أستيقظ يومياً عند الساعة السادسة صباحاً، وأجد والد زوجتي، ذلك الرجل السبعيني الطيب، مستيقظاً قبلي، وأرى النار مشتعلة، وبراد الشاي، وبراد الماء الساخن على النار. وأجد أيضاً وعاء ماء ينتظرني كي أضع فيه 3 بيضات لتُطهى؛ اثنتان منها لأمي، وواحدة لكلبي "بدي".
وبعد الحمام وكأس "النسكافيه" الرخيص الذي استطعتُ الحصول عليه قبل جفافه من الأسواق تماماً، أوقظ أمي، وأغيّر حفاضتها، وأنظف بقايا الطعام المتساقطة حولها، وأحضر لها البيض وقطعة خبز وكأس شاي، وهو متوفر بكثرة؛ فهو جزء من معونات الوكالة، ويتم بيعه في السوق بضعف السعر. ثم أقوم بإطعام كلبي البيضة الثالثة، وألبس ما يصل إلى يدي من ملابس، فلا يهم اللون، أو إن كان القميص مكوياً أم لا؛ فهذه كماليات تنازلنا عنها كلياً منذ 51 يوماً [يوم كتابة هذا النص].
وحين أستعد للخروج، تلاحقني دعوات أمي. والطريق من البيت في السوارحة إلى سوق النصيرات يبلغ طوله نحو 2.5 كيلومتر. والسوارحة هي منطقة زراعية تقع بين مخيم النصيرات وقرية الزوايدة على البحر، ويبعد البيت عن البحر مسافة 600 متر، وربما أقل أو أكثر، أمّا في هذه الأيام، فتبدو الصين أكثر قرباً من البحر، وإذ توجهنا غرباً في اتجاه البحر، نجد الزوارق الحربية الإسرائيلية توجه مدافعها على الشاطئ، وعلى كل من تُسَوِّل له نفسه أن يلقي نظرة إلى أفق البحر، الذي هو الوحيد المتوفر لأهل غزة، الذين يعيشون الضيقة، ولا أفق هناك، إنما فقط مباني وشوارع تحجب الأفق، وبعضها يحجب السماء.
هذه غزة؛ غزة التي تقع بين بحر من الغرب، وسياج من الشرق والشمال والجنوب، تحرسه دبابات ومدافع وأبراج حراسة وطائرات استطلاع وطائرات حربية إسرائيلية.
حين أسير نحو الشرق، لا الغرب، أجد أن البحر لم يعد لي، ولا أفق لي، كما أن الطريق طويل ومرهق، وجزء كبير منه ترابي أو إسفلتي قديم، مليء بالحُفر، وجزء آخر منه معبد جيداً. وحين نمرّ في الطريق غير المعبد قرب سور المقبرة المركزية للمخيم، نرى أكوام القمامة مكدّسة على طول سور المقبرة، والطريق مؤذٍ ومؤلم، ومياه الصرف الصحي التي تسيل في الشوارع، بسبب تدمير البنية التحتية في كثير من الأماكن، تملؤها، بالإضافة إلى أكوام القمامة على جانبَي الطريق، والرائحة تُزكم الأنوف وتصيب بالدوار. فنسير سيراً متقطعاً لنتفادى الحفر ومياه الصرف الصحي والقمامة، ولا ننجح دوماً في تفاديها، إذ تمتد مياه الصرف الصحي أحياناً على عرض الطريق، وتغلقه كلياً، فلا يكون هناك مناص من الغوص فيها حتى الكعبين، فتشعر بالقرف، والحزن، والغضب، وتستمر في السير، لأنه لا يوجد بديل. ونرى بيوتاً مقصوفة مهدّمة على جانبَي الطريق، تنبعث منها رائحة البارود مختلطة برائحة الباطون المطحون، وربما رائحة بعض الجثامين تحت الركام، ولم يُخرجها أحد بعد. أمّا في الجزء المعبد من الطريق، فهناك حفرة ضخمة بحجم بركة سباحة أولمبية تمتلئ بالماء والصرف الصحي والقمامة، أحدثها قصف من طائرة. ويوماً بعد يوم، تمتلئ أكثر، وتتآكل حولها حواف الطريق، حتى أصبح الطريق بالكاد يتسع لمرور سيارة في اتجاه واحد، وما إن تمطر السماء مرة أو مرتَين، تمتلئ هذه الحفرة وتفيض، لتقسم الطريق كلياً، ولا مناص حينها من إيجاد طريق بديل غير موجود.
بعد ذلك، أصل إلى السوق بعد سير ساعة، وربما أقل، وربما أكثر.
والسوق، بشارعه الذي يشق المخيم من شرقه عند شارع صلاح الدين إلى أقصى الغرب ملتقياً بالبحر، لم يعد سوقاً؛ إذ إن هناك عدة مبانٍ تم قصفها، فضلاً عن مخبزَين، وسوبرماركت، ومحلات ملابس وأجهزة كهربائية، وصيدلية، ومحل عطارة. وبين كل بيت مقصوف وآخر، تجد بيتاً آخر تعرض للدمار الجزئي أو الكلي، ومعظم المحال مغلقة بعد أكثر من 50 يوماً من عدم دخول البضائع، فجفت المحلات، وفرغت تماماً.
فتم اختراع سوق آخر، الباعة فيه متجولون، أو يفترشون الأرض، أو يضعون بضاعتهم على صندوق كرتوني أو طاولة صغيرة أو عربة حمار، والبضاعة الوحيدة المتوفرة هي 4 أصناف من الخضروات: بطاطس، وطماطم، وفلفل أخضر، وليمون، وترتفع أسعارها يوماً بعد يوم. كما يوجد جزء من مواد التموين التي توزعها وكالة الغوث على النازحين في المدارس، وهذه المواد هي: معلبات الفول واللحمة والتونة، والسكر، والأرز، والعدس، فضلاً عن بطاطين خشنة، وقِطع بلاستيك بحجم 4*5 أمتار لتغطية الأسطح التي تسيل منها مياه المطر على رؤوس الساكنين في البيوت الفقيرة. فيأكل النازحون ما توفّر من هذه الأشياء، ويفترشون الأرض في السوق لكي يبيعوا ما تبقّى، أو ما حَرَموا منه أنفسهم وأبناءهم للحصول على بعض النقود لشراء أشياء أساسية لا توزعها الوكالة؛ كملابس الشتاء لأطفالهم، والفوط الصحية لنسائهم، والأدوية لمرضاهم، والسجائر والقهوة للآباء الأنانيين الذين يفضلون السيجارة وكأس القهوة على إطعام أبنائهم.
والازدحام خانق، إذ هناك آلاف مؤلفة من الناس في شارع السوق، فتُبصر على مد البصر رؤوساً وأجساداً تغلق الطريق، والسير بين الناس مرهق ومزعج، فمخيم النصيرات، الذي عدد سكانه 35,000 نسمة، يلجأ فيه نحو 150,000 شخص إضافي، جميعهم وكأنهم متفقون على اللقاء في السوق؛ نساءً، ورجالاً، وأطفالاً، وكباراً في سن بعكاز أو من دونه، وذوي إعاقة على كراسي بعجلات، ونساءً حوامل، وأُخريات يحملن أطفالهن الرضع، وشباباً وفتيات يسيرون ذهاباً وإياباً مرتطمين ببعض بصمت ومستمرين في السير. وتنبعث منهم كلهم رائحة العرق، ولا غلو في هذا الأمر، ولا أحد يشكو من أحد، وأنا مثلهم، إذ إن فرصة الاستحمام اليومي معدومة، نظراً إلى أن المياه شحيحة.
إن شارع السوق نفسه قذر؛ فمخلفات الباعة لا أحد ينظفها، وتتكدس يوماً بعد يوم تاركة المكان معبّق بروائح متنوعة، لكن جميعها مؤذٍ. فكم من الأمراض ستجلب هذه المكاره؟
وبعض الناس أخذ يبيع من محتويات بيته مواداً يعتقد أن هناك آخرين في حاجة إليها؛ كفراش قديم، وملابس مستعملة، وأحذية بالية. والبعض الآخر أكثر إبداعاً، إذ تجد بقرب بائع الدجاج، الذي يبيع الدجاج حياً لأنه لا توجد كهرباء لتشغيل مكينة تنظيف الدجاج، يشعل رجل ناراً، ويضع فوقها وعاء ماء كبيراً، ويقدّم خدمة ذبح الدجاج وتنظيفه يدوياً، فيذبح الدجاجة ويلقيها داخل وعاء الماء المغلي لدقائق، ثم ينتف ريشها ويُخرج أمعاءها ويعطيها إلى الشاري في مقابل مبلغ بسيط، وفي آخر اليوم، يتكوم الريش وأمعاء الدجاج في الشارع، في منتصف السوق، ولا أحد يكترث، كما أنه لا أحد يلوم أحداً أو يعاتبه، فالبدائل معدومة.
وبين هذا الكم من آلاف الناس، تجد مئات المتسولين من كل الأعمار، أولاداً وبنات، ونساءً، ورجالاً، يتعلقون بمن يعتقدون أنه قادر على إعطاء بعض المال، ويلحون بالطلب، فالجوع كافر ومذل، والناس جوعى. قبل الحرب، كان أكثر من 48% من الناس لا يعملون، أمّا الآن، فالحياة متوقفة تماماً، ولا أحد يعمل، وجميع المصالح والمصانع والمحلات والكافتيريات والقاعات والمطاعم أُقفلت، حتى الـ 40,000 موظف الذين يتلقون رواتبهم من السلطة في رام الله لم يتلقوها، فإسرائيل خصمت من ميزانية السلطة المبلغ الذي تحوله الأخيرة إلى رواتب للموظفين المدنيين في غزة بالكامل. إن إسرائيل تمسك بأعناقنا بكل الوسائل؛ ففي يدها قَطْعُ الماء، والكهرباء، والاتصالات، وأيضاً النقود؛ إذ إن مال السلطة الذي يأتي عن طريق التصدير والاستيراد يجب أن يمرّ عبْر إسرائيل ومعابرها وموانئها، فتجمع عوائده، ومن ثم تعطيه إلى السلطة، أو تقتطع منه ما تشاء وحين تشاء. وهذه إحدى صور الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
لم نعد من "الهيموسيبيان"، إنما عدنا إلى أصل أقدم، إذ أصبح الهدف الوحيد لكل سكان قطاع غزة هو البحث عن مأوى وطعام وماء فقط لا غير. وغريزة البقاء تقود الناس، كحيوان في الغابة، فتجد الضعيف والقوي، وتجد المنفرد بلا قبيلة ومَن يعيش في قطيع.
وقد بدأت تظهر، مع الجوع والعوز، مظاهر مرعبة، كالسرقة؛ فالمحلات تُسرق في الليل وفي وضح النهار، فتدخل مجموعة على أحد المحلات بصراخ وعويل همجي، ويبدأون بأخذ ما يصل إلى أيديهم ويلوذون بالفرار. وحين يتم قصف بيت ما، يُهرع الناس من أجل نجدة مَن لعله لم يمت تحت الأنقاض، فيندسّ بينهم مَن يحاول سرقة أي شيء يظهر من الأنقاض. كما يقتحمون البيوت التي تركها أهلها بسبب تهديد من الجيش الإسرائيلي ويسرقون ما يستطيعون، فضلاً عن خَلْعِهِم أبواب الشركات لسرقة ما يستطيعون أيضاً.
وهذا ما يحدث في غزة الآن، ولا عجب في ذلك؛ فحين تُنْتِجُ مجاعة بين أناس محاصرين في منطقة ضيقة ويختفى القانون، فلا تجد محاسباً ولا رقيباً، فإنه ليس من الغريب أن تبدأ غريزة البقاء في تبرير كل فعل. والخوف الآن متعدد الأوجه؛ فمنه الخوف من الموت في قصف من الجانب الإسرائيلي، ومنه الخوف من عدم القدرة على توفير ملجأ ومأكل ومأوى، ومنه أيضاً الخوف من السرقة أو التعرض للأذى أو حتى القتل، والخوف الأعظم هو الخوف المؤجل، أو الخوف مما هو آتٍ بعد هذه الحرب. لقد تم تدمير كل البنية التحتية لقطاع غزة، من مياه وصرف صحي، وطُرق، واتصالات، وبيوت، وتم تدمير أكثر من 200,000 بيت، وبعد هذه الحرب، هناك أكثر من مليون إنسان ليس لديهم بيت ليعودوا إليه. فأي حياة تنتظرنا؟ وأي مستقبل ينتظر أبناءنا؟ وأي سلطة ستكون هناك في غزة؟ هل ستكون احتلالاً إسرائيلياً عسكرياً؟ أم عودة لـ "حماس" إلى الحكم والسيطرة؟ أم عودة السلطة الفلسطينية؟ أم ستكون هناك قوات دولية تتلذذ بإهانتنا، حيث تشبعنا من إهانات أبناء جلدتنا من "حماس" والسلطة، ومن إهانات وقتْل الاحتلال الإسرائيلي لنا؟ ماذا ينتظرنا غداً؟ أقصد ماذا ينتظر مَن تبقّى منا غداً؟
لقد تجاوزتُ السوق متجهاً إلى شارع صلاح الدين سيراً أيضاً، فلا مواصلات داخل السوق بين كل آلاف البشر والازدحام، وتوجهتُ إلى خان يونس للقاء زملائي في العمل لتحضير تقرير عن عملهم في الدعم النفسي للأطفال في مدارس اللجوء. وهناك بضع سيارات قديمة متهالكة تعمل على غاز الطهي أو على زيت الطهي مخلوطاً ببعض زيت موتور السيارة، وتخرج منه رائحة تخنق الأنفاس، فلا بديل، والأسعار مضحكة، فلا سعر موحد، لكن أيضاً لا سعر يقل عن 3 أضعاف السعر الطبيعي، وحين تشكو، تجد الجواب جاهزاً؛ الغاز مقطوع، وزيت الطعام يُباع بثلاثة أضعاف الثمن، ككل شيء، فكل شيء يُباع في السوق تضاعَف سعره 3 أو 4 أضعاف على الأقل. وفي السيارة التي تتسع لـ 4 أشخاص، يحشر السائق 5 أو 6 ركاب، وليس من حقك أن تشكو، فهذا هو الموجود، إمّا أن تأخذه وإمّا أن تتركه. وما إن تصل إلى وجهتك حتى تكون أضلاعك قد تحطمت تقريباً من الضغط عليها طوال الطريق.
إن الطريق من النصيرات إلى خان يونس هو شارع صلاح الدين، وهو لا يزال معبداً، ولم يصله الدمار بعد، وعلى جانبَي الطريق من وقت إلى آخر، ترى عمارة سكنية، أو مبنى، أو مصنعاً، أو مخبزاً، أو مصرفاً تعرض للقصف والدمار، وجزء من حطام هذه المباني يصل إلى الطريق مبعثراً، وتتجاوزه السيارة بسهولة، لكون الطريق واسعاً ومعبداً.