إلياس خوري. "كأنها نائمة". بيروت: دار الآداب، 2007. 390 صفحة.
أود مشاركة القارئ بتفصيل شخصي: حقيقة، في بيت الطفل إلياس خوري، صورة معلقة لامرأة في العشرين من عمرها، والتي سيعرف لاحقا أنها صورة عمته التي تزوجت من رجل في ناصرة فلسطين، وأنها انتقلت إلى هناك لتعيش معه في النصف الأول من القرن السابق. لم يُعرف عنها الكثير، ولم يعرف أهل البيت كثيراً من أخبارها سوى أنها ماتت هناك في الغربة وهي في عز صباها. لم يكن لدى الكاتب إلياس خوري أي معلومة عن عمته. هالة من الصمت دارت حول الصورة المعلقة في صالون البيت، ممزوجة ببعض الشعور بالذنب تجاه امرأة ذهبت إلى موتها وحيدة. لم يعرف أحد تماماً ظروف موتها المبكر، وهكذا غابت المرأة عن العالم، وبقيت الصورة معلقة، وبقيت معها نظرتها مغروزة في قلب الطفل، ويبدو أنه شعر بالمسؤولية عن امرأة جاءت إلى الحياة وغادرتها من دون ذكر أو أثر. أقول مسؤولية، ولا أقول ذنباً. قد يكون المرء مسؤولاً حتى لو لم يكن مذنباً، فنحن لدينا مسؤولية نحو أناس لم نسبب لهم أي أذى أو أي ألم. المسؤولية لا تنبع ولا تُشتقّ ممّا فعلناه في الماضي، ولا هي نتاج أخطائنا - هذا شأن الذنب - وإنما ممّا نحن قادرون على فعله الآن وهنا. وكلما كانت قدراتنا أكبر زادت مسؤوليتنا. وبما أن إلياس الكاتب امتهن الكلام واحترف الرواية، فيبدو أنه شعر بالمسؤولية عن عمته: مسؤوليته بإنقاذها من براثن النسيان. النسيان أقسى من الموت بحد ذاته، وليس مصادفة أن أسوأ اللعنات في التراث الديني اليهودي هي "لِيَمْحُ الله ذكره"، وأعظم التبريكات في الجناز المسيحي "ليكن ذكره مؤيداً". الموت معركة خاسرة طبعاً، لكن النسيان معركة مفتوحة وتحتمل الفروسية، إذ من الصعب أن يموت المرء من دون قصة، والرواية هي محاولةُ أن تكسو حياة عارية بمعطف الكلمات.
غير أن من الواضح أن عند هذا الحد تنتهي العلاقة بين الرواية والتاريخ أو الواقع، فجميع ما في الرواية هو من نسج خيال الكاتب طبعاً. هذه قصة لم تحدث، وإنما كان من الممكن أن تحدث. بالمعنى الأول هي كذب، لكن بالمعنى الثاني هي حقيقة. فبمجرد أنها كان من الممكن أن تحدث، فإنها تشير إلى حقيقة فنية تشرح لنا صدق العالم عن طريق كذب الأدب.. هذه قصة ممكنة لامرأة بيروتية - وقد لا تكون بيروتية، لامرأة لبنانية - وقد لا تكون لبنانية - من بداية القرن التاسع عشر في عالم رجولي اختلط فيه الجهل والدين بالخرافة.
ضمن كثير من المعاني، فإن الرواية تشبه أفلام ديفيد لينش (David Lynch) التي تمزج الواقع بالخيال، وتجعل من الواقع خيالاً والخيال واقعاً. الوقت في الرواية متحرك ولزج أيضاً ويخدع القارئ في كثير من الأحيان، ذلك بأن التحولات والانتقالات والتداخلات تزعزع ثقة القارئ باستمرارية الوقت وتدفّقه الخطي، بحيث لا نعرف متى يجري الحديث عن الحلم، ومتى يجري عن الواقع - الواقع الروائي.
يتلاعب إلياس بالذاكرة لأنها تتلاعب بنا، علماً بأن الذاكرة موجودة على مسافة واحدة من الحاضر، فما حدث أمس لا يبدو أقرب ممّا حدث قبل عام. ومن الصعب ترتيب الذاكرة، لأن الأحداث لا تقيم فيها مثلما هي الرسومات في أروقة المتاحف أو الأرشيفات بحسب كاتالوغات زمانية واضحة، بل إنها تدخل إلى الذاكرة وتقيم في ثناياها في مناطق غير معدّة لها بصورة خاصة، وتسكن حيثما تَشَأْ. الذاكرة مخزن قديم تتناثر فيه الأغراض، فبعضها يقيم في الزوايا المعتمة، وبعضها تحت الضوء، وجزء منها يطفو عليه الغبار، وآخر ناصع كالثلج.
كذلك الأمر في الحاضر، فنحن البشر ليس لدينا شرفة نُطلّ منها على الحياة، لكن الحلم في رواية إلياس خوري يبدو أكبر من الحياة، لأن الكاتب ينهي الرواية بالجملة الصاعقة التي تشير إلى أنها عرفت في الحلم أنها ماتت: "حاولَتْ أن تفتح عينيها، لكن المنام لا يتوقف. حاولَتْ أن تفتح عينيها، لم تستطع، فعرفت أنها ماتت" (ص 390)، كأن الحلم شرفة تطل منها على حياتها. ومع أن هذه النهاية تبدو كأنها مفاجأة، إلّا إنها تتماشى مع الحبكة الذهنية للرواية التي يتصاعد فيها منسوب الحلم والهذيان ليصبح طاغياً أكثر فأكثر، ذلك بأن نهاية من هذا النوع تطرح السؤال عن هول طبيعة الحياة باعتبارها استمراراً للحلم والعكس.
لقد أولى الأدب دائماً وأبداً الأحلام والهذيان أهمية قصوى، ومن الواضح أن هناك علاقة قريبة بين الأحلام وبين الأدب. فالأحلام تفتح لنا نافذة على العالم الداخلي، وعلى لاوعي الأفراد العميق، كما أن الأدب يتيح لنا نظرة عميقة إلى النفس البشرية القاطنة وراء الأقنعة وتحت السطح. الأحلام والأدب كلاهما يستعمل الرموز التي تنوب عن الأفكار والمشاعر والغرائز، وكلاهما بحاجة إلى تأويل وتفسير، أي أن الأدب والأحلام يتوسطان بيننا وبين العالم الواقعي عن طريق عالم رمزي يُخفي الواقع ويستبدل دلالاته ورموزه بدلالات أُخرى تخفي الواقع من ناحية معينة - وبالتالي هي غير واقعية. غير أن فك شيفرة هذه الرموز تمكّننا من فهم الواقع بعمق أكبر، بمعنى أن عدم شفافية هذه الرموز هو ما يمنحها عمقها القادر على سبر ما لا يستطيع عالم الشفافية أن يكشفه، وعليه، فإنها قادرة على أن تخفي وتفضح الواقع معاً. طبعاً ليس كل حلم هو نص أدبي، وليس كل هذيان هو منتوج فني، وإن كان هناك عامل مشترك بين الاثنين. وفي هذه الرواية تتراكم طبقتان دلاليتان وتتقاطعان وتتبادلان الأدوار: الأحلام التي تحتاج إلى تأويل في الرواية من خارج الحلم، والرواية التي تحتاج إلى تأويل من خارجها - أي من واقع القارئ. لكن الحلم لا يصل إلى القارئ إلّا بعد أن يمر بمنظومتين رمزيتين، وهذا التداخل يُدخل القارئ في حالة من الدوران والدوخان التأويلي، ويهز الأرض المعرفية تحت أقدامه: حلم يقود إلى حلم، ورواية تقود إلى واقع أشبه بالحلم. هذا الدوخان هو عالم ميليا - بطلة الرواية نفسها التي اختلطت عليها الأمور. وفي نهاية الأمر فإن ما يميز الحلم من الواقع هو ذلك الثبات الذي يصمد أمام الوقت ويضمن الاستمرارية التي تساعدنا على أن نتعرف إلى العالم. فالمرء يصحو من حلمه ليستمر في يوم الأمس: يجد نفسه في السرير نفسه، ويطل من الشباك ذاته على المنظر عينه. هذا هو الاسم الآخر للواقع، وهو يختلف عن الحلم الذي يبدأ كيفما اتفق، إذ لا استمرارية فيه ولا ثبات ولا تناغم داخلياً. غير أن أحلام ميليا تشي بنوع من الاستمرارية المخيفة، وتستمر أحيانا من حيث انتهت، أي أنها تَعِد بتماسك وثبات يضفيان عليها صفة الواقع، الأمر الذي يبعث على الجنون. أَوَلَيس الجنون واقعاً موازياً له منطقه الداخلي؟ إلياس خوري اختبأ في جنون ميليا ليمارس جنونه هو، معذوراً بالشكل الروائي الذي يتيح له جنوناً يُدعى فناً.
غير أن خوري اختبأ في ظل ميليا، وعاد إلى ثيمةٍ شَغَلَتْه في معظم رواياته وهي ثيمة الصمت. كتبتُ في موقع آخر أن إلياس خوري يكتب مع شعور بالذنب بأنه روائي يكتب روايات الآخرين، ويقيم بين الكلمات، لكنه يشعر بالعجز أمام روعة الفعل الذي يسبق الكلام، والذي يزوده بالمعنى ويحرسه من السقوط في الابتذال: من "الوجوه البيضاء"، إلى "يالو"، وطبعاً إلى "أولاد الغيتو" التي هي بأجزائها الثلاثة رواية ما كان يجب أن تُنشر، لأن كاتبها آدم دنون لا يثق بالكلام أصلاً، وكتب مذكراته لكنه قرر عدم نشرها، وبطلها هو الشاعر وضاح الذي ذهب إلى موته صامتاً. منذ البداية كانت الرواية تقيم على عتبة الكلام، وكان خوري يخاف أن تفقد الكلمات معانيها، معجَباً بنبل الصمت وجماله. لنتذكر فقط أن منال في "أولاد الغيتو" كانت جميلة كالصمت - على حد وصف الكاتب، كما أن الرواية كلها تمرد على ألم الصمت من ناحية، مترافق مع خوف من ابتذال المعنى وموت الكلمات من ناحية ثانية.
ميليا تسكن في الصمت بعكس زوجها منصور الذي يملأ عالمه بالكلام المباح والإباحي، وبالشعر، كأنه يريد أن يمد إليها جسراً من الكلمات كي تعبر منها إليه، وأن يستدرج قلبها إليه، إلّا إن ميليا تبقى خارج اللغة وخارج الكلمات، فهي تمر بها ولا تمسّها. ترفض ميليا الدخول إلى اللغة وإلى الرواية، فهي تتمرد ليس فقط على زوجها منصور، بل على إلياس خوري أيضاً، الذي يريدها أن تدخل في الرواية، لكنها تدير ظهرها للعالم الرمزي الأوديبي (نسبة إلى أوديبوس / Oedipus)، وتصرّ على أن تبقى في عالم التروما (trauma) الخاصة بها لتبقى هناك في العالم اللاكاني (نسبة إلى المحلل النفسي جاك لاكان / jacques_lakan) المتخيل، أو العالم السيميائي لدى كريستيفا (نسبة إلى جوليا كريستيفا / Julia Kristeva): أي العالم ما قبل العالم الرمزي الكلامي الذي يوحد الدلالات مجتمعياً ويجعل اللغة ممكنة، لكنه يقمع. لقد أصرت ميليا على وحدتها وكآبتها وهذيانها، وأدارت ظهرها لزوجها كجزء من إدارة ظهرها لعالم اللغة الذي سلبها تفرّدها الصامت وحزنها الموجودَين قبل قواعد اللغة؛ تلك اللغة المسؤولة عن خرسها وقمعها وصمتها: لماذا تتعاون مع لغة مسؤولة عن صمتها وقمعها؟ لماذا تخون حزنها وصمتها مع لغة معادية؟ لغة خذلتها هي، ولغة شعب خسر فلسطين وخسر حاضره وَدِيسَ على أفراده.
ميليا بصمتها تهز اللغة من خارج قواعدها محاولة توسيع هوامشها. ميليا هي اللاوعي الذي يسكن إلياس خوري ويحلم بالصمت. صمتت هي مكانه وبالنيابة عنه، وهكذا تبادلا الأدوار: هو حكى قصتها، وهي حكت صمته.
لكن لا يمكن الحديث عن الرواية من دون المرور على دلالاتها الدينية ودلالتها العائلية وعلاقات الآباء والأبناء، فهذه كلها ثيمة قديمة في الأدب والميثولوجيا والدين: من أوديبوس سوفولكيس، إلى قصة إبراهيم وإسحق، إلى الملك لير لشكسبير وغيرها من الروايات والأساطير. ففي كثير من هذه الحالات نجد رغبة الأب واستعداده للتضحية بالابن: إبراهيم وإسحق، لايوس وأوديبوس، وأخيراً الله والمسيح، والذي ضحى بابنه من أجلنا نحن البشر مثلما جاء في الرواية المسيحية. رواية "كأنها نائمة" تقترح تأويلاً لصلب المسيح باعتباره سوء تقدير من طرف السيد المسيح الذي كان على يقين من أن الله سيبعث خروفاً مكانه، لكن في النهاية تمّت التضحية بالمسيح نفسه. وليس مصادفة أن الخروف في اللاهوت المسيحي يُعتبر تجسيداً للمسيح، وليس مصادفة كذلك أن يحتل الخروف مساحة في أحلام ميليا، غير أنه، كما في حكاية المسيح هنا أيضاً، لم يظهر أي خروف في اللحظة الأخيرة لينقذ الموقف لم تحدث أي أعجوبة، ولم ينقذ أحد ميليا، ولا أعجوبة أنقذت فلسطين، فنحن نعيش في عالم لم يعد فيه خراف تذهب إلى موتها بالنيابة عنا.
تقف فلسطين كخلفية لأحداث الرواية، كما أن أحداث فلسطين تتصاعد مع تصاعد الأحداث في حياة ميليا كأنهما خطان متوازيان؛ قصتان تحتاجان إلى مَن يرويهما وتخشيان السقوط في بحر الكلام.
غير أن سقوط فلسطين يعيدنا ويذكّرنا بمادية هذا العالم، وبأنه على الرغم من كل شيء قد يكون هناك شيء ما خارج اللغة، وأن فلسطين هي واقع وليست فقط مجازاً. قد يكون..