سوداد (هاوية الغزالة)
فاروق وادي
ميلانو: منشورات المتوسط، 2022. 304 صفحات.
يعيدنا الروائي فاروق وادي في هذه الرواية إلى مناخات روايات الثلاثي غسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، وإميل حبيبي، والتي تناولها الكاتب في كتابه "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية"[1] الذي يُعدّ المرجع الأبرز للتعرف إلى التجربة الروائية الفلسطينية قبل ذلك التاريخ.
يمتد زمن الرواية (التي أُخذ عنوانها من مصطلح برتغالي يعني "الحنين" أو "النوستالجيا")، بين خمسينيات القرن الماضي وتسعينياته، ويتسع مركز مكانها وأطرافه من رام الله إلى الكويت، فلبنان، ثم سورية، ومصر، وليبيا، وإسبانيا، وفرنسا، في تصوير لحالة التشظي الفلسطيني. أمّا أحداثها فتتناول تحولات البشر، ودور المكان، ومتغيرات السياسة والاقتصاد، وانعكاسات المنافي وآثارها في سلوك الإنسان وقدرته على إعادة تشكيل رؤيته إلى الذات والعالم.
يكثف الروائي فكرة روايته في وصفه لتفصيلات مكونات اللوحة المعلقة على جدار كنيسة الناصرة البرتغالية، حيث الغزالة "معلقة في المسافة الواقعة بين قمة الصخرة التي تصنع بداية الهاوية وسطح الماء المالح شديد البرودة" (ص 10) بعد أن أصابتها سهام الأمير الفارس، لتتحدد بهذه التوطئة الملامح الأولى لصورة الضحية ياسمين، الشخصية المحورية التي تتحكم في ديناميات مسار البطل ياسين ومصيره.
لا يكتفي وادي بالتعاطف مع بطلَيه الضحيتين، بل يلومهما ضمنياً على سذاجتهما التي قادتهما إلى مصائر مأسوية، من دون أن يرفع صوته بالعتاب مثلما فعل "أبو الخيزران" في رواية "رجال في الشمس"[2] لكنفاني، ويترك لمسار الأحداث فرصة إيصال القارىء إلى الذي يدور في ذهنَيهما مع اقترابهما من لحظتهما الأخيرة: ياسمين التي أغرتها هدايا الأمير والرمال الذهبية وعادت إلى رام الله جثة، وياسين الذي يمّم نحو الكويت يلملم أطراف جرح عشقه لتكتمل دائرته بالموت وحيداً في رام الله.
تخالف الرواية ما سبقها من روايات بشأن دوافع وتحولات ومصائر الذين رحلوا في الخمسينيات إلى دول النفط، بدءاً من "رجال في الشمس"، ومروراً بـ "ذئب الماء الأبيض"[3] لإبراهيم زعرور، و"أصوات الصمت"[4] لمحمد الأسعد.
كانت الدوافع اقتصادية ومعيشية في روايتَي زعرور والأسعد، لكن بُعداً آخر ظهر لدى وادي، يضاف إلى دوافع الذين سبقوه إلى عوالم هجرة الخمسينيات، وهو مداواة جروح العشق والشعور بالوحشة بعد رحيل الحبيب.
يظهر بعض المشتركات بين شخصية ياسين، في أحد تحولات بطل "سوداد"، وميرسول الذي اشتقه الأسعد من بطل "غريب" ألبير كامو: فالأول كتب في الصحيفة الكويتية التي عمل فيها، بعد انتسابه إلى جامعة بيروت العربية، عن الإنسان في الوجودية والوجود والعدم في فلسفة سارتر، بينما تحدث الأسعد في "أصوات الصمت" عن كامو وسارتر للبسطاء، ليؤكد لهم عبثية حياتهم ويدعوهم إلى التمرد، فهو لديه الرغبة العنيفة في اعتلاء دبابة ولا يستطيع تدبير "إقامة مشروعة" في الإمارة، ويفكر في حي مونمارتر الباريسي الذي لم يعرفه إلّا على الورق، وينسى أنه يقيم على الأرض لا بين صخور عسير الجبلية. وربما تكون أوجه الشبه بين الشخصيتين الروائيتين نتيجة اتساع حضور الفلسفة الوجودية بين أبناء ذلك الجيل.
يقول علاء لشقيقه الأصغر ياسين في رواية "سوداد": "تأتي إلى الخليج فيكون همّك العمل، لا شيء غير العمل، تجمع القرش فوق القرش لتكون قادراً على تكوين أسرة في أقرب وقت ممكن" (ص 110)، مع إشارة إلى نظرة المجتمع إلى العازب. وتجد هذه العبارة ما يحاكيها في رواية "رجال في الشمس" في حديث أبو الخيزران مع مروان: "أنا مبسوط أنك ستذهب إلى الكويت، لأنك ستتعلم هناك أشياء عديدة. أول ما ستتعلمه هو أن القرش يأتي أولاً ثم الأخلاق" (ص 60). لكن وادي يذهب أبعد من كنفاني في تصويره تشوهات بطله الذي تحول إلى آلة لجمع النقود والبحث عن المتع الجسدية، وانتهى إلى محاولة التخلص من ظلّه بإنكار بنوّته لطفلة أنجبها عشق أفشله اللهاث وراء المال، ليفتح أفقاً للحديث عن حضور الفلسطينيين في أوروبا، والذي امتد إلى مقاربات تاريخية وأخلاقية رفض فيها البطل التصالح مع فكرة وجود العرب في الأندلس، وأصرّ على اعتباره احتلالاً يرفضه مثلما يرفض الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
وتقابل تحولات الإنسان في الرواية، التحولات التي تُدخلها الفصول وحياة البشر على المكان، علاوة على تغير الأماكن في عيون ساكنيها بعد غياب، الأمر الذي يظهر بوضوح في رام الله والكويت ولبنان.
فرام الله تظهر بصورة البلدة الوادعة في خمسينيات القرن الماضي، وقد تفنّن الروائي في وصف شوارعها، ومطاعمها، وأشجار السرو والصنوبر، ومناخاتها السياسية، لكن مع تواري ياسمين، تغيب هذه الصورة لتظهر صورة المدينة التي أنهكها الخريف. فياسين لدى عودته بعد اتفاق أوسلو، لا يجد سوى بقايا المدينة التي عرفها، والتي تحل فيها خيمة الشرطة محل خيمة اللجوء الأول بعد النكبة.
ومع أفول صورة رام الله البكر في ذهن ياسين، تحولت طموحاته إلى رماد أحلام في بيروت وطرابلس، ففي الأولى خسر مطبعته، وفي الثانية انهارت دولة المطلوبين بعد أن تردد اسمه وزيراً مقترحاً لإعلامها قبل انهيارها.
وجاء على لسانه خلال محادثة مع عشيقته جيزيلا أن "الكويت ليست بلدي، هي مكان عملي، أنا من فلسطين" (ص 167)، ليزيل لبساً ويكرّس حقيقة حرص الروائي على إبرازها، قبل أن تغلق الإمارة على نفسها، بعدما لحق بها من استباحة ودمار.
تحدد الرواية مصائر بائسة للفلسطينيين الذين خدعهم بريق المنافي في خمسينيات القرن الماضي، فياسين عاد منكسراً بعد رحلة لهاث وراء الوهم دامت ما يزيد على ثلاثة عقود، وياسمين ابتلعتها الصحراء وحلم الثراء، وزهور انتهت في مصحة الأمراض العقلية في القاهرة، وشقيقها نعيم بات في السجن، ونهاد غابت حين تجاوزتها الأحداث.
المصادر:
[1] فاروق وادي، "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية" (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، 1981).
[2] غسان كنفاني، "رجال في الشمس" (القاهرة: دار العلم والمعرفة المصرية، 2011)، ص 132.
[3] إبراهيم زعرور، "ذئب الماء الأبيض" (عمّان: وزارة الثقافة، 2002).
[4] محمد الأسعد، "أصوات الصمت" (بيروت: "الدار العربية للعلوم – ناشرون"؛ كندا: "دار مسعى للنشر والتوزيع"، 2009).