الفقدان في الحرب
في 20 شباط/فبراير 2024، حضرتُ ندوة حوارية في جامعة حيفا بشأن كتاب "ولم يعرف مكانهم، ستة مفقودين بمعارك 1947-1948" (بالعبرية "فلو نوداع ميقومم")،[1] للمؤرخ وعميد جامعة حيفا، البروفيسور جور الروي، الباحث أيضاً في وحدة البحث عن المفقودين.[2] وقد تطرّق هذا في البحث إلى 6 مفقودين من 6000 قتيل ومفقود في إبان حرب "الاستقلال" كما يصفها الكاتب، والمقصود هنا نكبة الشعب الفلسطيني في حرب 1947 - 1948.
البحث عن المفقودين
في هذه الندوة، لم يكن الباحث هو المحاوَر، إنما كان محاوِراً لشخصين قام بدعوتهما من عائلات المفقودين؛ الأولى سيدة هي ابنة عمة أحد المفقودين، وقد كان محارباً في "البلماح" في حرب 1947 – 1948، وفقدت آثاره، ولم يُعثر عليه. وقد عُرف خلال التحقيق المستمر مكان دفنه سنة 2022، وهو في قبر جماعي في كيبوتس "نيتسنيم"، وتمت إقامة طقوس تأبين دينية له بحسب الشريعة اليهودية. أمّا الضيف الثاني، فكان نجل أحد المخطوفين في غزة في أحداث تشرين الأول/أكتوبر 2023، والذي قُتل، وبقيت جثته هناك.
شاهد القبر هو الذاكرة
إن ما شد انتباهي في الندوة هو إصرار مؤلف الكتاب على إيجاد المفقودين، أحياءً كانوا أم أمواتاً، لإرجاعهم إلى أحضان عائلاتهم الثكلى، ليتم صون كرامة موتاهم، ودفنهم باحترام عبر طقوس الدفن اليهودية. وتحدّث الكاتب عن أن في القبر هدوءاً وسكينة وراحة للعائلة بعد معرفتها مكان دفن الفقيد، لأن روح الميت هي الذاكرة التي يشهد لها الشاهد (اللوح الرخامي الموضوع على القبر مع اسم الميت وتاريخ ميلاده ووفاته).
وقد عُقدت الندوة والحرب جارية في القطاع. وفي هذه اللحظة، هناك مفقودون كثيرون، وقد أصبح الفقدان كبيراً على الذاكرة التي لا شاهد لها بشأن مكان دفنهم، في حال دُفنوا أفراداً، وهذا نادر جداً، أو معدوم في القطاع خلال الحرب الآنيّة الشرسة؛ فالناس تُدفن في حواشي الطرقات، وفي المنتزهات، والأماكن العامة في مجموعات، وربما لا تُدفن، لأنها أصبحت طعاماً للحيوانات. ولم تعُد القبور تحتمل أكثر؛ فهناك أشلاء تلملَم وهي غير معروفة الهوية. فأي شاهد سيحفظ الروح التي هي الذاكرة الشاهدة على رحيل الجسد وبقاء الروح في القبر؟ في هذا الوضع، لا توجد طقوس ولا مراسم دفن ولا وداع للميت هناك، كما لا مجال لإكرام الميت وصونه في القطاع. فأي ألم حمله معه الشهيد/ة، وحمّل أهله إياه، في حال بقي أحدهم حياًّ أصلاً؛ إذ هناك عائلات في القطاع مُسحت بأكملها، وشُطبت من سجلات النفوس، وما زال هناك حتى هذه اللحظة مئات المفقودين، إن لم يكُن أكثر. إن الفقدان أمر في غاية الصعوبة، والإنسانية لا تُقسَّم، والرحمة يجب أن تكون للجميع، وهذا الأمر هو ما قلته تعقيباً في نهاية الندوة.
حرب دائرية
هذه الحرب اختلفت كلياً عن الحروب الخمس السابقة[3] التي شنتها إسرائيل على مدينة غزة وباقي القطاع بعد الاحتلال سنة 1967، لكن الجدير بالذكر أنه سنة 1956 تعرضت مدن القطاع (غزة، ودير البلح، ورفح) لمجازر فظيعة، راح ضحيتها مئات الشهداء من المدنيين، نفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي[4] رداً على العمليات الفدائية التي نُفذت حينها في إسرائيل، وراح ضحيتها عشرات القتلى. وبعد 68 عاماً، ها هي إسرائيل تردّ بمجازر رهيبة وشديدة العنف على العملية العسكرية في 7 تشرين الأول/أكتوبر، والتي نفذتها حركة "حماس" في غلاف غزة، وهي حرب دائرية غير معروفة نهايتها الأبدية.
الواقع في الحرب ليس كما نشاهده عبر الشاشة
إن أخبار الحرب تصلنا عبر نشرات الأخبار، ويتمثل المشهد العام هناك الذي نشاهده على شاشات التلفاز في النزوح والخيام، كما نستمع إلى إحصاءات جافة عن عدد الشهداء والجرحى وتقارير عامة عن الخسائر المادية والبشرية، كما نشاهد الأحداث الكبيرة العامة. ومع تقدُم التكنولوجيا، أصبحنا مطلعين أكثر على تفاصيل معيشية بسيطة عبر وسائل التواصل الاجتماعي مباشرة من أهل القطاع. وفي وقت الحرب، لا مجال للرفاه، لأن الخوف والترقُب يلاحقان كل فرد، وقد كشفت هذه الحرب النقاب عن الصورة داخل القطاع؛ من معالم الحارات، والبيوت، والأحياء، والطبقة الغنية، وطبقة المخيمات، والآثار القديمة، وتطوُر مدينة غزة وحداثتها على الرغم من حصارها الذي تجاوز الـ 17 عاماً. ولكل فرد هناك قصته وألمه وتجربته الحسية الوجدانية، أمّا نحن، فنشاهد من بعيد محاولين لمس ما يحدث هناك، وعند انتهاء الحرب، سيكتب المؤرخ عنها؛ فيهتم في كتابته التأريخية بالحدث الكبير، كسبب نشوب الحرب على سبيل المثال، وسيكتب عن الطرفين "حماس" وإسرائيل، والعلاقات الدولية، وعدد النازحين، والناجين، والدمار الذي خلفته الحرب، وما إلى ذلك، بالإضافة أيضاً إلى تقديم نقد وتقييم تاريخي عن طريق العمل الأكاديمي.
التاريخ الشفوي وتفاصيل حياتية صغيرة
أمّا التاريخ الشفوي الذي يتبناه التاريخ الاجتماعي، فهو نقيض التاريخ السياسي والعسكري والدبلوماسي؛ إذ إنه عبارة عن فسيفساء تبنيها آلاف الحجارة الصغيرة إلى أن تكوّن صورة شاملة وغنية بالمعلومات والمعرفة.
والتفاصيل الحياتية اليومية الصغيرة، وربما البسيطة، هي سرديات إنسانية مهمة تسقط عند المؤرخ. ففي هذه الخيام أرواح بشرية، وفي النزوح سرديات وأحلام فردية. لقد انهارت الإنسانية في هذه الحرب، وبدا هذا الانهيار والصمت وكأنه "يشرعن" الحرب الدامية.
وإذا عدنا إلى جمع الشهادات الشفوية، نجد أنها مهمة، وأنها تصبح مصدراً تاريخياً لاحقاً بعد صوغها بحسب المعايير المهنية والأكاديمية، ويتم تأريخها في السجلات؛ فالسرديات الذاتية تخبرنا عن التجربة الحسية اليومية، وعن طريقها نشعر بحرارة التجربة، ونتفاعل مع الحدث أكثر، لأنه يصبح إنسانياً ومقرباً إلينا. والتأريخ الشفوي في فترة الحرب مهم جداً، والتجارب والخبرات الشخصية لها أهمية كبيرة لفهم الأحداث، وما حدث للناس.
النزوح في حرب 1947-1948 واليوم
إن الرواية الشفوية الفلسطينية عن حرب 1947 - 1948 منحتنا معرفة تاريخية مهمة سقطت من كتب التاريخ، ومدتنا بالمعلومات التي لم تذكرها الأدبيات؛ كترْك الناس بيوتهم طوعاً على سبيل المثال. كما تؤكد لنا شهادات الناس الشفوية عن النكبة من جديد صدقها لما نشاهده اليوم في الحرب الجارية، "طوفان الأقصى"؛ إذ نرى التهجير والطرد القسري الذي يقوم به جيش الاحتلال، وكذلك الحال قتل المدنيين وسرقة البيوت وغيرها من الأعمال غير الأخلاقية.
ويتعرض لاجئو حرب 1947 - 1948 في أحيان كثيرة للّوم والتشكيك والتخوين إذا صح التعبير من جانب أهالي الدول العربية بسبب مغادرتهم فلسطين في إبان الحرب. لكننا اليوم نشاهد تماماً ما حدث معهم، وكيف اضطروا إلى ترك الوطن الغالي عليهم آملين العودة إليه، وهو تماماً ما يحدث مع أهل القطاع، فالهروب في الحرب هو إخراج وتهجير قسري.
الحرب والرواية الشفوية
أود دائماً تأكيد أن التاريخ الشفوي هو عِلم قديم من علوم التاريخ، فهو يكشف ما لا تغطيه الأرشيفات، وهو جمع للمعلومات التاريخية عن الأفراد والعائلات والحياة اليومية والاجتماعية. أمّا التاريخ المكتوب، فهو يتعامل مع المجتمع ككل، بصرف النظر عن تفاصيل الفرد الحياتية، إذ يتعامل مع وجود الشعب بأكمله في ذاكرته وهويته. ويجدر بنا هنا التنويه إلى أن التاريخ الشفوي ليس بديلاً للتاريخ المكتوب، إنما هو مكمل له؛ فشهادات الناس ورواياتهم في وسط الحرب الدائرة في قطاع غزة تأتي على ذِكر ما لا تذكره نشرات الأخبار. فعلى سبيل المثال، يشكّل صوت الزنانة المقيت وتأثيرها النفسي في الناس حالة من حالات التعذيب.
روايات تحكي الحرب
إن كتابة اليوميات في الحرب هي أمر غاية في الصعوبة، وفي الوقت ذاته غاية في الأهمية، وكانت المفاجئة الرائعة صدور كتاب يوميات في خضم الحرب عن القطاع من جانب أهل القطاع، الذين كتبوا يوميات عن الحياة في ظل الحرب، وقد صدر الكتاب عن وزارة الثقافة الفلسطينية في مطلع شهر شباط/فبراير 2024، حاملاً عنوان " كتابة خلف الخطوط – يوميات الحرب على غزة"، واشترك في تأليفه 25 مثقفاً من قطاع غزة. وكتب وزير الثقافة الفلسطيني، عاطف أبو سيف، بدوره أيضاً 35 يومية عن الحرب خلال تواجده هناك لمدة 83 يوماً، ونشرها في منصة "العربي الجديد" قائلاً: "إن ممارسة الكتابة وقت الحرب هي جزء من القتال من أجل الحياة، والنضال من أجل البقاء. إذاً، فالكتابة ليست ترفاً، ولا هواية، إنما هي وسيلة قتال، وتعبير آخر من تعابير المواجهة."
فيروز والنزوح سنة 1948
إذا عدنا 76 عاماً إلى الوراء في الذاكرة، نستمع إلى شهادة فيروز من حيفا بشأن نزوحها إلى لبنان:
"رحلنا إلى لبنان في مركب ’بوطاجي‘، فأبحرنا في تمام الساعة الرابعة بعد الظهر من ميناء حيفا. وكان المركب صغيراً ومليئاً بالمسافرين؛ أكثر من 300 راكب.. أبحرنا وكان البحر مائجاً وهائجاً، وتكبدنا مشقات الإبحار ومخاطره، إذ هاج البحر واشتدت الرياح.. فشعرنا بأن الموت يهدد حياتنا.. وبعد صعوبات ومخاطر، وصلنا إلى ميناء بيروت عند الرابعة صباحاً."
وتؤكد فيروز أنه في الأيام والليالي الأولى، كانت تسمع أصوات النازحين من فلسطين، وقصصاً تقشعر لها الأبدان، فكانت هناك وفود كبيرة من مختلف أرجاء فلسطين؛ حيفا، وعكا، ويافا، ودير الأسد، وصفد.
بسمة والنزوح سنة 2024
لنعُد، بعد 76 عاماً، إلى غزة اليوم، ونستمع إلى شهادة بسمة عياد كما سجلتها الكاتبة والإعلامية الغزية، هداية صالح، وقد قالت في شهادتها: "في تمام الساعة السادسة والنصف من صباح 7 تشرين الأول/أكتوبر، ذُعرت غزة بأكملها من صوت الانفجارات والقصف، وفوجئنا جميعنا بحرب تبدو مختلفة عن سابقاتها التي عشناها، فشدّة القصف جعلتنا نشعر بذلك، وتمنينا ألاّ تطول الأيام الصعبة، لكن الأمور جاءت بغير ما تمنينا. وفي 10 تشرين الأول/أكتوبر، فزعنا على صوت مئات وآلاف النساء والأطفال والرجال، وضجيج السيارات والحافلات يملأ المنطقة حولنا قرب ميناء غزة، فهرعنا لمعرفة سبب نزوح الناس بهذه الأعداد في اتجاه الجنوب خارجين من مدينة غزة، إذ رأينا الجميع يخلي المنطقة رغماً عنهم وسط بكاء الأطفال والنساء، وقد امتلأ المحيط بالصراخ والفزع والخوف مما يجهلونه، وأسرعنا نحن أيضاً نُعِدُّ ما يمكننا أخْذه من أغراض أساسية لكل فرد من عائلتي، وما كدنا نخرج حتى تم قصف المبنى الذي يجاور بيتنا، ولم يكن هناك وقت لفهْم ما يدور حولنا، فكنا نركض ونمسك في أيدينا ببعض الحقائب، وقد ملأ الخوف والرعب قلوبنا من شدة الانفجارات والقذائف التي لم تتوقف، والتي بدى فيها ذلك اليوم وكأنه يوم القيامة، مع مشهد الناس النازحين والهلع الذي كان سيد الموقف".[5]
76 عاماً على النكبة، واستمرارية التهجير القسري
لقد فصل بين السرديتين 76 عاماً، وعندما نزحت فيروز، لم تكن بسمة قد خُلقت بعد، وقد اختلف الضجيج والخوف والنزوح في الشكل والزمن، لكن الجوهر بقي واحداً. إن التهجير القسري للفلسطينيين من فلسطين من جانب الاحتلال الإسرائيلي مستمر بأشكاله المتعددة.[6]
[1] جور الروي، "ولم يعرف مكانهم، ستة مفقودين بمعارك 1947-1948"، "يديعوت أحرونوت"، 2023.
[2] تأسست خلال حرب الغفران سنة 1973 في الجيش الإسرائيلي.
[3] 2008-2009 ،2012 ،2014 ،2021 ،2022 ومعارك واشتباكات أُخرى.
[4] هارون هاشم الرشيد، "قصة مدينة غزة، سلسلة المدن الفلسطينية" ص. (12) (المنظمة العربية للتربية والثقافة بمنظمة التحرير الفلسطينية)، ص 77 و78.
[5] هداية صالح شمعون، "النزوح من ثالث أقدم كنيسة في العالم في غزة: كلنا في الإبادة سواء مسيحي أو مسلم وقاتلنا واحد!"، "فارءه معاي"، 1/3/2024.
[6] روضة غنايم، "حيفا في الذاكرة الشفوية، أحياء وبيوت وناس" (قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022)، ص278.