طفولتي حتى الآن
إبراهيم نصر الله
بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون؛ رام الله: دار طباق للنشر والتوزيع، 2022. 510 صفحات.
يقول الشاعر الفرنسي ألان بوسكيه (Alain Bosquet) في إحدى شذراته مخاطباً مارسيل بروست: "يا صغيري مارسيل، إننا لا نستعيد الزمن الضائع، بل نكتشف زمناً آخر مجهولاً."[1] وهكذا يذهب الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله نحو طفولته في روايته الجديدة "طفولتي حتى الآن"، ليس بهدف استعادة طفولته، وإنما كي يكتشفها من جديد كمكان جميل ومليء باللحظات الساحرة التي يتحدث عنها كأنها لم تنتهِ. إنه ببساطة مكان مستمر وزمن جدير بالاكتشاف مثلما يقول، فعلاقته بالحياة والوطن والشعر والكتابة والقراءة بدأت من هناك، منذ أن قرر الطفل إبراهيم افتتاح مطاره الطفولي، والتحليق في أول رحلة ستنطلق منه. فالتحليق الحقيقي هو تلك الرغبة في الذهاب بعيداً في اكتشاف الأشياء والإحساس بعمقها، مع أن الطفولة لم تبتعد، مثلما كتب نصر الله في إحدى قصائده: "لم أترك طفولتي يوماً تبتعد بعيداً / إن الوحوش تتجول في الجوار / لذا لم أجد بداً من الاحتفاظ بها حتى الآن."[2]
يكتب الروائي سيرته بطريقة تجعلنا نقتنع بعمق المعنى في حكايته، فهو لا يسرد الأحداث فقط، بل يضيء على أحداث كوّنت عالمه أيضاً. ولأن الرواية بالنسبة إليه بناء متين، فإن نصر الله يأخذنا إليها من موقع حميم وشخصي، فنشاهد كيف تتجمع تلك القصص لتبني حكاية الطفولة الممتدة، كأنه يريدنا أن نسأل ذلك السؤال المهم: هل يمكن للحكايات أن تصبح رواية؟
هكذا يمنح الروائي حكايته حديقة خلفية تصبح هي الرواية، فالقصص التي ألهمت إبراهيم نصر الله في طفولته وشكلت عوالمه الروائية، تسرد نفسها بعد أن أعطاها صوتاً من خلال الكلمات، فكتب شعراً ونثراً عن الحياة في المخيم، والوطن، والعمليات الفدائية، وعن علاقته بصديقته نور، لندرك أنه هذه المرة يكتب رواية الطفولة والمكان الذي حلقت رواياته منه.
قسّم إبراهيم نصر الله روايته إلى ستّ طفولات في ستة فصول: من طفولته الأولى إلى طفولته السادسة، وكل فصل / طفولة، عبارة عن حكاية مكتملة وجزء من بناء روائي يود أن يترك لنا مساحة للتفكير في أن كل فصل يصلح لأن يكون رواية بحد ذاته، فحكاية "شمس اليوم الثامن" عن جده، والتي روتها أمه، تُشعر القارئ بأن الكاتب كان يود أن تكون رواية مستقلة. وهكذا، تتجزّأ الحكايات إلى فصول، وكل واحدة منها تود أن تكون مستقلة بذاتها، لكنها كلها اجتمعت ضمن مساحة واحدة شكلت الرواية الواحدة.
هناك روايات كثيرة تنهل من السيرة الذاتية، وربما أشهرها "صورة الفنان في شبابه" للروائي الإيرلندي جيمس جويس،[3] والتي نقرأ فيها التمرد على السائد، لكن في رواية نصر الله "طفولتي حتى الآن"، نقرأ انزياحاً عن السائد وليس تمرداً. فالروائي في حالة نصر الله يحاور الوقائع ولا يتعامل معها بعدائيه، وربما ساعده في ذلك وجود العائلة التي احتضنت موهبته. فخالُه شاعر، وصديقته تحب الكتابة وتهديه الدفاتر ليكتب، وصاحب المكتبة يفتح أمامه عالماً مليئاً بالشعر والكلمات.
علاقة نصر الله بالشعر تمتزج بعلاقته بالعائلة التي تكوّن عالمه الشعري، فقد كان يعتقد أن الشعراء معظمهم موتى حتى أخبره خاله أن الشاعر يمكنه أن يكون في قيد الحياة، فأعطاه الأمل بأن يكون شاعراً. لقد كان وجود هؤلاء الأشخاص من العائلة مهماً بالنسبة إليه وإلى الشعر الذي كان له أيضاً مساحة في طفولته. واللافت في هذه العلاقة كذلك، أنها أثّرت في حياته بطريقة ما، فها هو يطلب من أمه أن تسمي أخته المولودة حديثاً فدوى، تيمناً بالشاعر إبراهيم طوقان الذي كانت له أخت اسمها فدوى، وهي الشاعرة الفلسطينية المعروفة.
أمّا المكان / المخيم، فيحضر في رواية نصر الله، لا كحيّز غريب، وإنما كجزء من السيرة والرواية والحكاية والشعر: إنه المكان النص، لا الخارج على النص، وهو المنطقة التي تمتلئ بما يحب. ومع أنه مكان قسري، إلّا إنه يحمل حكايات الوطن. إنها حياة يود نصر الله أن يكتبها مراراً وتكراراً.
في هذه الرواية لا نرى فقط علاقة إبراهيم نصر الله بالأشياء، بل نجد أنفسنا أيضاً شركاء في الحوار الخفي بينه وبين كل شيء في طفولته أثّر في حياته. فنحن نقرأ سيرة طفولة مليئة بالقصص التي كوّنت شاعراً، وكل قصة شكلت حيزاً خاصاً في حياته.
طبعاً تحضر فلسطين في تلك السيرة، ليس فقط في حكاية الآباء وأحداث النكبة، بل في صداقته مع نور التي كانت تشارك في العمليات الفدائية أيضاً، كأن الكتابة والسلاح كانا دائماً في علاقة صداقة في تلك الحياة المفتوحة على التجريب والنضال، والتي يحضر فيها المخيم كمكان مشحون بتلك الذاكرة.
سيرة نصر الله هي روايته الجديدة التي تحاول سرد طفولة جميع الأشياء في داخله: فلسطين؛ الكتابة؛ الشعر؛ الحب؛ المخيم. والجميل هنا أننا نتابع الرواية لنقرأ ما يحدث لنور ولخاله ولأمه وللشخصيات الأُخرى التي لا تنفصل عن عالمه، فإبراهيم نصر الله لا يكتب سيرته الضيقة، وإنما سيرة الشخصيات التي رافقت طفولته ولا تزال حتى الآن تتنقل في هذا المكان الحميم والدافئ.
المصادر:
[1] شذرة من شذرات ألان بوسكيه مأخوذة من ديوانه "أن تصبح لتموت آخر"، ترجمة الخضر شودار، ومنشورة في موقع "جهة الشعر" (اقتباساً من "السفير" اللبنانية التي نشرت تلك الشذرات بتاريخ 19 / 8 / 2016)، في الرابط الإلكتروني.
[2] من ديوان إبراهيم نصر الله، "عواصف القلب" (عمّان: دار الشروق، 1989). وقد وردت هذه الأبيات على الغلاف الداخلي لرواية "طفولتي حتى الآن".
[3] جيمس جويس، "صورة الفنان في شبابه"، ترجمة ماهر البطوطي (بيروت: دار الآداب، ط 2، 1986).