In the Midst of War Artist Mohammed al-Hawajri Paints His Oppression
Date: 
March 22 2024
Interviewee: 
interviewer: 
blog Series: 

قبل نحو شهر، نشر الفنان محمد الحواجري فيديو له وهو يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه من لوحاته، من مرسمه، ويتحدث قائلاً: "هذه محاولة لانتشال ما تبقى من أعمالنا الفنية بعد قصف بيتنا ومرسمنا في مخيم البريج،" وأضاف أنه موجود في منطقة خطرة، وكان هذا واضحاً من صوت "الزنانة" في الفيديو.

مرّ وقت طويل، وأنا أتابع صفحات الفنان في "فيسبوك" و"انستغرام". قبل العدوان على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، بنحو شهر، نشر محمد صورة للوحة كان قد أنجزها للتو بعنوان "شجرة الحياة تحترق"، لاحقاً وخلال الحرب كتب معلقاً "من يتذكر هذه اللوحة بعنوان شجرة الحياة تحترق؟ تم رسم هذه اللوحة قبل الحرب على غزة بشهر تقريباً، وكأنه استشراف للمستقبل. للأسف لم أكن أعرف أن هذا المستقبل كان قريباً جداً منا، وقد أحرقتنا النار، ولم يبقَ أي شيء. جميعنا في النار بشر، وشجر، وحجر، كل شيء في نار الحرب." نجا هذا العمل الفني من القصف الذي أصاب مرسم محمد وزوجته الفنانة دينا مطر، لكن أعمالاً أُخرى كثيرة دُمرت.

تواصلت مع محمد لإجراء حوار معه، تحديداً بعد أن لاحظت نشره صوراً تشبه اليوميات، كتبت له، وأجابني، ووافق على الحوار، وطلب وقتاً بسبب عدم توفر الإنترنت دائماً في القطاع، ولا سيما في رفح حيث ينزح الآن.

 

خيمة ومرض

ولد الفنان محمد الحواجري في سنة 1976 في مخيم البريج وسط قطاع غزة. لديه وزوجته الفنانة دينا مطر أربعة أبناء، أكبرهم 17 سنة، وأصغرهم 3 سنوات.

يقول محمد "بعد اندلاع الحرب نزحنا من بيتنا المتواضع في مخيم البريج، وتوجهنا إلى مخيم النصيرات عند أقارب لنا، وتنقلنا في هذا المخيم أكثر من مرة بسبب القصف العشوائي الذي طال كل ما حولنا. وبعد شهر ونصف الشهر تقريباً، تركنا المنطقة الوسطى تماماً وتوجهنا إلى رفح، بعد التهديد الإسرائيلي باجتياح المنطقة التي كنا نعيش فيها." لم يعد محمد وعائلته إلى بيتهم إلاّ مع الهدنة التي لم تصمد طويلاً، قبل أن ينزحوا مجدداً إلى رفح حيث يعيشون حالياً في خيمة: "نعيش في الخيام في رفح قرب الحدود المصرية، بلا أي مقومات للحياة أو رعاية صحية. ومن دون مياه صحية، وهذا ما أدى إلى مرضنا جميعاً بسبب التلوث، وانتشار الأمراض في المخيم الذي نزحنا إليه."

 

مخيمات قرب الحدود

 

الرعب والقوة

ليس لدى محمد رفاهية الضعف أو الانهيار في هذه الأوضاع القاهرة التي يعيشها أهل قطاع غزة، فهو أب، ومسؤولياته تفوق مسألة تأمين الحاجات في هذه الأوضاع: "أجواء الحرب صعبة جداً، بل مرعبة ومخيفة. الحرب تمسي حروباً مع وجود العائلة، ولكوني أب فيجب أن أبقى قوياً أمام أبنائي حتى أواسيهم وأخفف عنهم، من الصعب وصف شعوري في بعض اللحظات، تلك التي أكون فيها خائفاً لكنني أتصنع القوة من أجل أبنائي. عليّ أن أكون كذلك بينما صوت الطائرات الحربية يلازمنا، والقصف المدفعي من البر والبحر والجو يُسمع من كل مكان، ومع كل قصف تشعر أنك هدف الموت القادم."

يصف صاحب المشروع الفني "جورنيكا - غزة" الموت بشجن وألم، فيقول: "من كثرة الموت، من بشاعته، وقد طال الأطفال والنساء والشيوخ. كنا وما زلنا نشعر أن الموت بشع لأن الإنسان منا يتحول إلى أشلاء، والجميع يرى هذه المشاهد البشعة، حتى الأطفال، فكيف يمكن لهم ألاّ يعيشوا الرعب والخوف؟".

يستعيد محمد أحد أكثر الأحداث إيلاماً عليه في هذه الحرب، حين استُشهد بعض أقاربه: "الحدث الذي آلمني، بل هزّني، قصف بيوت أقاربي في النصيرات، وقد كنت أنا وعائلتي في أحد تلك البيوت، واستُشهد فيه ابن عمتي وزوجته، وأولاده وزوجاتهم وأحفاده، وغيرهم ممن كانوا في البيت. نجونا أنا وعائلتي، لكننا لم ننجو من الألم العميق."

الفن والعيش والحرب

منذ اندلاع الحرب، لم ينشر محمد سوى صور تبدو كأنها توثق يوميات النزوح، وغيرها من متعلقات الحرب، لكن ليس هناك لوحات جديدة، أو صور له وبيده ريشة: "لم أقم بأي نشاط فني خلال الحرب، فلم أستطع فعل أي شيء سوى التفكير في أمان عائلتي، والبحث عن سبل العيش لهم، فهذا كان شغلي الشاغل. حالي حال أي أب يعيش هذا الظلم والقهر، لذلك أقضي جلّ وقتي، وأكرس ما بوسعي للحفاظ على أبنائي الذين أرى فيهم المستقبل."

لاحقاً، حين تكف المدافع عن دك الناس في قطاع غزة، سيعود محمد إلى ريشته، وإلى تقنيات فنية أُخرى كالفيديو والتصوير والتصاميم والتركيب، لينتج الواقع فناً، هذا ما دأب عليه في تجربته الفنية، وهو ما يعبّر عنه في "بيان الفنان" في موقعه الإلكتروني: "تعكس أعمالي الفنية دائماً الظروف اليومية التي أعيش فيها وحياة الناس في قطاع غزة الذين يعانون من اضطرابات سياسية واقتصادية واجتماعية مستمرة"[1]

 

شجرة الحياة تحترق اكرايلك على قماش 217-317 سم 2023

 

"مهمة" الإنقاذ

عاد محمد إلى بيته ومرسمه، لوقت قصير، أنقذ بعض الأعمال، وتحسر على بقيةٍ دمرها القصف الذي لم يُبقِ على شيء تقريباً من بيته ومرسمه هو وزوجته دينا: "ذهبت أول مرة لإنقاذ ما تبقى من أعمالي الفنية، وكانت هذه محاولة خطرة جداً، لأن منطقة سكني قبل الحرب، أصبحت منطقة مواجهة الآن. عندما علمت أن الأمور استقرت نسبياً، ذهبت أنا وأبنائي إلى البيت لإنقاذ الممكن من الأعمال الفنية. أصر أولادي على مرافقتي، فقد كانوا يرغبون برؤية البيت بعد القصف، كانوا متلهفين لمعرفة مصير بيتنا حيث ذكرياتهم الجميلة، وفيه كل ما يحبون فعله، كانت حديقة الاستوديو الخضراء جزءاً من اهتماماتهم، ولذلك وافقت على اصطحابهم في هذة المهمة الصعبة. نجحنا معاً في إنقاذ بعض أعمالي وبعض أعمال زوجتي، والآن أعتبرها الأعمال الناجية من التدمير، وهي التي نطمح أن نأخذها معنا في حال خرجنا من غزة، لتكون شاهداً على العدوان الذي طال جزءاً من حياتنا الشخصية والفنية."

يصف محمد رحلته إلى بيته ومرسمه في ظل هذه الحرب بـ "المهمة"، فقد "كانت الأولى، ولم يسبق لي أن خضت تجربة مثلها من قبل، حتى في الحروب السابقة على غزة، فهذه الحرب مختلفة، إنها مدمرة، وكان واضحاً أن العدو يقصد تدمير كل ما هو جميل في غزة، إنه يحاول تشويه الصورة التي انتشرت خلال سنوات ما قبل الحرب، وخصوصاً مشاهد البناء المعماري الجميل، وصور جمال شاطئ البحر في غزة."

الفن المدمر سيشهد

ستنتهي الحرب، وسينقشع غبارها بعد حين، وسيبدو حجم الدمار جلياً، تلك صور ستشاهد في الشاشات لمرات، وسيُكتب عنها الكثير، وستذهب بعد ذلك إلى الأرشيف. لكن الفن حين يشهد على حجم الجريمة في قطاع غزة سيبقى، ولن يُمحى، وسيصمد، بما فيه الفن الذي دُمّر في مراسم الفنانين في غزة، ومحمد واحد منهم، ومع إنه، كبعض الفنانين لا يؤيد إعادة رسم الأعمال الفنية المدمرة، لكنه "مع عرضها كما هي بعد الدمار، وكتابة نص يتحدث عن كل تجربة من هذه الأعمال. وبذلك تكون بمثابة مشروع فني، وجزء من الذاكرة، وشاهد على حجم الدمار الذي طال كل شيء حتى المشهد الفني والثقافي في غزة، الذي هو جزء لا يتجزأ من النضال الفلسطيني." ويوضح محمد أكثر: "أنا أؤمن بأن الفن يؤثر كما البندقية، بل أكثر وأقوى منها أحياناً، لأن بعض الأعمال الفنية تجد طريقها نحو العالم، فتصل وتعرّف بالقضية الفلسطينية بقوة، ولعل لوحة 'جورنيكا' لبيكاسو دليل من تاريخ الفن، على القيمة التي يؤديها حين يشهد على بشاعة العدوان الذي طال تلك القرية في إسبانيا".

صحيح أن محمد لم ينتج فناً خلال هذه الحرب، لكن جزءاً من مشروعه الفني "جورنيكا غزة"(2010-2013) موجود خارج القطاع، فلاقى طريقه للعرض "في إحدى صالات عرض الفنون في برلين، حيث حصد إعجاباً كبيراً من الناس، لأن الأعمال التي هي جزء من المشروع فيها غزة، وصحيح أنها تعود إلى أكثر من عشر سنوات، لكنها تبدو كأنها أُنتجت في هذه الحرب."

ومحمد الذي يقيم ويعمل في غزة، عرض في العديد من العواصم الأوروبية، كما أن له معارض في فلسطين والعالم العربي. ظهر على الساحة الفنية منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي، فقدم عدة معارض فردية. وساهم في تأسيس برنامج الفنون البصرية، وفي تأسيس مجموعة التقاء للفنون المعاصرة في غزّة والتي يقوم بالتدريس فيها، وهدفها تطوير الفنون. كما شارك في الأكاديمية الصيفية التي أشرف عليها الفنان السوري مروان قصاب باشي في السنوات (1999 و2000 و2001) ونال جائزتها الأولى للفنانين الشباب في سنة 2000. وحصل على إقامة فنية في مدينة الفنون العالمية في باريس في سنتي 2008 و2012. وأُخرى لمدة شهرين في “Nuova Icona” في البندقية بإيطاليا سنة 2014. وذلك في إطار البرنامج التبادلي مع دائرة الفنون.

 

انما الموت ما هو الا نهاية لبعضنا ويحيى من بعده بعضنا اكرايليك على قماش 321-280 سم 2022

 

في الحرب وبعدها

العيش في رفح، أبعد الناس عن بعضها، بقدر ما قرّبها، فأكثر من 1.5 مليون نازح في رفح أتوها من مختلف مناطق القطاع، بعد أن كان عدد سكانها قبل الحرب نحو 260 ألف نسمة. وهناك تكدس الجميع في خيام، لا تقي من البرد، ولا تمنع مياه الأمطار من التسرّب إليها. ومحمد وعائلته ومثلهم مئات الآلاف، يعيشون في هذه الخيام منذ أشهر، وهم مهددون بالرحيل عنها مجدداً مع تهديد جيش الاحتلال، باجتياح رفح براً كما فعل في مناطق أُخرى من القطاع. كل هذه الأحداث تتراكم في هواجس محمد الحواجري وغيره. ومع ذلك ما زال الناس يطمئن بعضهم على بعض، يتأملون أن تنتهي الحرب، وعندها يقررون خطوتهم التالية، محمد مثلاً يقول: "بعد انتهاء الحرب هناك كثير من الأشياء التي أنوي القيام بها، أولها، وليمة طعام كبيرة." ويضيف: "سوف أتفقد كل شيء، وسأحاول بناء ما تم تدميره، وترتيب أموري للبدء من جديد." ويختم كلامه بالقول: "بما حدث ويحدث معنا كفلسطينيين، نكون كالعنقاء، تعود بعد أن تحترق. وهذا شعار غزة، فنحن شعب كالعنقاء، نُبعث من بعد الموت.

 

[1] موقع الفنان محمد الحواجري.

انظر

Read more