-1-
أبدأ بالإشارة إلى أن الإجرام المنقطع النظير الذي قامت وتقوم به إسرائيل في غزة ستكون له تبعات كبيرة مستقبلاً، منها، ما إذا كان هناك مستقبل للقانون الدولي الإنساني، أو بشكل أدق، أن هذا الفتك والإجرام عرّى الادّعاء، أو الأيديولوجيا التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية حتى الآن، بأن الحرب تحكمها قوانين وقواعد قابلة لإلزام الدول المتحاربة بها، وأن عدم الالتزام بها يجعلها تقع تحت طائل المسؤولية والمحاسبة الممكنة فعلاً.
صحيح أن العديد من الدول الأفريقية ودول الجنوب عموماً كانت تعتبر أن هذا الإلزام فيه ازدواجية في المعايير، ومسيَّس، وانتقائي بصورة جلية، غير أن إجرام إسرائيل قد مزق إلى شذرات قوانين الحرب هذه بشكل غير مسبوق، إلى درجة يمكن توقع حصول أحد أمرين مستقبلاً: إمّا حملة عالمية لمحاسبة إسرائيل يشترك فيها عدد من الدول ومؤسسات في أنحاء مختلفة من الغرب والشرق، تعنى ببقاء قوانين الحرب وتخشى العودة إلى حالة من التوحش والتنكر لأهوال الحربين العالميتين الأولى والثانية، بالإضافة إلى الخشية من التنكر للعبرة الإنسانية العامة من جريمة "الهولوكوست" أو المحرقة؛ ذلك بأن هذه العبرة غير خاصة باليهود وآخرين جرى إفناؤهم من قبل النازيين، حتى لو أن الحركة الصهيونية تسعى بشكل دؤوب إلى احتكارها. وقد تكون مقاضاة دولة جنوب أفريقيا لإسرائيل في محكمة العدل الدولية نقطة بداية.
في المقابل، فإن الأمر الآخر المختلف والنقيض الذي يمكن توقعه مستقبلاً، يكمن في أن سابقة هذا الإجرام الهائل والسافر، ستؤدي إلى انهيار كامل لمنظومة الحقوق والواجبات المتضمنة في قوانين الحرب، وبخاصة إن لم تتم محاسبة إسرائيل بفضل "رعاية" الطرف الآخر المشارك في الحرب، أي الولايات المتحدة الأميركية وأتباعها الصاغرين الأوروبيين على وجه الخصوص. وفي هذه الحالة، سيعود العالم إلى حالة من التوحش السافر، كما في حالة غزة، في الصراعات والحروب المختلفة بعد إماطة اللثام، بشكل جلي ساطع لا يقبل التأويل، عن الافتراض أن الحروب قد تحكمها قواعد وقوانين قابلة للتطبيق، لكنها في الوقت نفسه، يمكن أن تنتهك بشكل صارخ وغير مسبوق من دون رادع أو عقاب. هذا تحديداً قد يكون "إنجاز" إسرائيل الأكبر للبشرية جمعاء.
-2-
منذ أن أعلن قادة إسرائيل أنهم "سيقضون على حماس" في الأسبوع الأول من الحرب على غزة، كان من الواضح أنه ستكون لديهم مشكلة تتلخص في مَنْ سيحكم غزة ويتولى شؤونها كافة، بافتراض نجاحهم في هذا المسعى. لكن ما هو أهم بالنسبة إليهم مَنْ سيحفظ "أمن إسرائيل"؛ أي أن يتحمل مسؤولية كل قذيفة تطلق من غزة على إسرائيل، أياً يكن مصدرها، كما كانوا دائماً يسعون إلى تحميل حماس المسؤولية بصفتها السلطة القائمة.
وبعد حوالي أسبوع من 7 أكتوبر، بدأ هذا السؤال يتردد على ألسنة الدول الأوروبية والولايات المتحدة أيضاً، وبعد ذلك في الصحافة الغربية. ولم يكن هناك جوابٌ شافٍ في هذه المرحلة، وإنما كان هناك تخبط في الإجابة. فمثلاً، صرّح في فترة لاحقة وزير الحرب الإسرائيلي بأنهم سيقيمون سلطة مدنية وعسكرية جديدة في غزة، لكن لم يجد هذا التصريح صدى في الغرب نظراً إلى معرفتهم أن هذا كلام فقط، ومن غير الواضح من أين سيأتون بهذه السلطة، ومَنْ سيرضى أن يكون فيها بعد كل هذا البطش والقتل والتدمير وجرائم الحرب المرتكبة.
ثم بعد ذلك بفترة ظهرت أصوات محللين من مؤسسة دراسة الأمن القومي في جامعة تل أبيب، وجنرالات متقاعدين إسرائيليين، وبعد ذلك مستشار الأمن القومي تساحي هنغبي، تحدد أن الحل الأمثل هو تسليم غزة إلى السلطة الفلسطينية. ولم يسأل أحد منهم، على ما يظهر، ما إذا كانت السلطة الفلسطينية ستقبل بهذا. وكان موقف السلطة الفلسطينية واضحاً منذ بداية العدوان، أن لديها استعداداً لأن يكون لها دور في غزة، لكن ضمن إطار شامل للحل السياسي.
وخلال عدة جولات مكوكية قام بها أنتوني بلينكن، وزير خارجية الولايات المتحدة، في المنطقة للتشاور مع عدد من الدول العربية، بالإضافة إلى إسرائيل والسلطة الفلسطينية بشأن "اليوم التالي"، تم فحص عدة احتمالات، منها قوة عربية مشتركة تدير غزة، ولاحقاً، قوة "دولية" مكونة من جنود من عدد من الدول الأوروبية والآسيوية. وكان من الواضح للمراقب أن هذه المساعي ستنتهي بالفشل، وخصوصاً أن قوة مثل هذه قد تصبح هدفاً للمقاومة في غزة في حال كان دورها، أيضاً، "حفظ أمن إسرائيل".
ومع بداية كانون الأول/ديسمبر تبلورت المواقف المختلفة في ضوء أداء المقاومة في غزة، وجرى تعديل موقف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو من "القضاء على حماس"، إلى "تفكيك" بنيتها العسكرية، وأن إسرائيل ستستمر في "الحفاظ على أمنها" في المستقبل، لكنه استمر في معارضة عودة السلطة الفلسطينية إلى الحكم في غزة. أمّا الولايات المتحدة، فقد أضحى موقفها أن السلطة الفلسطينية هي أفضل خيار واقعي بعد "إعادة تأهيلها وإصلاحها" وتهيئة الوضع لحل الدولتين، وهذه اللازمة اللفظية التي رددها الرئيس بايدن سابقاً أكثر من مرة كضريبة كلامية لم ينجم عنها أي عمل جاد، من نوع الضغط الفعّال على إسرائيل، أو حتى اتخاذ موقف حاسم من استمرار سرقة الأرض والاستيطان في الضفة الغربية الذي أنهى أو شارف على إنهاء حل الدولتين بالفهم الفلسطيني له.
وفي أواسط الشهر الثالث للعدوان، تبلور موقف نتنياهو ليؤكد ما قاله سابقاً، من أن إسرائيل ستبقي المسؤولية "الأمنية" في يدها، لكنها ستعمل على إيجاد سلطات محلية مبنية على العشائر الموجودة "المعروفة لدى الشاباك"، كما حدد، لتولي المسؤوليات المدنية عن سكان غزة. وستبقي إسرائيل في يدها السيطرة على الحدود والمعابر والبحر والمجال الكهرومغناطيسي، أي أن غزة ستبقى محتلة، كما كانت سابقاً؛ ذلك بأن السيادة ستبقى في يد دولة إسرائيل، مع فارق وجود سلطة محلية، "روابط قرى" مجددة، ترفع مسؤولية الدولة المحتلة عن المدنيين الفلسطينيين في غزة.
وكان من الواضح أن الولايات المتحدة لا توافق على هذا التصور، إذ بقيت تصر على أن الوضع الأمثل الذي تسعى هي إليه هو عودة السلطة الفلسطينية لحكم غزة بعد "إعادة تأهيلها"، وبخاصة أجهزتها الأمنية، كي تتمكن من ضمان أمن إسرائيل في غزة، أيضاً، وليس فقط في الضفة الغربية. وتخلت الولايات المتحدة، أيضاً، عن فكرة "القضاء على حماس"، إذ صرح الناطق بلسان البيت الأبيض جون كيربي في مؤتمر صحافي بتاريخ 3/1/2024، بأن حماس ستبقى، لكن لن تكون في وضع "يهدد دولة إسرائيل".
وقد يكون من المستحسن في هذه المرحلة عدم قراءة الكثير في تصريح جون كيربي بأن "حماس ستبقى"، أي قراءة العبارة أنها تعني أن الولايات المتحدة قد تقبل دوراً سياسياً ما لحماس ضمن إطار تصورها عن "اليوم التالي" المتضمن توحيد السلطة السياسية في غزة والضفة، لكن من الواضح أن هذا سؤال مطروح لم يفت حماس أيضاً. ففي أواسط الشهر الثالث من الحرب على غزة، زار وفد من حماس برئاسة إسماعيل هنية القاهرة للتباحث مع المسؤولين المصريين تحديداً في هذا الموضوع. وجرى التباحث في عدد من الأمور المستلزمة في حال تم توحيد السلطتين، في غزة والضفة، منها مثلاً انضمام حماس إلى منظمة التحرير الفلسطينية، وربما الجهاد الإسلامي أيضاً، حتى لو لم يكن لحماس دور تنفيذي مباشر في إدارة مثل هذه السلطة، أي تمثيلاً في الوزارة الموحدة، على سبيل المثال لا الحصر. لكن من الواضح أن أي دور سياسي لحماس مستقبلاً في بنية النظام السياسي الفلسطيني، مرهون -إلى حد كبير- بموافقة الولايات المتحدة، وإلى حد ما إسرائيل أيضاً، ضمن توازن القوى الموجود بينهم وبين السلطة الفلسطينية.
-3-
توجد عدة محددات ستحكم ما سيتم في "اليوم التالي". من الواضح، مثلاً، أن لدى نتنياهو تحديداً، ومعه وزير الحرب، وعدد من القيادات العليا في الجيش والمخابرات، اهتماماً شخصياً بإطالة أمد الحرب على غزة من دون تحديد زمن محدد لإنهائها، لغرض تحقيق إنجاز ما يسعف، بالقدر الممكن، في إنقاذ ماء وجههم. وهم يقولون هذا تقريباً في تصريحات مختلفة لهم، بما في ذلك أن العدوان على غزة سيستمر "شهوراً طويلة"، وبصيغة أُخرى: إن إبقاء "المسؤولية الأمنية" في يد إسرائيل، تترك مدة العدوان مفتوحة إلى أجل غير مسمى، حتى لو اتّخذ أشكالاً مختلفة ميدانياً.
وعلى الرغم من الضغط المستمر من جانب إدارة الرئيس بايدن لتقصير المدة بسبب انعزال الولايات المتحدة على صعيد عالمي، والاحتجاجات والتظاهرات الداخلية المستمرة، فإن الإدارة الأميركية لم تجرؤ حتى الآن على استخدام كل عناصر نفوذها لأغراض فرض رؤيتها لليوم التالي. ولهذا عدة أسباب، منها دور اللوبيهات الصهيونية في التأثير على سياسات أي إدارة أميركية، ومن منطلق "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، أي عدم الضغط الفعال على أي حكومة إسرائيلية خشية أن تصبح هذه سابقة مستقبلاً، وليس ضرورة أن جميعها توافق على سياسات الحكومة الحالية في إسرائيل، بما في ذلك مسعى الانقلاب الدستوري الذي سعت حكومة اليمين المتطرف إلى إنجازه.
غير أن السبب الذي هو أهم من الحافز الشخصي لدى نتنياهو وجنرالات الحرب والأجهزة الأمنية وآخرين سيعتبرون مسؤولين عمّا جرى في السابع من أكتوبر، يكمن في ما ردده كثيرون من الصهاينة العاديين مباشرة بعد الحدث، أن الاختراق الذي تم، وأسْرَ عددٍ منهم، أشعرهم بـ "تهديد وجودي"، ليس لهم فحسب، بل، أيضاً، لليهود عموماً في دولة إسرائيل. بطبيعة الحال، هذا خطاب إعلامي، في حالة الصهاينة العاديين تحديداً، حتى لو أقنعوا أنفسهم به، إذ دأب الصهاينة على احتكار دور الضحية، وتقمص هذا الدور في الحروب كافة التي خاضتها إسرائيل، وفي تصوير أنفسهم في الدعاية وعلاقاتهم العامة تجاه الخارج كضحية مهددة، وفي مسعى مستمر يستذكر "الهولوكوست" ومعاداة السامية تاريخياً وحاضراً، وجدت أو لو لم توجد. ومن هنا مقولة أن "إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها" التي رددها مساندو إسرائيل بعد السابع من أكتوبر، حتى لو كانت دولة تحتل شعباً آخر.
لكن من منظور قيادات الجيش والمخابرات والقيادات السياسية، فإن عبارة "التهديد الوجودي" تتعدى نطاق العلاقات العامة والتذكير بالمحرقة واللاسامية، الأمر الذي عبّر عنه بوضوح وزير الحرب يوآف غالانت في الثاني من كانون الثاني/يناير 2024، وأقتبس هنا كلامه حرفياً: "بدون نصر واضح، لن نتمكن من العيش في الشرق الأوسط"، وهذا كلام له معنى واضح؛ فمن منظور القيادات الصهيونية ما جرى في السابع من أكتوبر هو تهديد وجودي حقاً، لأنه أول اختراق ناجح لجدار جابوتنسكي الحديدي الشهير، ومن قبل فصيلَين لا يقارَن ما لديهما من سلاح أو إمكانات بما تحوزه إسرائيل. ولم يتردد جابوتنسكي في حينه في وصف المشروع الصهيوني في فلسطين بأنه مشروع كولونيالي وفي بيئة معادية، فلسطينية وعربية، ومن ثم ضرورة المنعة والقوة العسكرية والأمنية اللازمة في هذه البيئة المعادية لنجاح المشروع الكولونيالي الصهيوني.
وليس من قبيل الصدفة أن العقيدة العسكرية الإسرائيلية قامت على أساس العمل على بناء أقوى جيش وأجهزة أمنية في المنطقة، وخوض الحروب والمعارك في أرض الخصم، كبيرة كانت أم صغيرة، والمبادرة إلى ذلك، وإبقاء الحروب التي تستلزم تعبئة الجنود الاحتياط إلى أقصر مدة ممكنة. هذا هو "الجدار الحديدي" الذي انهار في السابع من أكتوبر ومعه شوكة وسطوة وسمعة "جيش الدفاع" والأجهزة الأمنية؛ هذا هو التهديد الوجودي.
-4-
على الرغم من أن الولايات المتحدة أعلنت مراراً على لسان الرئيس بايدن، وتكرر الموقف في عدد من المقابلات مع وسائل الإعلام من قبل الناطق بلسان مجلس الأمن القومي، أن الولايات المتحدة تناهض إعادة احتلال غزة من قبل إسرائيل لأن نظام الحكم في غزة "ينبغي أن يتوافق مع طموحات الفلسطينيين"، فإنه لا يبدو أنها تعارض احتفاظ إسرائيل "بمسؤولية أمنية" في غزة. وهذا هو النموذج الموجود في الضفة الغربية منذ بداية مسار أوسلو، ولم تعترض الولايات المتحدة على خرق إسرائيل هذا الاتفاق فيما يتعلق بالمسؤولية الأمنية الحصرية للسلطة الفلسطينية في مناطق "ألف"، بل لامت السلطة الفلسطينية على عدم قيامها بهذه المهمة بالإنابة عن إسرائيل.
ومن الملاحظ، هنا، كما في السبب المشار إليه لمناهضة الولايات المتحدة إعادة إسرائيل احتلال قطاع عزة، أنهم دائماً يستخدمون عبارة "طموحات الفلسطينيين" وليس عبارة "حقوق الفلسطينيين"؛ أي أنهم لا يعترفون بمبدأ حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني القابل للترجمة لأكثر من ترتيب سياسي، بما في ذلك دولة مستقلة ذات سيادة.
إن إسرائيل تعرف بأنه لا يمكنها الاعتماد على أي قوة فلسطينية قد يجري تدريبها خصيصاً لحفظ "الأمن" بموجب الرؤية الأميركية، إن وُجد مَنْ يقبل بهذه المهمة. وسيستمر جيش الاحتلال في القيام بهذا الدور لفترة غير محددة، ربما لسنوات عدة قادمة، ولا سيما أن نتنياهو أعلن أن غزة ستكون منزوعة من السلاح، وغزة مليئة بالأسلحة، أو يمكن الحصول عليها كما هو الحال في الضفة الغربية تحت الاحتلال. هذا عدا عن آلاف الشبان الذين استشهد أهل لهم، وأعزاء وأحباء وأصدقاء، وسيسعون إلى الانتقام بأشكال مختلفة.
ومن المرجح، أيضاً، أن تسعى إسرائيل إلى تهجير أكبر عدد ممكن من الغزيين الذين وصل عددهم كمهجرين إلى ما يقارب مليوني نسمة، والعمل جارٍ حالياً على إيجاد دول تقبل أن تستقبل مهجرين فلسطينيين ضمن برنامج "الهجرة الطوعية".
أمّا بخصوص المسار السياسي الذي تحدث عنه الرئيس بايدن أكثر من مرة، فلن يحدث أي تطور فيه في هذه السنة الانتخابية في الولايات المتحدة، وحتى لو تمكن بايدن من النجاح في الانتخابات، فمن غير الواضح أنه سيملك الإرادة السياسية اللازمة للدفع بقوة إزاء معارضة صهيونية ممكنة، وجعل الأمر أولوية له، وخصوصاً إذا بقي الموقف العربي الرسمي غير فاعل كما هو الآن. لكن، في المقابل، ستأخذ حملة المقاطعة وسحب الاستثمارات المعولمة فاعلية متجددة بفعل الجرائم المرتكبة في غزة، وسنجد أنفسنا في مرحلة جديدة من الصراع المفتوح غير المنتهي؛ جيل يذهب وجيل يأتي والقضية مستمرة.