بدأت القصة حين عُقد لقاء جمع كل من المفوض العام لوكالة الأونروا فيليب لازاريني مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي وسلمته الأخيرة قائمة بأسماء 12 موظفاً يعملون في الوكالة في قطاع غزة تزعم بأنهم قد شاركوا في أحداث عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، ليسارع المفوض العام ومن دون أي تثبت من صحة الاتهامات والمزاعم باتخاذ إجراءات طرد لهؤلاء الموظفين وفق الصلاحيات الاستثنائية التي يمتلكها "إذا كان الأمر يهدد مصلحة الأونروا العليا". وفي هذا تصرف إداري غريب لم تعهده أي من المؤسسات والجمعيات والمنظمات في نظمها وهياكلها الإدارية بأن تتم محاسبة المتهم قبل أي نتائج لعملية التحقيق.
نَشر موقع "يو ان ووتش" المعادي للأونروا على موقعه الإلكتروني صور وأسماء ثمانية من الموظفين الذين تم اتهامهم،[1] ليتبين أن المشاركات تتعلق بتعبيرات نشروها على حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، فأحدهم وضع صورة أبو عبيدة على حسابه، وآخر أشاد بالعملية، ومعلمة في مدرسة تابعة للأونروا في قطاع غزة استُشهد جميع أفراد عائلتها فصلّت ودعت للمقاومة بالنصر، وكأنه يراد سلخ الموظف عن انتمائه الوطني وهويته الوطنية بحجة الحياد.
تدحرجت كرة الثلج الدولية، وفي خطوة تمثل عقاباً جماعياً لأكثر من 6 مليون لاجئ فلسطيني مسجل في سجلات الوكالة، ومخالفة صريحة لجميع القيم والمعايير الإنسانية التي تتحدث عنها، اتخذت دول عظمى مواقف وقرارات بقطع موقت لمساهماتها المالية إلى حين انتهاء التحقيق. وعملياً اعتماد المنهجية نفسها التي اعتمدها المفوض العام في طرد الموظفين، بأن اتخذت تلك الدول قراراتها قبل أن تنتهي عملية التحقيق. بل أكثر من ذلك بأن تتم محاسبة مؤسسة بدل الأفراد، وقد بدأت بتعليق التمويل الإدارة الأميركية ثم لحقها عدد آخر من الدول ليصل العدد إلى 16 دولة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي (أميركا، وبريطانيا، وكندا، وفرنسا، وسويسرا، وأستراليا، وإيطاليا، وألمانيا، والنمسا، وأستونيا، ونيوزيلندا، وفنلندا، وهولندا، ورومانيا، وأيسلندا، والسويد) وعملياً تبلغ مساهمة هذه الدول بما نسبته ثلثي ميزانية الأونروا لعام 2023، أي حوالي 870 مليون، فقد كانت ميزانية الوكالة تقدر بـ 1.63 مليار دولار.
قرار تعليق المساهمات المالية هو قرار سياسي بالدرجة الأولى، الهدف منه التمهيد لاستهداف الأونروا كمؤسسة لها مكانة ودور ورمزية وثقل قانوني مرتبط باللاجئين وحقهم في العودة. وهذا الملف المهم يؤرق الكيان ويخيفه منذ عقود، فالوكالة تعزز ارتباط اللاجئ بقضيته ووطنه الأم، وتحافظ على سجلات اللاجئين وتحفظ أرشيفهم وسجلاتهم الشخصية والتاريخية. كما أن الوكالة تذكّر صناع القرار دائماً بمعاناة اللاجئين الفلسطينيين، ولا سيما مثلاً في محكمة العدل الدولية، وتذكّر أيضاً بأن هناك قضية إنسانية وقانونية وسياسية تتمحور حول حق العودة، فديباجة قرار إنشاء الوكالة رقم 302 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 8/12/1949، بالإضافة إلى الفقرة الخامسة والفقرة 20 من القرار، تتحدث عن أن عمل الأونروا يجب ألاّ يخل بتنفيذ الفقرة 11 من القرار 194 الصادر عن الجمعية العامة في 11/12/1948 الذي أكد حق العودة والتعويض واستعادة الممتلكات.
جاء قرار التعليق بعد اعتماد محكمة العدل الدولية على تقارير نشرتها الأونروا، وحديث منظمة الصحة العالمية عن الوضع الإنساني الذي يتدهور تدريجياً في قطاع غزة نتيجة العدوان الصهيوني، والذي يمثّل في أحد أوجهه انتقاماً من المنظمة الأممية، واستغلالاً للحدث، لتتخذه ذريعة لاستمرار النيل الاستراتيجي من الوكالة من جهة، ومن جهة أُخرى إشاحة الاهتمام الدولي والشعبي بالحدث التاريخي، بأن تكون دولة الاحتلال في قفص الاتهام. نجح الاحتلال وأعوانه في الأولى، لكنهم لم يوفقوا في الثانية، فأصداء محاكمة الاحتلال لم تنقطع على المستوى الشعبي والرسمي المهتم.
في نهاية كانون الأول/ديسمبر 2023، تحدثت "القناة 12" العبرية عن خطة من ثلاث مراحل يعمل عليها نتنياهو لإنهاء عمل الأونروا في غزة بعد انتهاء الحرب، وتستند الخطة إلى تقرير "شديد السرية" صادر عن وزارة خارجية الاحتلال، لكن هذه السرية جرى الإفصاح عنها لاحقاً سواء من قبل الوزير سموتريتش أو وزير خارجية الاحتلال كاتس.
المرحلة الأولى: شيطنة الاحتلال للأونروا، بأن تكشف تل أبيب عن تعاون مزعوم بين الوكالة وحركة "حماس". وهو ما يحدث حالياً؛ بدأها الاحتلال بالادعاء أن أحد معلمي الوكالة كان يحتجز أحد الرهائن الإسرائيليين في عليّة منزله في قطاع غزة لمدة 43 يوماً، تلتها ادعاءات تحدثت أن هناك تنسيقاً دائماً بين حركة "حماس" والوكالة، وأن الأونروا تغض الطرف عن بناء الأنفاق تحت منشآتها، وغيرها من الادعاءات والفبركات.
المرحلة الثانية: تقليص عمليات الأونروا في قطاع غزة، والبحث عن منظمات مختلفة لتقديم خدمات التعليم والرعاية الاجتماعية للاجئين في غزة، وأحد مؤشرات هذه الخطوة بأن قامت حكومة كندا بتقديم مساعدات مالية لغزة بقيمة 30 مليون دولار بتاريخ 31/1/2024، تم توزيعها على وكالات أممية عاملة في قطاع غزة باستثناء الأونروا (اليونيسف، وصندوق الأمم المتحدة للسكان، ومنظمة الصحة العالمية، واللجنة الدولية للصليب الأحمر، ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية).
المرحلة الثالثة: نقل مهمات وكالة الأونروا إلى الهيئة التي ستحكم غزة بعد انتهاء الحرب، وهذا الذي يجري الحديث عنه في الوقت الحالي، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه لا يحق لأي كان، سواء على مستوى دول أو منظمات أممية، أن يعبث بولاية الأونروا أو أن يُجري أي تغييرات أو تعديلات، باستثناء الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أنشأتها.
قرارات التعليق لا تشمل عمل الأونروا في قطاع غزة فقط، بل أيضاً كل الأقاليم التي تعمل فيها الوكالة (الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس المحتلة، وغزة، والأردن، و سورية، ولبنان) والتداعيات تشمل أكثر من 6 مليون لاجئ فلسطيني مسجلين في سجلاتها في المناطق الخمس، وقد قالت الأونروا إن ما لديها من مبالغ مالية سيكفي فقط لنهاية شباط/ فبراير 2024، وفيما لو استمرت عملية تعليق المساهمات، فهذا سينعكس بشكل مباشر على جميع الخدمات التي تقدمها الوكالة للاجئين، وينذر بكارثة إنسانية على المستوى الصحي والتعليمي والإغاثي وبرامج الحماية والقروض وأعمال البنى التحتية في المخيمات:
أولاً: سيتم إقفال 715 مدرسة تديرها الوكالة بين ابتدائي ومتوسط وثانوي، وتستقبل أكثر من 550 ألف طالب وطالبة.
ثانياً: ستقفل 140 عيادة صحية تعمل في 58 مخيماً وعشرات التجمعات، وعملياً توقف أكثر من 7 مليون زيارة مرضية سنوياً، وستحكم بالإعدام على مئات من المرضى الذين يحتاجون إلى دخول المستشفيات، وسيتوقف برنامج الرعاية لما قبل الولادة لحوالي 60 ألف امرأة حامل.
ثالثاً: سيتوقف الدعم المالي الذي تقدمه الوكالة لحوالي 300 ألف لاجئ من فئة "شبكة الأمان الاجتماعي".
رابعاً: سيتوقف برنامج القروض الذي يسهل للاجئين القيام بمشاريع صغيرة، والذي يشمل حوالي 30 ألف قرض بقيمة 25.5 مليون دولار سنوياً.
خامساً: سيتوقف البرنامج الذي يقدم خدمات الحماية الاجتماعية لما مجموعه 400 ألف لاجئ من الأشد عرضة للمخاطر.
سادساً: سيتسبب ببطالة لحوالي 29 ألف موظف يعمل في الوكالة.
سابعاً: ستتوقف جميع أعمال البنى التحتية من مجاري وحفر صحية وشق وإصلاح طرقات والصحة البيئية من خلال جمع النفايات في المخيمات.
ثامناً سيتوقف برنامج الحماية القانونية الذي يقدم استشارات للاجئين وبعض الخدمات لتوكيل محامين.
تاسعاً: ستتوقف جميع المشاريع المتعلقة ببرنامج الطوارئ في سورية وغزة واستكمال إعادة إعمار مخيم نهر البارد.
على أهمية قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة، والتي هي محل استهداف من قبل الكيان الصهيوني من خلال استهداف الأونروا، لا بد من الإشارة إلى أن الهدف الاستراتيجي من النيل من الوكالة ليس هذا فحسب، بل إن العين على تثبيت شرعية دولة الاحتلال في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ذلك بأن هذه الشرعية لا تزال معلقة في الأمم المتحدة حتى يومنا هذا إلى حين تطبيق الاحتلال لقراريْ الجمعية العامة؛ الأول قرار تقسيم فلسطين رقم 181 الصادر بتاريخ 29/11/1947 والذي يعطي الفلسطينيين حق إقامة دولة على 45% من أرض فلسطين، والثاني القرار 194 بتاريخ 11/12/1948. القرار الأول انتهى مفعوله بعد توقيع اتفاق "أوسلو" في عام 1993 وجرى التخلي فلسطينياً - للأسف - عن 78% من أرض فلسطين. وبقي القرار الثاني، والطريق إلى شطبه يكون من خلال إنهاء عمل الأونروا، وإنهاء مسمى لاجئ من خلال مشاريع التذويب في الدول المضيفة، وكي لا يكون هناك مسمى لاجئ في المستقبل ينطبق عليه تطبيق القرار، وبهذا يحصل الكيان على شرعيته الأممية التي تقض مضجعه لتثبيتها ليل نهار.
أحد أوجه استهداف الوكالة ومحاصرتها وخنقها وشل قدراتها وإمكانياتها على العمل، هو التدرج في تجفيف منابع الدعم المالي الذي تدفعه الدول المانحة طواعية، والذي يجري من خلال تعليق المساهمات، يأتي في سياق التدجين للوكالة والتطلع إلى العمل على تعديل المناهج الدراسية وانتزاع المواقف التي تخدم رؤية الاحتلال من الوكالة في مقابل التمويل، وهنا يكمن الخطأ الكبير في ولاية الأونروا الذي بقي على حاله منذ أن تأسست الوكالة، إذ إن التبرع المالي الطوعي كان مبرراً حين إنشاء الوكالة في عام 1949، على اعتبار أن إنشاء الوكالة كان موقتاً -ولا تزال تحمل هذه الصفة حتى الآن– ولمدة سنة واحدة فقط تعمل على توفير خدمات الصحة والإغاثة لجموع اللاجئين، بمن فيهم المهجرين داخل فلسطين المحتلة عام 1948، وبعدها تقفل الوكالة أبوابها بعد عودة اللاجئين، لا بل انبثقت لجنة من القرار 194 هي لجنة التوفيق الدولية حول فلسطين تشكلت من كل من أميركا وفرنسا وتركيا، مهمتها إعداد آليات العودة للاجئين، لكن جرى تعطيل عمل اللجنة مطلع خمسينيات القرن الماضي، والآن بعد مرور أكثر من 74 عاماً على تأسيس الوكالة، وزيادة أعداد اللاجئين وحاجاتهم بات ضرورياً، لا بل إلزامياً أن يجري التعديل في ولاية الأونروا ليصبح التمويل ثابتاً من الأمم المتحدة، كي لا تبقى الوكالة عرضة للاستغلال وانتزاع مواقف سياسية بسبب الأموال التي تدفعها تلك الدول.
حيال ما يجري المطلوب تحرك على أكثر من مستوى؛
أولاً: على مستوى الشعب الفلسطيني وشعوب أمتنا العربية والإسلامية وأحرار العالم، عدم التوقف عن المطالبة سواء بإنهاء تعليق القرارات المجحفة والظالمة، والمطالبة بزيادة المساهمات المالية واتخاذ وسائل غير تقليدية لتحقيق ذلك، فهم مدعوون الآن إلى زيارة سفارات تلك الدول، والقيام بوقفات واعتصامات تضامنية أمام تلك السفارات تحت سقف القانون الذي تسمح به بلدانهم، كذلك مطلوب من خبراء "السوشيل ميديا" القيام بخطوات إبداعية، وباللغتين العربية والإنكليزية.
ثانياً: على المستوى الدبلوماسي هناك دور كبير يقع على عاتق سفراء دولة فلسطين في الدول التي علّقت المساهمات، كذلك دور مضاعف لمندوب فلسطين في الأمم المتحدة في تشكيل لوبيات ضاغطة مع الدول الصديقة داخل المطبخ السياسي الدولي.
ثالثاً: مراكز الدراسات والأبحاث مطالبة أيضاً بتخصيص مساحات واسعة من مراكزها لدحض رواية وزيف الاحتلال وتقديم الحقيقة بالحجة والبراهين.
رابعاً: على الدول المضيفة للاجئين أن تقول كلمتها في هذا السياق، فعلى المستوى الإنساني لا قدرة لهذه الدول على تحمل الأعباء وتقديم الخدمات وهي التي تعاني، وعلى المستوى السياسي ستكون الفضيحة الكبرى، حال الشراكة في التوطين وتذويب اللاجئين في الدول المضيفة، وإنهاء قضيتهم في مقابل تحسين أوضاعهم الاقتصادية الداخلية، وستخلق أزمة إنسانية وأمنية لدى تلك الدول.
[1] نشر الموقع ذاته مجدداً تقريراً (كانون الثاني/يناير 2024) عن موظفين في الأونروا ادعى فيه أنهم يؤيدون ما سمّاه "عنف حماس" في منصة تلغرام.