Overcoming the Blockade in the West Bank: Creativity in Everyday Life
Date: 
March 28 2024
blog Series: 

مدخل

هذا ليس أول حصار يختبره الناس، لكنه الأطول والأشد. ففي الحصار، تقسو الحياة على الناس، لكنها تمنح المحاصَرين فضائل عديدة؛ أولها قدرة استثنائية على إبداع أشياء وأفكار جديدة، أو إعادة النظر في الممارسات المعتادة بطريقة غير اعتيادية. وهكذا هو الحال، إذ يولَد الإبداع من الألم والمعاناة، فعندما يُدفع المجتمع إلى هوة الحصار، يتأزم وجوده، فيغدو الإبداع سر النجاة وأداتها في آن واحد، ويمنحنا شحنة إضافية من الطاقة تسعفنا في ابتكار أشياء صغيرة تعزز الصمود، وهذه الأشياء غالباً لا نلتفت إليها في الأيام العادية. فعلى سبيل المثال؛ من كان يلتفت إلى الخبيزة والهندباء الهائجة على جوانب الطرق وفي الحقول؟ لقد صارت الآن في الحصار وجبة مفضلة يتحدث الناس عن مزاياها الصحية وقيمتها الغذائية العالية. ومن كان يلتفت إلى أكوام الخردة التي يلقيها الناس في أيام الوفرة، فتزدحم بها جوانب الطرقات؟ اليوم، أصبحت ثروة تتزاحم حولها أقدام السعاة، إذ إن كثيراً من العاطلين عن العمل يجوبون الآن القرى والبلدات الفلسطينية بسيارات نقل مزودة بمكبرات صوت ينادون فيها لشراء الخردة المعدنية، وقد لجأ إلى هذا المسعى من الرزق القسم الأكبر من العمال الذين كانوا يعملون في إسرائيل قبيل الحرب. وهكذا، صار من المألوف جداً أن توجد أمام كثير من البيوت منشآت صغيرة لتدوير المعادن وإعادة بيعها لتجار كبار. 

الحصار سياق لتغيير الممارسات

تتغير ممارسات الناس في الحصار، وهذا شيء جيد، لكنه تغيير تحت ضغط العوز وشح الموارد، وهذا هو الأسوأ. وعلى هذا الأساس، فقد صار من الطبيعي أن يحمل الشاب علبة سجائر لف في جيبه، وكلما اقتضت الحاجة، يلف سيجارة ويدخنها، وكان هذا السلوك مثيراً للخجل والاستحياء قبل الحصار، إذ كان الشباب يتبارون في إظهار علب السجائر الفاخرة كنوع من الهيبة الاجتماعية. كما صار من المألوف أيضاً لدى كل الفئات الاجتماعية تقريباً اقتناء الملابس والأدوات القديمة من محلات البضائع المستخدمة (البالية) على الرغم من أن زبائن هذه المحلات قبل الحرب اقتصروا على الفئات الأكثر فقراً. وبسبب إغلاق إسرائيل الطريق أمام حركة البضائع، لم يعد في هذه المحلات ما يُشترى، لكن الحصار دفع بعض العائلات الفلسطينية إلى بيع أدوات وملابس ومعدات منزلية لم تعد مستخدمة، وهذا ما أبقى هذه المحلات مفتوحة من جهة، ووفر بعض الدخل لعائلات محتاجة من جهة أُخرى. وفي المدارس، صارت الأغلبية العظمى من الطلبة يأخذون معهم ساندويشات منزلية، كمناقيش الزعتر والنقانق بدلاً من الشراء من المقاصف المدرسية. 

العمال في مهب العاصفة

أول ملاحظة تُؤخذ بعين الاعتبار في هذا الحصار - وهذا تكرر تقريباً في كل الحصارات السابقة - أن الطبقة الأكثر تضرُراً هي شريحة العمال في إسرائيل، ويبدو أن لهذه الفئة ذاكرة سمك (أي ذاكرة قصيرة سرعان ما تتلاشى)، فأبناء هذه الفئة على ما يبدو لا يتعلمون من تجاربهم السابقة، ولا يدَّخرون ما يكفي لأوضاع طارئة كهذه، فنفدت مؤونتهم ومدخراتهم أمام متطلبات الحياة اليومية بعد شهر تقريباً من الحصار. والجدير بالذكر أن هؤلاء الأشخاص كانت مداخيلهم الشهرية من أفضل المداخيل مقارنة بفئات العاملين في الضفة.

أمّا عمال القطاع الخاص، فيمكن تقسيمهم إلى فئتَين: الأولى هي عمال المصانع الفلسطينية، وهذه الفئة من العمال لحقها ضرر بالغ، فمعظم المشاغل سرَّحت عمالها، أو قلَّصت عددهم إلى الحدود الدنيا، وهذا ينطبق على عمال مزارع الدواجن ومزارع الأبقار ومقالع الحجارة والمنشآت التجارية الخاصة.

أمّا الفئة الثانية، فهي عبارة عن عمال المصانع المشتركة الإسرائيلية الفلسطينية، وهذه الفئة لم تتضرر، إنما بالعكس، فقد تم تسهيل حركتها، لأن خط إنتاج هذه المصانع يغذي إسرائيل بجملة من المنتوجات التي لا غنى عنها في هذه الحرب؛ كالحديد، والورق، والأخشاب، والدهانات، والخضروات المجففة، وغيرها من عشرات الأصناف. وعمال هذه المصانع يتمتعون بحرّية الحركة من المنطقة الصناعية في ترقوميا إلى بلداتهم وبالعكس، وذلك من دون مضايقات دوريات الجيش الإسرائيلي، فالباصات التي تقل هؤلاء العمال معروفة لنقاط التفتيش الإسرائيلية، ويُسمح لها بالمرور حتى في ساعات إغلاق الطرق الالتفافية.

أمّا الطبقة الثانية الأكثر تضرراً، فهي طبقة التجار، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بكماليات الحياة؛ كالملابس ومواد البناء. أمّا شريحة الموظفين، فلم يتغير وضعها كثيراً، فعلى سبيل المثال، عانى المعلمون والموظفون بصورة عامة وما زالوا يعانون جرّاء اقتطاعات رواتبهم على مدار السنوات السابقة، وهذا مكَّنهم من سرعة التكيُف مع الأوضاع المستجدة، بالإضافة إلى أنهم ما زالوا يتلقون أجزاء من رواتبهم تسعفهم في ترتيب أوضاعهم المعيشية. 

إحياء مفهوم التكية وتعميمها

وعلى صعيد التضامن الاجتماعي، بدأت تظهر التكايا في قرى وبلدات عديدة في محافظة الخليل على غرار تكية سيدنا إبراهيم العريقة الملحقة بالحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، والتي تقدّم الطعام المجاني في شهر رمضان وبعض المواسم الدينية.

وقد قوبلت هذه المبادرة باستحسان وإقبال من الشرائح المحتاجة، فعلى سبيل المثال، بادرت مجموعة شبابية في بلدة إذنا (تقع على مسافة 17 كيلومتراً جنوب غربي الخليل) اسمها "أبناء البلد" إلى ترميم مزار ديني مهمَل وتأهيله ليكون مقراً لهذه التكية، وهذا المزار يقع شرق البلدة قريباً من مستوطنة أدورا وهو مطمع للمستوطنين، وخصوصاً بعد أن حاول ثلاثة شبان من بلدة إذنا تنفيذ عملية عسكرية في هذه المستوطنة في شهر شباط/فبراير الماضي، الأمر الذي شكّل ذريعة لغلاة المستوطنين لاستباحة أراضي إذنا، ومحاولة وضع اليد على المزار الديني المسمى "مقام النبي صالح".

في السياق نفسه، بدأت تظهر مبادرات أكثر تنظيماً يقودها شباب ينظمون حملات تبرعات تتصف بالشفافية والدقة والتنظيم، وإحدى هذه المبادرات الناجحة هي مبادرة "أبناء البلد"، وقد تأسست في بلدة إذنا، ويقودها شباب طموحون، وقد حازت ثقة المجتمع، وتقوم بتوزيع المنح على المحتاجين. كما أظهرت هذه المبادرة التزاماً جدياً إزاء المجموعات الفقيرة، وعندما لجأ عشرات العمال من غزة عشية معركة طوفان الأقصى إلى بلدة إذنا، أخذت هذه المجموعة على عاتقها إيواءهم، وما زالوا حتى الآن يقدمون إليهم الدعم. 

تخفيف متطلبات الحياة

وكذلك الأمر في السياق الاجتماعي، فإنه من المعروف أن مظاهر الأعراس تستنزف قدرات الشباب وتحمّلهم أعباء مالية طائلة، لكن حالة الحصار فرضت نمطاً جديداً من التفاهمات؛ إذ أُلغيت تماماً الولائم الكبيرة التي كانت تستنزف القدرات المالية للشباب المقبلين على الزواج، كما تم تخفيض المهر والكسوة وما إلى ذلك من الطقوس المتعلقة بالأعراس، والتي شكلت عبءاً مالياً لا يُطاق.

وعلى صعيد المواصلات الداخلية، فقد طورت العائلات الصغيرة أنظمة نقل بسيطة وعملية لتخفيف فاتورة المواصلات، عبر مشاركة عدة عائلات في سيارة واحدة ضمن برنامج محدد، وقد ساعدت وسائل التواصل الاجتماعي، وخصوصاً مجموعات الواتساب، في التواصل بين العائلات لتجميع فاتورة المشتريات لكل العائلات المشاركة وتأمينها في نقلة واحدة.

ومن الطبيعي في ظل حصار لا أفق لنهايته كهذا أن تتغير عادات الاستهلاك المنزلي، فقد زاد، على سبيل المثال، الإقبال في البلدات الريفية على زراعة المحاصيل التي تساهم في تخفيض فاتورة الطعام، وصار من المألوف أن نرى في حدائق البيوت أحواض سبانخ وبقدونس وبصل وفول وما إلى ذلك من المحاصيل السهلة الاستنبات. وإلى جانب هذا، فقد لجأت العائلات إلى الطبخات الأقل تكلفة، إذ عاد المجد إلى طبخات كادت تنقرض من المطبخ الشعبي، كالعدس والرقاقة والجريشة، كما لجأت النساء إلى صناعة الخبز المنزلي، وانتشرت أفران الحطب بصورة ملفتة، والتي تُستخدم للطبيخ والخبيزة. 

الحصار والعالم الرمزي للجماعة

وكما هو الحال في كل حصار، حيث يطور الناس استراتيجيات تعزز صمودهم المادي، فإن الحصار يؤثر أيضاً في العالم الرمزي للأفراد، وأول ما يمكن ملاحظته بقوة في هذا السياق هو النزوع نحو التديُن؛ ففي الحصار، يعلو الخطاب الديني ويسيطر على الفضاء العام، وهو سلوك فطري تحركه سيكولوجيا الخوف من المجهول، فيتدفق الشباب إلى بيوت العبادة مسربَلين بالرجاء والنجاة. والوعي الديني في مجتمعات الاستبداد يشكّل حالة وعي فحواها أن الابتلاء والمحن هي من عند الله، وهي مرتبطة بالخطيئة البشرية، وبالتالي هي مستقلة عن التاريخ، ولا دخل للوقائع السياسية وتغيرات القوى بها، والأمر كلّه مرتبط باللجوء إلى الله. ولكون هذا السلوك فطرياً، فإنه سرعان ما يتلاشى مع أولى نسائم الانفراج، وقد تكرر ذلك في حصارات الانتفاضتَين، الأولى والثانية. 

خاتمة

إن كل هذه الأمثلة وغيرها من وجهة نظري تصنَّف كنوع من التكيف أملته وقائع الحصار القاسية، وإن ما يسميه البعض تغييراً في القيم والتوجهات الاجتماعية تحت ضغط الحاجة والعوز لا يصنَّف تغييراً، إنما تنازلاً؛ لأنه جاء إذعاناً لمتطلبات المرحلة الجديدة، وهو تغيير في الممارسات أكثر مما هو تغيير في الوعي، وبالتالي، فسرعان ما يختفي ويعود الناس إلى الممارسات الاستهلاكية عندما يزول المؤثر الذي دفعهم إلى التكيف. لكن يجب أن نتذكر أن التغيير الذي ينبثق من الوعي والضرورة يدوم ويتحول إلى عنصر ثقافي دائم، والصراع مع هذا الاحتلال الاستيطاني طويل، وحري بنا أن نتعلم ونعلّم أجيالنا الجديدة المبادئ الأساسية لاقتصاد المقاومة، كالاعتدال في الاستهلاك، والادخار الطويل الأمد، والإنتاج الذاتي.

From the same blog series: Genocide In Gaza

Read more