الصراع مع المستعمر الصهيوني هو حرب على جميع المستويات: من الكلمة حتى الغطاء النباتي؛ لكنه أمر تنبّهت له الثورة الفلسطينية في مرحلة مبكرة، عبر مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية ذات الصلة، والوحدات الثقافية والفنية لدى معظم فصائل العمل الوطني. وربما من أهم صور الصراع الثقافي بين فلسطين والمستعمر الصهيوني، استهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت خلال اجتياح لبنان وبعده في سنة 1982، ونهب محتوياته، بما فيها مئات آلاف ساعات الأشرطة السينمائية.
حتى الكلمة لم تسلم من هذه الحرب، إذ عمد المستعمِر إلى عبرنة أسماء القرى الفلسطينية، والشوارع، وحتى الطعام، عازياً إلى نفسه مأكولات تراثية شامية (سورية وفلسطين ولبنان) مثل الحمص والفلافل، بل وصل الأمر به أن سرق الثوب الفلسطيني التراثي؛ وحتى الحجر لم يسلم من تلك السرقة الشاملة. وفي هذا السياق يمكن استذكار ما فعله المستعمِر بقرية هونين في سنة 1948، حين أمر بحرق كل ما فيها، ثم فكك في مطلع الخمسينيات حجارة منازلها ليُنشأ أرشيف ومتحف "بيت أوسيشكين" في مستعمرة "دان"، في صورة معبّرة عن عملية محو تاريخ وصناعة تاريخ بديل من عناصر التاريخ الأصيل. وقد كتب عن ذلك توماس غاردي في كتابه "حجارة، ورق"، وهو الذي "نشأ في الكيبوتس، وترعرع في مبنى الأرشيف."[1]
أمّا في الحرب على البيئة، فيمكن إعطاء مثل محاربة إسرائيل للعنزة السوداء باعتبارها رمزاً فلسطينياً، وفرضها قيوداً مشددة على مَن يربيها، وإصدارها قانوناً في خمسينيات القرن الماضي ضد هذا الحيوان الذي اكتشف المستعمِر بعد ستة عقود فداحة ما أقدم عليه حين احترقت غابات الكرمل في سنة 2010، فأصدر قانوناً أعاد السماح بموجبه بتربية العنزة السوداء.[2]
في هذا العدد ننشر محوراً عن الفنون يتضمن 4 نصوص تُبرز المساهمة الفلسطينية الفردية في مجابهة الهجمة الصهيونية على الثقافة والفنون: دراسة لحنين الغبرا: "التواصل الأدائي"، تعالج فيها هذا التواصل الفلسطيني عن طريق موسيقى الهيب هوب؛ مقالة لهشام روحانا يحلل فيها فيلم "حمّى البحر المتوسط" للمخرجة الفلسطينية مها الحاج؛ مقالة "فلسطين في سينما سنة 2022" لسعيد أبو معلّا، يناقش فيها مجموعة من الأفلام الفلسطينية الصادرة في سنة 2022؛ نص "حادي البروة" لمحمود كيّال عن الزجّال الفلسطيني أسعد عطا الله من قرية البروة التي هُجّرت ودُمّرت في سنة 1948.
المصادر:
[1] انظر: قراءة في كتاب توماس غاردي في: أون باراك، "حجارة، ورق"، ترجمة نسرين ناضر، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 93 (شتاء 2013)، ص 203 – 205؛ عبد الرحيم الشيخ، "هنا، هونين، هناك"، "الآداب" (5/1/2021)، في الرابط الإلكتروني.
[2] انظر: جمال زحالقة، "الصهيونية والعنزة السوداء"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 125 (شتاء 2021)، ص 35 - 61.