في زمن الإبادة، صارت فلسطين أوسع من مجازها، وللتعبير عن هذه الصيرورة المستحيلة، صار في وسع شهيد أن يكتب افتتاحية مجلة يتناوب على كتابة افتتاحياتها، من ميادين المقاومة والصمود والفداء، الأسرى واللاجئون والشهداء، وفي قلوبهم، التي بحجم فلسطين والشتات، جغرافيات السجن والمخيم والمقبرة التي لاشى العدو حدودها بآلته العسكرية العمياء ليعيد إلى فلسطين وحدتها من حيث لا يدري ولا يرى: وحدة الدم والتراب. ومَن أحقُّ من هؤلاء السادة بكتابة حقيقة فلسطين السيّدة التي لا تزول ولا تدول "ما دمنا ننبض، والأفضلون يحملون السلاح؟" لقد كتب افتتاحية "مجلة الدراسات الفلسطينية"، في أعدادها الأربعة الأخيرة، القادة الأسرى مروان البرغوثي وأحمد سعدات وإبراهيم مرعي، واللاجىء حيدر عيد، أمّا هذا العدد، فيكتب افتتاحيته الشهيد رفعت العرعير.
لم تعد رام الله والرملة وغزة، ومعها ما امتد فينا من بلادنا فلسطين من البحر إلى النهر وقد صارت كلها قدس، ديار هؤلاء السادة وعائلاتهم الصامدة والصابرة والثاكلة في سجن فلسطين الكبير، وإنما صارت فلسطين موئل قلوب أهل الأرض الذين ملأوا الشوارع والميادين للتعبير عن حب فلسطين وشراكة الإنسان في كفاح أخيه الإنسان عبء الحرية والتحرر والتحرير. إنه عبء فلسطين السيّدة التي لا بد من تحريرها لتحريرنا من عبودية حبّها. وعلى شهوة من بلاغة الصوفية الثورية التي نبذتها هذه اللحظة العربية المريضة التي لا نبرِّىء منها "إلّا الذي يحمل البندقية قلباً ويطوي عليها شغافه"، تفتح "مجلة الدراسات الفلسطينية" صفحاتها للمقولة المعبّرة عن فلسطين الميدان الذي تتناسل خيوله في ثورة المستحيل على مستحيل الثورة معلنة أننا لن نموت، ولن تموت القضية.
ومن غزة، التي تشهد أفظع عملية محو في تاريخ فلسطين، عثرنا على قرينة البقاء، مقالة للشهيد رفعت العرعير الذي غيّبه وحش الحديد الطائر في 6 كانون الأول / ديسمبر 2023. كان العرعير قد نجا، قبل ذلك، من المجازر التي قضى فيها العشرات من عائلته خلال حروب إسبارطة على غزة، مع أنه أصيب أكثر من مرة. وبحسب شهادات جمعها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، فإن العرعير اغتيل بصاروخ دقيق استهدف ملجأه الأخير في شقة تعود إلى شقيقته، وتقع في الطابق الثاني من مبنى مكوّن من ثلاثة طوابق في حي الدرج في مدينة غزة. استشهد العرعير برفقة شقيقه صلاح وابنه محمد، وشقيقته أسماء وأولادها الثلاثة علاء ويحيى ومحمد، وأصيب في الاستهداف آخرون. رفض العرعير مغادرة شمال غزة حيث مسقط رأسه في سنة 1979، في حي الشجاعية، لكنه نزح عدة مرات بعد بدء الإبادة، وانتقل مع زوجته وأطفاله إلى إحدى مدارس الأونروا في حي التفاح. وهناك، تلقّى من ضابط صهيوني تهديداً هاتفياً بالقتل بلّغه فيه أنهم يعرفون المدرسة التي يوجد فيها بالضبط، وأنهم سينالون منه. لم يتمكن العرعير من الرد على التهديد، لكنه قال في حوارية مسجلة على صوت القصف المرعب، إنه لا يملك سوى أقلامه التي سيقاتل بها جنود العدو إن داهموه.
قضى رفعت العرعير في عملية الاغتيال، ونجت زوجته وأطفاله الذين كانوا موجودين في مكان آخر، نجوا حتى إشعار آخر. لا نعرف كم نجا من الكتب التي كان ينبش الأنقاض بأظافره ليعيدها إلى الحياة خلال حروب إسبارطة السابقة على غزة، ولا نعرف كم من القصص نجا بعد أن رواها ومضى إلى سماء فكرته المعلقة بين الوجود والخلود. لكن ما نعرفه جيداً أنه حرر في سنة 2014، كتاب "غزة تردّ بالكتابة: قصص قصيرة من كتّاب شباب في غزة، فلسطين"، وكتب في السنة نفسها مقالة آسرة، بعنوان: "غزة تردّ بالكتابة: رواية فلسطين"، يروي فيها قصة تحرير الكتاب. وقد نُشرت المقالة في مجلة "بيوغرافي" (Biography)، وختمها بقصيدته "إذا كان لا بدّ أن أموت"، التي ذاع صيتها بعد استشهاده ونشرنا ترجمتها في ملف الشعر "سلام لغزة" في العدد 137 من "مجلة الدراسات الفلسطينية". ويتضح من المقالة أن المخاطب في القصيدة هو ابنته شيماء، وكل شيماء أُخرى تظهر في أطياف 14,000 طفل وطفلة استشهدوا حتى اللحظة في حرب الإبادة المعلنة والمنقولة بالبث الحي والمباشر منذ أكثر من ستة أشهر. ويبدو أن القصيدة التي نُشرت في تلك المقالة قد كُتبت في سنة 2011، ونُشرت في صفحته قبل استشهاده ببضعة أيام في سنة 2023. صحيح أن العرعير جعل الكتاب والمقالة بالإنجليزية لتحقيق مقروئية مختلفة، غير أن ترجمة مقالته (التي اخترناها افتتاحية لهذا العدد) تأتي لتوضيح مفتاح الخريطة لكيفية رواية قصصنا الفردية وقصتنا الجماعية في فلسطين ومن فلسطين وعن فلسطين.
يعلمنا الدرس الفلسفي عن "الحقيقة وقصتها بين عالمين"، أنه بعد انسحاب الآلهة إلى السماء لم يتبقّ منها إلّا ما يتبقّى من كل حضور غائب لجسد الحقيقة، وهو قصة الحقيقة. وفي هذه الحالة، لا يمكن للغائب مخاطبتنا ولا يمكننا مخاطبته، لا بالكلام، ولا باللمس، ولا بالرؤية... بل بالكاد يمكننا تقديم قربان بالرواية، رواية قصة الحقيقة الغائبة، أو للدقة لجسد الحقيقة الغائب شهيداً. ومن هذا الدرس اللاهث نتلمّس وصية تحرّضنا على ألّا نترك الأجساد وحدها، لا أجساد الشهداء ولا أجساد الحقيقة ولا أجساد القصص. وفي روايتنا لقصة رفعت العرعير، والقصص التي تتناتج في قصته، ليس لدينا ترف الجدل الفلسفي، فالشهيد واضح، والحقيقة واضحة، والغياب واضح... وليس علينا إلّا أن نسجّل شهادتنا إقراراً بهذا الوضوح كله، إلى أن "نلقى الحقيقة والأوجه الغائبة."
أمّا الدرس التاريخي فيعلمنا عن "الممكن في كتابة المستحيل"، وأنه يتجسد في تجاوز عنف الأرشيف، أكان مؤسِّساً أم حافظاً لكتابة تاريخ الضحايا من دون ارتكاب عنف إضافي عبر ادعاء تمثيلهم. ولهذه الثورية الكتابية اسم هو "القصّ النقدي" الذي يطمح إلى تجاوز التأريخ المعتمد جزئياً على مواد أرشيفية، نظراً إلى الاستحالة التكوينية في الأرشيف نفسه، وفي قواعد الكتابة التاريخية القارّة نحو رواية تاريخية أخلاقية تنتصف لمَن اضطُهِدوا في الأمس، بعدم اضطهاد حكايتهم في اليوم الحاضر، وفي الغد. فالمستعمِر الفاشي يُخرج ضحاياه من هذا العالم، عبر أداء أول بالإماتة، غير أن مهمتنا أن نعيدهم إليه، عبر أداء ثانٍ بالإحياء، إذ نروي قصص الضحايا وقد كتبوا شهادتهم قبل استشهادهم في هيئة وصية. ولعل في هذا ما يبشّر ليس فقط بإمكان تحقيق مستحيل الحرية بممكن الكتابة عنها، بل بعدم حاجتنا، بعد غزة، إلى "إذن بالرواية" ما دام كل منا قد "كتب حكايته" لا لـ "يرث أرض الكلام" التي دمّرها الغزاة، وإنما ليملك "المعنى تماماً"... وهذا ما لن يستطيعوا تدميره، وهم العابرون.
بعد اندلاع انتفاضة الحجارة في سنة 1987، كانت "فلسطين على مرمى حجر"، أو هكذا قال ياسر عرفات عن فلسطين الدولة لا فلسطين الوطن. أمّا رفعت العرعير، ولم يبلغ شأو أبو عمار في مناغاة التفاؤل الجريح، فاكتفى بالقول إن "فلسطين على مرمى شهيد، ودمعة، وصاروخ، ونشيج... وقصة." لقد استبطن العرعير إنجليزية شكسبير - الذي كان قد استبطنه محمود درويش في طباقه العربي مع إدوارد سعيد - حين كان يروي القصص لابنته شيماء، ولم يوصِها بتعزية جبال الجليل ولا بالمستحيل. كان أكثر صوفية من شاعر، وأنبل تعلّقاً بأرض الحكاية من روائي، وأخفَّ عليها من طيف شهيد يقول لابنته قبل أن يقضي ويمضي: "إذا كان لا بدّ أن أموت، فلا بد أن تعيشي، لتروي..." قصة الفلسطيني الذي لم تحالفه الريح بين حي الشجاعية وحي الدرج، ولم تحالف غزة إلّا لماماً.
القنّاص السماوي
له قوسٌ من الآسِ، وكنانة مليئة بالأفاعي
اللواتي ابتلعن عصيَّ أنبيائه، وأخبار أعدائهم.
عنده سلّة أرواح أكثر اتساعاً من الأرض، وأضيق من قبضته
التي لا تعرف الارتخاء. ولديه متّسع من الوقت لاختيار الطرائد، في حقول الرعاة،
وحرّاسها، إذ لا بشارة، في الصيد، إلّا الهدف. والفتى، الذي ظنّ أن الغيوم صالحة للتخفّي
عن الغيب، كان حاضر الذهنِ، عينه بئر ضوءٍ، خطوه ثابتٌ، لا يكرّ، ولا يفرّ،
ولا يبارز خصومه الغائبين... لكنه لم يكن من سلالة الخالدين،
فلا كعبه ابتلّ في النهر، ولا قلبه، لينجو...
من لدغة السهم، واللوم.