا ابني المسالم، فأعطاه مبلغاً كبيراً من المال يضاهي أضعاف ما يمكن أن يحصل عليه في الأيام العادية.
وقد أصبحت الحياة في رفح - محطة لجوئنا اليوم - أقسى من السابق، فمفهوم الخيمة أقسى من مفهوم غرفة مشتركة في بيت غرباء؛ إذ إن الخيمة تعني أن الحمام سوف يكون في الخيمة نفسها، وستتم إقامته بطريقة بدائية، وإلاّ، فعليك أن تستخدم حماماً مشتركاً يبعد مسافة نصف كيلومتر عن خيمتك، تقيمه إحدى الجمعيات الخيرية، وعليك أن تحمل فيه بيدك إبريقاً بلاستيكياً من الماء، أو قنينة، وفي حال داهمت إحدى النساء الرغبة في قضاء الحاجة ليلاً، فلا يمكن أن تخرج وحيدة من الخيمة من دون أن توقظ أحد الرجال ليصحبها في مشوار مخجل وسط الخيام كي تصل إلى هذا الحمام المكون من كرسي رخامي محاط أيضاً بأقمشة أو ألواح صفيح متآكلة، استُخدم أحدها كباب يطلق صريراً مزعجاً سرعان ما يعتاده قاطنو الخيام، والذي يشير إلى دخول شخص ما الحمام في ظلمة الليل الحالكة.
إن الحياة قاسية في الخيمة للمرأة، وخصوصاً أنه المكان الذي يجب أن ترتدي فيه ملابس الخروج بالكامل، وتضع الحجاب فوق رأسها كما اعتادت نساء غزة، على الرغم من حرارة الجو هذه الأيام، وعدم توفُر حرية الحركة؛ إذ يتم في الخيمة إشعال الحطب، وطهي الطعام، وغسْل الأواني، والاحتفاظ بعبوّات ضخمة لماء الشرب، وأُخرى لماء الاستحمام والتنظيف اليومي.
وإذا تحدّثنا عن الاستحمام في الخيمة، فلا يمكن لك أن تتخيل كيف يمكن أن يحدث ذلك، لكن العملية تعني أن تُحاط المرأة التي تريد الاستحمام بالنساء الأُخريات واللواتي يمسكن بطانيات سميكة، ويشكلن حولها خيمة صغيرة، بالإضافة إلى الخيمة الخارجية الرئيسية، وعليها أن تسارع في غسل جسمها وشعرها كما اتُفق عليه قبل أن تصيح النساء الأُخريات من تَعَبِ أذرعهن المرفوعة.
ومع مرور أيام النزوح في رفح، أصبحت أدوات الحماية الشخصية الشهرية، وكذلك تلك التي تُستخدم بعد الولادة، شحيحة، وفي حال توفُرها، فهي غالية الثمن، وأمام هذه المشكلة، لم نجد أي مانع من العودة إلى استخدام الخُرق البالية، في عودة مهينة إلى سنوات مضت، لا ندري كيف عدنا إليها، وإلى متى سيستمر كابوس الخيام والنزوح هذا، والذي تدفع ثمنه النساء أضعافاً مضاعفة عن الرجال.