كأن في الفكر القومي العربي مفارقة صريحة، فهو جاء وانتشر ولم يُعرف من المفكرين القوميين إلّا قلة قليلة. وقد وُلدت الفكرة القومية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولم يكن فيها غربة الماركسية ولا أسئلة المعتقد الديني، وإنما تآلف معها العرب، وبدت جزءاً من معيشهم اليومي في النصف الأول من القرن العشرين، وصدرت عنها بين أربعينياته وهزيمة حزيران (1967) حركة جماهيرية واسعة دُعيت: "حركة القوميين العرب" أسستها نخبة مثقفة واسعة الامتداد، لم تواجهها الأنظمة الحاكمة، قياساً على الشيوعيين والإخوان المسلمين، إلّا بقمع محدود. وانتسبت قبل هزيمة حزيران إلى الزعيم المصري جمال عبد الناصر وجماهيره الهائلة.
أعطى الفكر القومي، الذي التبس بالزمن العربي الحديث، "ساطع الحصري" العفوي الواضح القريب من عفوية المنتسبين إليه. فقد كان إيمانياً في تصوراته القومية، مؤمناً بديمومتها وانتصارها، ومطمئناً إلى ديمومة منتصرة. وعلى الرغم من شهرته وهو العروبي المخضرم (1879 – 1968)، فإنه بدا حاضراً وغائباً في آنٍ: حاضراً في شهرته القومية، وغائباً كصاحب قول نظري - سياسي يؤسّس عليه في الحاضر والمستقبل.
1 - قومي صادق لا يضبط قوله
وصف المؤرخ التونسي النبيه الهادي التيمومي، في كتابه "في أصول الحركة القومية العربية: 1839 – 1920، نحو إعادة التأويل" الأستاذ الحصري بأنه "أول منظّر بارز للحركة القومية العربية". الصفة الأولى صائبة، لأن قضيته القومية لازمته طوال حياته، بينما تبدو صفة "المنظّر البارز" فضفاضة، جزئياً، ذلك بأن تنظيره جاء وانتهى تبسيطياً، إذ اعتاش على البداهة، واستند إلى مقولات "ألمانية" التنظير.
ويمكن اقتفاء "صفتَي" الحصري بالرجوع إلى "أعماله القومية" الصادرة، أكثر من مرة، عن "مركز دراسات الوحدة العربية" وتقع في 17 كتاباً، تشهد على "رسالة المربي والمعلم"، ومنها: "آراء وأحاديث في القومية العربية"؛ "العروبة أولاً"؛ "دفاع عن العروبة"؛ "حول القومية العربية"؛ "أبحاث مختارة في القومية العربية"؛ وغيرها. وتمثّل هذه الكتب المتعددة كتاباً واحداً يشرح فكره في احتمالاته المتنوعة، ويمزج الشرح بيقين يؤكد انتصار الفكرة - الرسالة من دون أن يعوزها اليقين وهي تناجي المستقبل، أو تنقد خصومها، متوسدة مادة تاريخية متفائلة.
بيد أن الصفتين اللتين أسبغهما التيمومي على الحصري: وهما الريادة والتنظير، "تهتزان"، على سبيل المثال، أمام تقييم الأول النهائي لـ "الثورة العربية الكبرى" التي أطلقها الشريف حسين - شريف مكة – في سنة 1916. فهذان المؤرخان القوميان يختلفان في القول اختلافاً يتاخم التناقض والمخاصمة الشاملة. وقد يبدو لنا أن من عادة المؤرخين الخصام والاختلاف، لولا الموضوعية التي تميّز التيمومي بها، والتفصيلات الدقيقة التي أوردها، وركونه إلى عدة مراجع بثلاث لغات. وكي نظل مع الحصري ورسالته القومية، نكتفي بالإشارة إلى تعامل الشريف حسين مع "ثورته الكبرى". فوفقاً للمؤرخ التونسي، فإن إخفاق الثورة يعود إلى: "استبداد الشريف، وتجسيمه كأبشع ما يكون التجسيم للاستبداد الشرقي الرهيب الذي جثم على المنطقة منذ العصر الفرعوني، لقد حكم بصفة أرستقراطية قروسطوية. كان لا يستشير أحداً من وزرائه.. كأن الثورة هي ثورته الخاصة وثورة زعماء بعض القبائل الذين أيدوه.. وربما لا نغالي إذا قلنا إن إيمانه بالقومية العربية كان ضعيفاً أو ربما منعدماً، وإن همه الوحيد هو الحصول على مُلك عريض لا غير." وفي مقابل ذلك كتب الحصري: "وهذه الثورة التي بدأت من مكة المكرمة، تحت زعامة أمير مكة، لم تكن ثورة حجازية، بل كانت ثورة عربية بكل معنى الكلمة. إنها كنت ترمي إلى استقلال الولايات العربية بأجمعها، وكانت تصبو إلى تكوين دولة عربية جديدة موحّدة، تنهض بالأمة نهضة حقيقية تعيد إليها مجدها السالف."[1] والقارىء الذي يعود إلى النصين يرى أنهما يختلفان اختلافاً كلياً، أكان ذلك على شخصية "شريف مكة" وطموحه، أم على أتباعه وصفاتهم أيضاً.
وربما انجذب الحصري إلى "الثورة العربية الكبرى" لأنها أثارت فيه أحلاماً آمن بها، بل لعل إيمانه بالقومية العربية، أكانت موجودة أم منقوصة الوجود، هو في أساس وعيه القومي المتساهل المتقشف، والذي اختصره في عنصرين هما اللغة والتاريخ اللذان تضيف إليهما الرومانسية المطمئنة: خواطر القلب وصور الأجداد وتوقاً إلى عروبة لا تقبل بالخضوع.
2 - نظرية القومية عند الحصري
ألقى الأستاذ الحصري في قاعة الجمعية الجغرافية في القاهرة بدعوة من كلية الآداب في سنة 1948 "محاضرات في نشوء فكرة القومية" نُشرت لأول مرة في كتاب في سنة 1951، وأعاد "مركز دراسات الوحدة العربية" في بيروت نشره من جديد.
أعلن الكتاب في صفحته الأخيرة، أن "اليد العليا ستكون للقومية العربية العامة على كل حال. هذا ما نستطيع أن نجزم به."[2] وقد فسّر الحصري ذلك بسببين يُرضيان الرغبة الذاتية ولا يقول بهما الواقع العربي: أولهما أن زمن يقظة القومية العربية هو زمن "القوميات المنتصرة" الذي عمّ العالم أجمع، وثانيهما أنه "ليس من المعقول أن تُترك شعوب الأمة الواحدة (أي الأمة العربية) منفصلة متفرقة."[3] وقرأ الحصري زمنه، كما الزمن القادم، برغباته، مُحيلاً إلى الزمن المرغوب فيه تحقيق ما يجب تحقيقه "عربياً"، ومفترضاً زمناً كونياً متجانساً يطبق قواعده على الجميع. فمثلما أن الماركسي اللبناني مهدي كامل سيؤمن بأن القرن العشرين هو زمن الانتقال الكوني من الرأسمالية إلى الاشتراكية، آمن الحصري قبله بالقرنين التاسع عشر والعشرين زمناً للانتقال الكوني ممّا قبل القوميات إلى القوميات المنتصرة. تنتصر القومية العربية "بقوة الزمن" بمعزل عن شروطها الموضوعية، مثلما ستنتصر "الطبقة العاملة العربية" لاحقاً، "بقوة الزمن" التي تفعل في المجتمعات جميعاً.
ويلفت الانتباه في خطاب الحصري تعبيره: "ليس من المعقول أن تُترك شعوب الأمة الواحدة...." المتضمن لزوماً مبدأ "واجب الوجود" الذي لا يعني تاريخياً شيئاً، فلكل وجود سبب مثلما أن لغيابه سبباً، إلّا إذا كان السببان غير قابلَين للتحديد، وهو ما لا تقبله "أمة عربية" بحاجة إلى التضامن وتحرر الأرواح، وكان "اللامعقول" جزءاً من بُنية هذه الأمة التي رأى الحصري مستقبلها مجيداً كماضي العرب. وقد رافقت رهانه القومي أمنيات واسعة: فـ "في كل تبشير واسع حرمان أكثر اتساعاً." هكذا يُقرأ تحريض الحصري أكان واضحاً أم مستتراً.
سرد المنظّر القومي في "محاضرات في نشوء الفكرة القومية" تواريخ قوميات أوروبية مختلفة المبتدأ متفقة النهاية، مؤكداً أن لكل قومية سيرة خاصة بها، وهو ما يبرّر تعثر مسار القومية العربية قياساً بغيرها. وأشاد بدور المفكرين في استنهاض قوميات شعوبهم، وفي البناء على تاريخ متنامي الحركة، يوقظ القوميات وينصرها، كما لو أن علاقة القومية بالتاريخ هي ترجمة حتمية لتحققها كقومية تنتهي إلى دولة موحدة مستقلة. واكتمل السرد بتأكيد القومية كظاهرة طبيعية كأنها بيولوجية، تولد وتنمو و"تتخمّر" وتقف قوية مستقيمة، ولا تتوقف بل تبقى مستمرة في التغير. وأعطى الحصري "الأفكار" صفة القانون التي استولد منها ظواهر قومية تختلف في المسار، لكنها جميعاً تصل إلى نهاية واحدة.
عالج الحصري الفكرة القومية بيقين حاسم لا مساءلة فيه، ووطّدها بـ "برهنة قطعية"، وأغدق عليها صفة قانون طبيعي طبّقته الشعوب وخرجت ظافرة. وربط بين الفكرة النظرية وتجسّدها العملي في "دولة وطنية"، وهو فعل سياسي، ونسب إلى القومية أبعاداً أخلاقية متكاملة: القومية توقظ في الشعوب كرامتها الذاتية وتستنهض وعيها بالحرية، وهي التي استنكرت ممارسات مستبدين اعتبروا ذاتهم، في عصر ما قبل القومية، نواباً للآلهة، لهم الحق في امتلاك ما يريدون من أراضٍ وسلطة وبشر، مهملين الرعية ككمّ فاعل ذي استعمالات غير مؤذية.
لا تقوى "نظريته في القومية" على مقاومة النقد، بل إنها تشي بأن نشوء القوميات محصلة لمكارم الأخلاق. وقد دفعت القرابة المفترضة بين القوميين والأخلاق الأستاذ الحصري إلى أسلوب مدرسي شرح به سيرورة تشكّل قوميات أوروبية متنوعة. وبدت نظريته أقرب إلى الثبات، أكان ذلك في محاضراته عن القومية في "دار المعلمين العالية" في بغداد في سنة 1923، أو تلك التي ألقاها في القاهرة في سنة 1948. وانتهت محاضرات الحقبة الأولى إلى كتاب نُشر في دمشق في سنة 1944 عنوانه: "القومية والوطنية".
جاء في محاضرات 1948: "نستطيع أن نقول لذلك: إن الأمم يتميز بعضها عن بعض - في الدرجة الأولى - بلغتها، وإن حياة الأمم تقوم - قبل كل شيء - على لغاتها..."، "وإن اللغة هي روح الأمة وحياتها، إنها بمثابة محور القومية وعمودها الفقري، وهي أهم مقوّماتها ومشخصاتها"، والأمة "إذا ما فقدت لغتها، تكون عندئذٍ قد فقدت الحياة ودخلت في عداد الأموات."[4] ويصاحب "اللغة والقومية" عنصر أساسي يمثّله التاريخ هو بمثابة شعور الأمة وذاكرتها، ففيه تشعر بذاتها، وتتعرّف إلى شخصيتها بواسطة تاريخها الخاص، و"نستطيع أن نقول: إن الذكريات التاريخية تقرّب النفوس، وتكوّن بينها نوعاً من القرابة المعنوية [....]. والأمة المحكومة التي تنسى تاريخها، تكون قد فقدت شعورها ووعيها، وهذا الشعور والوعي لا يعود إليها إلّا عندما تتذكر ذلك التاريخ وتعود إليه."[5]
بنى الحصري نظريته على عنصرين جاهزين لا يُبنيان ولا ضرورة لبنائهما، وينبثق منهما الوعي القومي الذي يُنتج ذاته بذاته: "إن اللغة والتاريخ هما العاملان الأصليان اللذان يؤثران أشد التأثير في تكوين القوميات"، ونستطيع أن نقول إن اللغة بمثابة روح الأمة، والتاريخ بمثابة وعيها. ودار خطاب الحصري طويلاً حول الروح والوعي والشعور من دون أن يقترب من الشروط المادية التي تُنتج هذه الظواهر. لكن: ما معنى روح الأمة إذا كانت الروح ماثلة في لغة تتوارثها الأجيال بلا تعليم، وهل تظل الأجيال القومية كما اللغة، بلا تحويل، أم أنها تُصنع مثلما يصنع البشر ثقافتهم ومعيشتهم؟ هذا إلّا إذا افترضنا أن القومية روح سرمدية، وأن اللغة تعيش الأزمنة بلا تبدّل ولا تغيير. وإذا كان تجانس الأزمنة يحتضن اللغة والقومية فلماذا تحدّث العرب عنالجنسية والعنصرية والعرقية قبل أن يصلوا إلى كلمة القومية؟ وإذا كانت اللغة روحاً توائم جميع الأزمنة، فلماذا ظهرت القومية العربية كغيرها من القوميات في الأزمنة الحديثة، أم إنها وُلدت "متقهقرة" عنها؟
عهد الحصري إلى ذاته القيام بدور المربي القومي، فوزّع القومية العربية على جميع الأزمنة، واطمأن إلى إمكانها المزدوج: فهي ذات وجود معنوي مجزوء يتأسس على اللغة، ولها وجود مشخّص يبزغ كاملاً في المستقبل. ولهذا يقول إن "نشوء الفكرة القومية في هذه البلاد تأخر كثيراً عن نشوئها في البلاد الأوروبية. ولا نغالي إذا قلنا إن هذه الفكرة لا تزال حديثة العهد في هذه البلاد."[6] وعلى الرغم من تأخر ميلاد الفكرة، كما حداثة منشئها، فإن لها كيفاً مغايراً، يغاير غيرها، "ولها اليد الطولى في المستقبل، ما يؤمّن لها فوزاً على غيرها، لا شك فيه." لكن كيف تتفوق، أو ستتفوق، القومية العربية على قوميات مغايرة أقدم ولادة وأعمق حداثة؟ وهنا تحضر الميتافيزيقا كبُعد في الإجابة، فإن لم تكن ميتافيزيقا خالصة، كانت وجهاً من وجوهها، وهي تتوسل "الذكريات التاريخية" تارة، و"استلهام الماضي" تارة أُخرى، والمصطلحان لا معنى لهما، كما أن التاريخ العربي في صيغة المفرد لا وجود له.
3 - عن اللغة والتاريخ
أخذ الحصري في "محاضراته" دور المؤرخ، فسرد تشكُّل قوميات أوروبية سبقت القومية العربية، غير أن اللغة لازمت التشكل القومي، فهي روح الأمة، وحياة الثانية نابعة من ديمومة الأولى.
اشتكى المصري عادل هيكل، في استهلال طويل لروايته: "مليم الأكبر"، من قصور اللغة العربية عن حاجات الكتابة الروائية، وعزا ذلك إلى فقر البيئة التي صدرت عنها "لغة الضاد"، وهي بيئة صحراوية محدودة الحاجات. كما اتهم الشيخُ محمد عبده "المشايخ التقليديين" بتجميد اللغة العربية وتشويهها، وحمل طه حسين في "في الأدب الجاهلي"، على القدماء ولغتهم الساكنة. ولم يكن الثلاثة مشغولين بالروح، وإنما كانوا يتعاملون مع ظواهر اجتماعية حيّة، ومع ذلك، طرحوا، ضمنياً، السؤال التالي: كيف تأتلف الروح القومية، وهي ظاهرة حديثة باعتراف الحصري، مع لغة طغى عليها السكون والمراوحة؟ إلّا إن المفكر القومي رأى اللغة كعلاقة مفردة مكتفية بذاتها، لا صراع فيها ولا اجتهادات متخاصمة، ولم يرَ أوضاعها في صيغة الجمع: لغة السلطة؛ لغة رجال الدين؛ اللغة العامية؛ لغات المديرين؛ لغة النثر الاجتماعي؛ ولم يكن في قدرته، وهو المؤرخ التربوي، أن يقارب علاقة اللغة بالأيديولوجيات الاجتماعية، وهو ما لا ترضى به تربية قومية صارمة تؤمن بجوهر ثابت تلازمه لغة عربية "جوهرانية"، تُجانس الناطقين بها، وتحجب المسافة بين حاضر الأمة وماضيها التليد.
أكد الحصري "ما يجب أن يكون"، جامعاً بين مَثَل أعلى قديم ورغبة راهنة، وأوكل إلى اللغة تجسير مسافة بين ماضٍ لن يعود، ورغبة وليدة ينطق بها عرب طال استعمارهم ويحتاجون إلى أكثر من توحيد. كان هؤلاء العرب بحاجة إلى "تأهيل قومي"، وإلى لغة تمايز الديني من القومي و"العروبة"، وهي انتماء عام يختلف عن الوعي القومي الذي يعي الأسباب التي قادت إليه والغايات المتوقعة منه.
إن واقع اللغة من واقع الحاجات التي تعيّنها، وهي وحدها لا تنطق بالقومية، بل ينطق بها أيضاً عرب يدركون أن الجماعة القومية "سياسية"، ويختلفون عن عرب مقيدين إلى الديني والقبلي والعشائري، وتلك التربية التي جاءت بها السيطرة العثمانية. وثمة فرق موضوعي بين الكلام بالعربية، وهو أمر موروث، وقابلية أن يكون المتكلم قومي الوعي والاختيار، وهو فعل ثقافي سياسي يُنتَج ولا يورَّث. ومحصلة القول: لا تستولد اللغةُ الجماعةَ القومية، وإنما الجماعة الموحَّدة اللغة والمتطلعة إلى أهداف سياسية هي التي تُنتج الجماعة القومية. وهكذا لا يصبح المعطى اللغوي فعلاً قومياً إلّا بطليعة سياسية تتطلع إلى تحقيق أهداف جماعية مشتركة، أكانت الطليعة برجوازية قائدة منتصرة، أم ثقافية قادرة على التحريض وبعث روح الأمة. وقد جسّد الفرنسيون الحالة الأولى، وحوّل الألمان الثقافة إلى فعل سياسي منتصر. ولعل الفرق بينهما هو ما قرّب الحصري إلى الخطاب الألماني وأقنعه بأن اللغة تعادل الثقافة وتقوم بدورها، وهو قياس رومانسي لا يُركَن إليه. كما أن دلالة التاريخ في خطاب الحصري تساوي دلالة اللغة، فمثلما اختُصرت الأخيرة في موروثها، وهو غير قابل للتعيين، اختُصر التاريخ في ذكريات تحملها جماعات مختلفة السياقات والذكريات من الحكايات والأماني الفانية. فالتاريخ العربي الموروث مجموع من المفاخر والبكائيات والقصص المسكونة بالأهواء، كما قال طه حسين، والتاريخ على أي حال، "لم يراكم إلّا قلة من الأشياء"، بلغة مستعارة من المؤرخ الإيطالي كارلو غيزنبرغ، بينما راكم التاريخ العربي كثرة من الأشياء تحتاج إلى الفصل والشرح والإبانة. والأرجح أن عقيدة الحصري التربوية تهاونت في الفصل بين الماضي والتاريخ، فتبادلا الأدوار وكَسَت الطرفين "فتنة" توائم المهزومين الحالمين بالانتصار، وكان المؤرخ القومي قسطنطين زريق نبّه إلى مخاطر "الانبهار بالماضي" في كتابه: "نحن والتاريخ".
تعامل الحصري مع التاريخ واللغة كعنصرين متحررين من "السياقات التاريخية"، فهما عربيان وموزّعان على العرب كلهم، ولم يتوقف أمام التفاعل والتضاد بين مختلف عناصر القومية "المتجاورة": الماضي المشترك الذي هو ماضٍ بصيغة الجمع، واللغة التي تولّد وحدة المصير والمآل والمستقبل المنشود، وغيرها ممّا يقول به التصور القومي المدرسي. فهذا المفكر القومي كان مشغولاً بوعي يناهض الاستعمار، وقد زامنه وحرّض على القتال ضده، واحتفى بوعي يعيد بناء "الأمة" بعد رحيل الاستعمار، وكان "مفكّر سياق"، ولم يكن "مفكّراً تاريخياً"، ولذا مرّ سريعاً على سؤالين: كيف يُفعَّل التاريخ؟ وكيف تنطق اللغةَ "القديمة" أمةٌ مهزومة تبحث عن أفق جديد؟
كان الحصري يستنهض ويبحث عن الإقناع، ويقيس حال العرب على أحوال أمم عرفت ما عاشوه وانتقلت إلى "السيادة والسلامة". ففي كتابه: "آراء وأحاديث في الوطنية والقومية" الذي نُشر في سنة 1944 في دمشق، وأعاد نشره "مركز دراسات الوحدة العربية" في بيروت، في سنة 1985، نقرأ: "إن الشعور القومي عند الأمم المحكومة يأخذ في الخمول والتضاؤل، كلما أسدل النسيان سدوله على التاريخ القومي"، ويسارع فيعثر على الحل: "أمّا عودة الشعور القومي إلى مثل هذه الأمم المحكومة فلا تتم إلّا باستعادة الذكريات التاريخية."[7] والحال عامر ببراءة مشبعة بالتفاؤل، ذلك بأن التذكّر عملية معقدة لا تفضي، لزوماً، إلى النجاح. ويعود المفكر ليُكمل الطمأنينة فيقول: "إن أمر الاهتمام بالتاريخ والالتفات إلى الماضي، ليس من الخطط الخاصة بالأمم التي كانت في حالة تأخر وسبات، بل هي من الأمور التي تشمل جميع الأمم بدون استثناء."[8] لقد أراد الحصري أن يوقظ ما يقبل اليقظة، وعهد إلى المستقبل بتأمين الهدف المنشود لشعوب عربية بينها أكثر من اختلاف.
وكان طه حسين، الأديب السياسي والسياسي الأديب، عاش سؤاله الإشكالي العنيد: كيف تكون مفكراً ليبرالياً في مجتمع مستعمَر، مَلِكُه منقوص الوطنية، ورجال دينه الرسميون يواجهون المفرد المفكّر بـ "جماعة مؤمنة" ترى في الخروج عليها كفراً صريحاً؟ واعتمد حسين على خصوصية المجتمع المصري، وعلى حضوره الفكري المتفائل، وقطع من الطريق الذي اختاره شوطاً تعثّر بعده ولم يُكمل المسير.
أمّا الحصري الذي ولد في صنعاء اليمن وقدم إلى حلب في سورية، ودُفن في بغداد، فعاش سؤالاً آخر، عاشه حراً وفكّر فيه مقيداً، وأغدق عليه تفاؤلُه انتصاراً مؤجل الإعلان. فهو لم يسأل: كيف تكون مفكراً قومياً في أمة أكثريتها أمّية، تناوب عليها أكثر من استعمار، ولم تميّز، إلّا بمشقة، بين إسلام العثمانيين وتسلّط عثماني متحرر من أشكال الأديان جميعاً؟ وواجهت حداثة السؤال مجتمعاً عربياً لا حداثة فيه، واعتقد صاحب السؤال أن اللغة والتاريخ، من حيث هما، يعوّضان عن الديمقراطية والعقلانية والعلمانية التي تشكّل، نظرياً، وجوه الفكرة القومية. نسي أن القومية تنبع من تكامل العلمانية والديمقراطية اللذين يتحددان معيشياً، وأوغل في الحديث عن الوعي والروح والشعور والذاكرة، وكل ما يعوزه التحديد متقهقراً، على الرغم معارفه التاريخية الواسعة، عن خطاب عمر فاخوري في كتابه "كيف ينهض العرب؟"، الذي وضعه قبل أن يبلغ العشرين، وأخذ فيه بمفاهيم الأيديولوجيا و"الذات الثائرة" و"الثورة الفكرية"، واعتبر القومية نهضة، والنهضة القومية ثورة، والثورة وعياً سياسياً نقدياً.
لا يفسَّر خطاب الحصري "الروحي" بنقص في المعرفة، ولا بمثالية متعالية ترمي بالمشخّص جانباً، وإنما يُقرأ بـ "إيمانية عروبية"، أو بـ "عروبة مؤمنة" اعتنقها مفكر اعتقد أن الفكر من القومية، وأن قومية الفكر متكأ رسالة إنسانية جديدة. لقد شاء الحصري أن يكون مفكراً قومياً يحاكي غيره من أصحاب الرسالات، وأكّد في كتاباته دور المفكرين والأدباء والفلاسفة في نهوض قوميات متنوعة، حتى بدا دور المفكرين في الانبعاث القومي ملازماً للعناصر الأُخرى: اللغة والتاريخ والذكريات الملهمة... وهو هنا يستعيد بشكل آخر، وبكثير من التكرار واللاتحديد، مقولة طه حسين عن "قادة الفكر".
استهل الحصري كتابه: "العروبة بين دعاتها وخصومها" الذي نُشر للمرة الأولى في سنة 1951، بما يعبّر عن دوره "القومي الذاتي"، فيقول: "وأنا أقول بلا تردد: إنه ما من إصلاح تمّ، وتقدُّم حصل، وما من نهضة قامت، ورسالة انتشرت.. إلّا وقد بدأت على شكل 'مشروع' تخيلته بعض الأذهان، أو 'أمل' جاش في بعض الصدور، أو مَثَل أعلى صَبَت إلى تحقيقه بعض النفوس."[9] والمفكر هنا يربط بين كل تقدم محتمل و"بعض النفوس"، وينعت "نفوسه المختارة" بالحالمة، معتبراً حلمها واقعي القوام، ذلك بأن الحالمين، مثلما قال: "أكثر فهماً لحقائق الأمور من معارضيهم الواقعيين"،[10] وينصّب ذاته الواسعة ناطقاً باسم العرب جميعاً، الذين يعتبرهم جوهراً متميزاً في الأزمنة كافة.
4 - المفكّر حارس الفكرة القومية
انتمى الحصري إلى مفكرين إنسانيين - حالمين - على صورة الألماني عمانوئيل كانط الذي حلم بسلام بين الأمم، وأخذ المفكر تصوّر الريادة من أحلامه، ومن واقع عربي مهزوم يجب نهوضه، بعد أن سقط عليه أكثر من استعمار، واجتاحته جماعات صهيونية اجتاحت معه فلسطين و"أمجاد البلاغة العربية".
يتراءى المفكّر، في تصوّر الحصري، إنساناً - مرتبة، مرتبته من فكر يعرف ما لا يعرفه غيره، عربياً - طليعة، عروبته من أحلامه، وطليعته من المستقبل الذي ينتظره. وقد عثر على مرآته في ملامح "فيخته" الذي انتصر الحصري لأفكاره، واعتقد أن أفكاره الألمانية تنصر رسالته العربية: فهذا الألماني "من العوامل التي ساعدت على نهضة بروسيا بعد كبوتها"، وخطبه التي وجّهها "إلى الأمة الألمانية قد أثّرت في النفوس تأثيراً عميقاً جداً، وظلت توجّه الشبيبة الألمانية عدة عقود من السنين." كان "يخاطب جميع الألمان [....] ويقصد من كلمتَي الألمان والأمة الألمانية جميع المتكلمين باللغة الألمانية"، ويعتقد "بأن على الأمة الألمانية 'رسالة إنسانية سامية' "، ويستنجد بالأجداد، ويمزج "فكرة القومية الألمانية مع نزعة الإنسانية السامية"، ويقول "إن خطب فيخته لا تزال تُعتبر من أناجيل القومية الألمانية."[11]
لم يكن الحصري يتطلع إلى أكثر من ذلك، فهو كالألماني ينتبه إلى جميع المتكلمين باللغة القومية، ويمزج القومية المنشودة بأهداف سامية، ويتوجّه إلى الأجداد ويستنهض الأمة، ويزاوج بين الشباب والمستقبل ويستولد من اندماجهما نهضة تُقيل العرب من عثرتهم. وقد أُعجب ببسمارك، الشخصية الحازمة التي "أوجدت" الأمة الألمانية، وأسعدته "الثورة العربية الكبرى" سعادة تقودها الأوهام.
ساهم الفكر القومي الألماني في صوغ أفكار الحصري، واقتنع بـ "أن الأمة كائن اجتماعي حيّ يتكوّن بعمل اللغة والتاريخ، وينشأ نشأة طبيعية، بدوافع ذاتية"،[12] وأن "القومية العربية الناقصة النمو، سائرة إلى نموها السليم....". لم يكن الحصري بحاجة إلى التصور الطبيعي للقومية، أو لنقل البيولوجي، فالقومية العربية "ناشئة" متكاملة تعيش مرحلة النمو وما يصل بين الولادة والتطور، ولا تعاني نقصاً أو قصوراً، وإنما تشكو من السبات لا غير، أو الغفوة الطويلة، أو الغفلة، ولا تحتاج إلّا إلى اليقظة؛ فإن زال عنها "النعاس" بدت صاحية متوثبة. وما صحوتها إلّا "الوحدة" و"التحرر من الاستعمار"، و"دحر مزاعم أعداء العروبة"، ولديها "نواة لا تصدأ" وقشرة مُعْتَلّة يسهل التخلص منها. وما تأكيده على استمرارية الظاهرة القومية إلّا تأكيد أهدافها التاريخية "الواجبة التحقق": طرد الاستعمار والذهاب بعده إلى الوحدة العربية.
وكانت غاية الحصري في نقده الشديد لأفكار الفرنسي "إرنست رينان"، هي تبيان انحيازه إلى الفيلسوف الألماني "فيخته"، وإرضاء خياره النظري القومي في آنٍ واحد. فقد كان الفرنسي فخوراً بخطبته "ما هي القومية" التي ألقاها في قاعة السوربون في سنة 1882، وحَظيت بشهرة واسعة، وخلص فيها إلى نتيجة تقول إن الأمة "إنما هي جماعة من الناس اتفقت مشيئتهم على أن يعيشوا سوية."[13] وحمل المفكر القومي العربي على ما خلص إليه المؤرخ الفرنسي، ورأى فيه كلمات جوفاء "لا تتضمن أي حكم إيجابي يجوز الوقوف عنده، والارتكان إليه"،[14] إذ ما من وسيلة لتحديد المشيئة، فقد تهزم القوة المشيئة الصالحة، بقدر ما تنهزم القوة أمام مشيئة فاسدة. واعتبر الحصري "أن 'المشيئة' لم تكن من عوامل القومية، بل إنها - بعكس ذلك – من نتائج القومية"،[15] واتفق، بداهة، مع رأي "فيخته" القائل: "إن النظرية الألمانية في قضية 'ماهية الأمة وعناصر القومية' أصح وأحكم من النظرية الفرنسية".[16]
انحاز الحصري إلى موقفه من اللغة العربية، محيلاً على الأجداد ولغة القرآن الكريم، وأكّد أولوية القومية على المشيئة، وأولوية "البديهي" على ما يجب تعريفه، بل أولوية ما لا تاريخ له على ما هو تاريخي ويُنتجه التاريخ. فالذي يولد في بلاد العرب عربياً، يولد مزوّداً بلغتهم وقوميتهم!!!
5 - اليقين بُعد ديني في وعي قومي
أنشأ الأستاذ الحصري نظريته القومية مرتكناً إلى اللغة والتاريخ، مطمئناً إليهما ومقتنعاً بكمالهما. وكان الطهطاوي العظيم، مثلما نعته لويس عوض في كتابه عن "الفكر المصري الحديث"، قد اشتكى، بعد زيارته لباريز، من يباس اللغة العربية وعجزها عن احتضان "الظواهر الاجتماعية" الجديدة، كما تذمّر الشيخ محمد عبده بعده من "رجال دين" يقدسون اللغة العربية بوعي فقير، وقد انطوى موقفهما على "فتوى" تجيز التطور والتجديد. ودافع الحصري عمّا اقتنع به ولم يسأل: ألا يفضي تخلّف العقول إلى تخلّف اللغة التي تنطق بها؟ أو: ألا يعتنق الوعي المتخلف قومية متخلفة التصورات؟! وأضاف المفكّر القومي إلى نظريته بُعداً "نظرياً" ثالثاً عنوانه: اليقين الذي أعاد به تأويل تكامل اللغة والتاريخ، وسكب العلاقات الثلاث في أسلوب "وثوقي"، وبلغة يمكن أن تُدعى - مجازاً - لغة من حطب.
نقرأ في كتابه: "آراء وأحاديث في الوطنية والقومية" المشار إليه سابقاً، ما يلي: "فيجب علينا أن نعلم علم اليقين، أن تكييف دروس التاريخ بمقتضيات القومية والوطنية، من الخطط التي تعمل بها جميع الأمم من غير استثناء، ومن الخطط التي تتحتم على جميع الأمم الناهضة بوجه خاص."[17] وما يقوله عن استعمال "الدولة الوطنية للتاريخ"، متفق عليه، ويُفْرَد له حيّز في "الأجهزة التربوية"، كما تقوم الروايات الوطنية بالعودة إلى "المجد القديم" و"ترهينه" إلى حدود الاختراع.
وما قال به الحصري لا يمنعنا من الوقوف أمام كلمة "تكييف" التي تجعل الموضوع قابلاً للتغيير، وتعتبر "تكييف التاريخ" فعلاً إلزامياً "يُحَتِّمه" بلوغ النهضة المنشودة. ومع أن البلاغة التحريضية ظاهرة مألوفة لدى "السلطات القومية" جميعاً، فما "يحتّمه" الحصري يعاني نقصاً بليغاً عنوانه: الإحالة إلى مرجع غائب ساخر التحدي: ما "صدقية السلطات السياسية التي تسوّغ توظيف التاريخ؟" وهي إن تكن "صادقة"، وهو احتمال رقيق، حوّلت "علم التاريخ" إلى أيديولوجيا سلطوية تخترع التاريخ الموروث و"تأوِّله"، وتستكمل به، بداهة، توظيف النص الديني، فيفقد استقلاله الذاتي "المفترض"، ويصير "أيديولوجيا سلطوية" تسوّغ ممارسات "السلطة" وتسبغ عليها شرعية مفقودة.
أكمل المفكر القومي خطابه قائلاً: "إن عملية الانتخاب والتبريز، إذا كانت من الأمور المهمة في جميع فروع التعليم، فهي في منتهى الأهمية في تعليم التاريخ."[18] لكن إذا كان التاريخ موضوعاً للتكييف والانتخاب والتبريز، فأين تكمن موضوعيته، وما مدى موضوعية الفكر الذي يتعامل معه؟ يصرف الحصري هذه الأسئلة مطالباً بيقين "يختلق" ماضي الفكرة القومية العربية وحاضرها ومستقبلها، الأمر الذي يتيح له الأمل الذي يريد، والتفاؤل الذي يشاء، ويأتي بـ "القومية" من مشيئة المدافع عنها.
ويسوّغ الحصري خطابه بموقف يصالح بين "يجب" والبحث العلمي "القومي الاتجاه": "يجب أن لا ننسى من جهة أُخرى أن أمر تأليف وتدريس التاريخ - في العالم العربي - ظل بعيداً عن مقتضيات البحث العلمي والتربية الوطنية في وقت واحد"،[19] فما افتقده البحث العلمي يعوّضه "يقين" له "مقتضيات البحث العلمي"، يساوي بين "المقدمات العلمية" و"النيات الصادقة"، ويستبعد كل احتمال "مشبوه". ويقول المفكر القومي في كتابه: "آراء وأحاديث في العلم والأخلاق والثقافة": "ولما كانت لغة هذه البلاد عربية، فإن ثقافتها ستكون عربية، وستشترك هذه البلاد في أمور الثقافة مع سائر البلاد العربية، لا مع أقطار البحر المتوسط."[20] ويقضي اليقين القومي بالتنبؤ، فيلمس ما يصير، كما أن صيغة القول الشرطية تنقل الحاضر إلى المستقبل، أو يتبادلان المواقع، اتكاء على رغبة ذاتية تعتبر ما تدعو إليه علماً موضوعياً يحذف الفرق بين اللغة والثقافة، وهو تصوّر معطوب مصادَر بفراغات كثيرة. فاللغة وسيلة إيصال متعددة المستويات: مستوى الأصوات المفردة، مستوى الكلمات، مستوى الجمل، ومستوى المعاني والدلالات، وفقاً لما أورده اللغوي الفرنسي جان جاك لوسركل في كتابه "عنف اللغة". فاليقين الذي يُسمّي الظواهر قبل أن يتعرّف إليها، يتحرر من أثقال "علم اللغة"، ويكتفي بالتبسيط المتفائل: "إن اللغة بمثابة التراب الذي يحتضن البذور والجذور ويغذي الأزهار والأشجار."[21] وهنا يستأنس اليقين بـ "علم الأحياء"، إذ القومية ظاهرة طبيعية لا تختلف أحوالها عن "الأزهار والأشجار".
ولن يكون للثقافة حال مختلف، فهي عربية التراب وعروبية الأسئلة والإجابات، ومقطوعة الصلة مع اجتهاد الإنجليزي ريموند ويليامز الذي يقول: "الثقافة طريقة شاملة في الحياة"، ويعتذر عن "نقص الإجابة" في كتابه "سياسة وآداب"، كما أن الثقافة بعيدة لزوماً، عمّا اقترحه ت. س. إليوت: "ثقافة الطبقات من ثقافة المجتمع الذي تنتمي إليه"، ولا تعترف بتصوّر طه حسين الذي ربط بين الثقافة والمدرسة الوطنية الديمقراطية. وعلى الرغم من تعريف هنا وتعريف هناك، فإن الثقافة تشير إلى الكيفية التي يُنتج بها مجتمع حاجاته المتنوعة، ذلك بأن في الوسائل ما يترجم الغايات، وفي الوسائل والغايات ما يُفصح عن تطور محدد.
لقد ألغى اندفاعُ السيد الحصري إلى "انتصار" قوميته الفرقَ بين الالتزام الفكري و"الهوى القومي" الذي يرى المرغوب فيه ويحجب السلب المصاحب له. صادر الهوى الوعيَ الموضوعي بالثقافة واللغة، وهو ما بدا واضحاً في احتفائه بميلاد جامعة الدول العربية في 22 آذار / مارس 1945، وذلك قبل ثلاثة أعوام من انتصار المشروع الصهيوني في فلسطين. فأن يحتفل مفكر قومي بإشارات تقرّب بين العرب فذاك أمر متوقع و"ميمون"، وأن يوغل في الاحتفاء والتبريك ففعل لا ضير فيه، غير أن ما يلفت الانتباه هو نسيانه، في غمرة الهوى القومي، موقف الجامعة المريض من "عرب فلسطين"، ومرورها على قضيتهم بعمومية فاترة فرضها، ربما، واقع دول الجامعة الخاضعة للإرادة الاستعمارية وهي لم "تستقل" بعد، أو حظيت باستقلال شكلي لا أقدام له.
وفي حديثه عن اللغة والثقافة انتقد الحصري، ضمنياً، موقف طه حسين من القومية العربية، ومن "الثقافة المتوسطية" التي أفرد لها الأول أكثر من حديث، ودافع عنها الثاني في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر". فقد نشر الحصري في مجلة "الرسالة" المصرية، في سنة 1938، خطاباً مفتوحاً وجّهه إلى حسين بعنوان "بين مصر والعروبة"، جاء فيه: "إني أعتقد أن توحيد الثقافة من أهم العوامل التي تهيىء سائر أنواع التوحيد. وأقول بلا تردد: اضمنوا لي وحدة الثقافة وأنا أضمن لكم كل ما بقي من ضروب الوحدة". لم يخطىء صاحب القول الصواب، لكنه لم يعطِ الثقافة تعريفاً صائباً، وما خلافه مع طه حسين إلّا أثر لاختلاف موقفَيهما من الثقافة: فقد عالجها حسين كمعطى تاريخي - اجتماعي، وكساها الحصري بهوى قومي عربي وثوقي المنظور، فكل مَن استنشق هواء عربياً هو عربي، كما لو أن الهواء مدرسة وتربية. ولعل الفرق بين نظر انفعالي يضع الإحساس فوق الفكر، وعقل يوحّد بينهما، هو ما جعل حسين، المتهم بـ "الإقليمية والمتوسطية"، يرى مسألة فلسطين مثلما يجب أن تُرى في "بروتوكول الإسكندرية" الخاص بتأسيس الجامعة العربية الصادر في 7 تشرين الأول / أكتوبر 1944، فهو ينتقده ويطالب الجامعة بخطوات محددة، ويعلن أنها لم تقم بما يتوجب عليها تجاه فلسطين. وعلّق في مقالة له (نُشرت في صحيفة "البلاغ"، العدد 5 نيسان / أبريل 1945): "نحن نعتقد أن الجامعة لم تعالج أمر فلسطين بما يستحق من العزم والحزم والصرامة، وبما يلائم ما تضطرب به النفوس العربية في جميع الأقطار"، بل إنه يعلق وجود الجامعة العربية ذاته ومصيرها على ما تبذله في سبيل فلسطين، ويرى "أن الجامعة أمامها طريق للجد تتجنب به الهزل، وأن عليها أن تجد حل مسألة فلسطين حلاً يقوم على الإنصاف لا على التأجيل ولا على المراوغة." ولا يزال موقف طه حسين صحيحاً، بعد أن أقلعت دول الجامعة عن "الهزل" وآثرت النسيان.
لا أحد يفاضل بين موقفَي مفكرين عربيين من مسألة فلسطين، فكلاهما مع حقوق أهلها، ومع قول حسين: "فلسطين عربية والصهيونية صناعة غربية"، بيد أن القارىء يميّز بين لغة القول السياسي الواضح، ولغة "الهوى القومي" المؤمن بأن فلسطين منتصرة بعروبتها، وبأن عروبتها منتصرة بلغتها وتاريخها، وبأن تاريخها آية على أجداد عظام انتصروا قبل قرون.
المصادر:
[1] أبو خلدون ساطع الحصري، "محاضرات في نشوء الفكرة القومية" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1985)، ص 157.
[2] المصدر نفسه، ص 171.
[3] المصدر نفسه.
[4] أبو خلدون ساطع الحصري، "آراء وأحاديث في الوطنية والقومية" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط 2، 1985)، ص 21 – 23.
[5] المصدر نفسه، ص 22.
[6] الحصري، "محاضرات في نشوء الفكرة القومية"، مصدر سبق ذكره، ص 23.
[7] الحصري، "آراء وأحاديث في الوطنية والقومية"، مصدر سبق ذكره، ص 69.
[8] المصدر نفسه.
[9] أبو خلدون ساطع الحصري، "العروبة بين دعاتها ومعارضيها" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1985)، ص 9.
[10] المصدر نفسه، ص 10.
[11] الحصري، "محاضرات في نشوء الفكرة القومية"، مصدر سبق ذكره، ص 32 – 34.
[12] المصدر نفسه، ص 45.
[13] المصدر نفسه، ص 47.
[14] المصدر نفسه، ص 48.
[15] المصدر نفسه، ص 50.
[16] المصدر نفسه.
[17] الحصري، "آراء وأحاديث في الوطنية والقومية"، مصدر سبق ذكره، ص 96.
[18] المصدر نفسه، ص 97.
[19] المصدر نفسه، ص 98.
[20] أبو خلدون ساطع الحصري، "آراء وأحاديث في العلم والأخلاق والثقافة" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1985)، ص 51.
[21] المصدر نفسه، ص 50.