بدو النقب وبئر السبع: مئة عام من السياسة والنضال
منصور النصاصرة
ترجمة ساندرا الأشهب
الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 2020. 520 صفحة.
يتناول منصور النصاصرة الجنوب الفلسطيني، وتحديداً النقب وبئر السبع، وذلك عبر بحث يجريه كابن للجنوب الفلسطيني. وتأتي هذه الأهمية تحدّياً لسرديات التهجير، وسياسات التهجير الاستعمارية، في مناطق فلسطين كلها من شمالها إلى جنوبها.
هذا الكتاب مكوّن من أحد عشر فصلاً تغطي امتداداً زمنياً من 100 عام، ويتحدث عن بدو النقب وبئر السبع، بدءاً بفترة الماضي العثماني وصولاً إلى الزمن الحاضر في الواقع الاستعماري الصهيوني. وقد حملت الفصول بحثاً ميدانياً واسعاً شمل أرشيفات متنوعة يتتبّع النصاصرة عبرها الأزمنة المتعددة والمتغيرة التي عايشها بدو النقب وبئر السبع، كما شمل مجموعة من المقابلات مع بدو الجنوب الفلسطيني، والبدو في الأردن الذين يحافظون على علاقات ممتدة ومتواصلة. وترافق ذلك مع إيراد النصاصرة مجموعة من الصور الفوتوغرافية والخرائط التي توضح توزيع أماكن عيش البدو في جنوب فلسطين، وكيفية تهجيرهم وخلخلة وجودهم العشائري بفعل الاستعمار البريطاني والصهيوني.
يتمحور الطرح المركزي عند النصاصرة على ضرورة إعادة كتابة قصة جنوب فلسطين - النقب وبئر السبع تحديداً - من خلال النظر إلى حياة أبناء هذا الجنوب البدو الذين يطلق عليهم النصاصرة تسمية "الأصلانيين" في تتبّع أصواتهم وقصص معيشتهم. وتكمن هذه المحاولة من خلال تحليل النصاصرة القوة بصفتها علاقة، أي أنها لا تُحسب مادياً بأدواتها العلنية في التفوق العسكري أو المؤسساتي المتجذر في ممارسة العنف الاستعماري فحسب، بل أيضاً من خلال تفصيلات الحياة اليومية لصمود البدو ونضالهم ضد مختلف السياسات الاستعمارية التي حاولت وما زالت أن تسلب الأرض منهم. ويأتي هذا عبر رؤية البدو كفاعلين ضد هذه السياسات، وأن الأرض ستبقى حية باسمها، وعبر ميكانيزمات المقاومة اليومية "المخفية" من خلال: التحايل؛ التفاوض؛ الرفض؛ عبور الحدود؛ العودة المستمرة؛ الذاكرة المتأصلة بتفصيلات الموت والحياة من أجل الأرض ولها.
يطرح النصاصرة في الفصل الأول إطاراً نظرياً وتحليلياً بشأن ما يصفه بالمقاومة والنضال عند بدو النقب، وتناقضات القوة بين البدو و"الدولة"، من خلال تحديد النظريات التي تلائم رؤيته إلى مقاومة البدو وتغيِّراتها منذ الحكم العثماني حتى اللحظة الراهنة. وهنا يستعين النصاصرة بتحليل جيمس سكوت عن المقاومة المخفية في تفصيلات الحياة اليومية، والتي يرى النصاصرة أنها ملائمة لوصف أنواع النضال والمقاومة التي عاشها ويعيشها بدو النقب وبئر السبع. كما يرتكز في تحليله لوضع البدو الراهن على مفهوم "الأصلانية القانونية"، وضرورة الإقرار بأن أرض الأصلانيين البدو يجب أن تمرّ عبر القوانين الدولية التي يرى فيها أساساً لمواجهة السلب الاستعماري.
وفي الفصل الثاني، يتنقل الكتاب عبر الأزمنة المبحوثة، وأولها سياسات العثمانيين تجاه البدو في جنوب فلسطين التي كانت تُعرف آنذاك بـ "بلاد غزة"، وكانت تُدار إمّا من غزة، وإمّا من القدس، بدءاً بالقرن السادس عشر حتى بداية القرن العشرين. ويشير النصاصرة إلى أن العلاقة بين البدو والعثمانيين كانت علاقة عدوانية بسبب المحاولات المستمرة لفرض السيطرة على البدو. وعلى الرغم من المحاولات كلها، فإن العثمانيين لم ينجحوا في ذلك، إذ كان البدو يرفضون أي تعاون مع المسؤولين العثمانيين إمّا عبر الاحتجاج المتواصل، وإمّا بعبور الحدود من شرق الأردن إلى سيناء. وقد استمر ذلك حتى سنة 1901 حين أنشأ العثمانيون مركزاً إدارياً في بئر السبع في محاولة لاستمالة البدو، من خلال تشغيلهم في الوظائف الحكومية داخل المؤسسة العثمانية، ومحاولة ربطهم بالمناطق الحضرية الأُخرى في فلسطين عبر إنشاء شبكة من الطرق والسكك الحديدية.
يتطرق النصاصرة في الفصل الثالث إلى السياسات الاستعمارية البريطانية تجاه جنوب فلسطين خلال الفترة 1917 - 1948، الأمر الذي استلزم عدة محاولات للسيطرة على غزة التي صارت حقاً، وإلى يومنا هذا، "مقبرة للغزاة"، وذلك تبعاً للأرشيف البريطاني، وخسائر الجيش الاستعماري البريطاني، ولاحقاً الصهيوني فيها. وقد ركّز الاستعمار البريطاني على مناطق الجنوب الفلسطيني باعتباره منطقة حدودية خطرة، وعزّز البُنية الخدماتية في بئر السبع، من خلال بناء الطرق وبناء المدارس، من أجل استمالة البدو هناك. وعلى الرغم من هذه المحاولات، فإن البدو رفضوا أن يتدخل البريطانيون بأي من شؤونهم الداخلية، أو بأي طلبات تتعلق بتسجيل أسلحتهم وتعدادها، أو بفرض أي قوانين على حركتهم بين الحدود. ويضاف إلى ذلك، ما يشير إليه نصاصرة بشأن مشاركة البدو في ثورة سنة 1936، ورفض سياسات الاستعمار البريطاني على فلسطين.
أمّا في الفصل الرابع وهو الأكثر زخماً، فيناقش المؤلف "مشروع الدولة اليهودية" بعد نكبة 1948، وتظهر فيه بشكل أساسي قضية الأرض التي يحاول الاستعمار الصهيوني، منذ اللحظة الأولى، سلبها من بدو الجنوب الفلسطيني. وهذه العملية لم تنفصل طبعاً عن قوانين الأراضي العثمانية التي عملت بها سلطات الاستعمار البريطاني، والتي استغلّتها الصهيونية بشكل مكثف لسلب الأرض وبناء المستعمرات عبر سرديات فحواها أن الجنوب خالٍ، وأنه أرض قاحلة لا يمكن أن الزرع فيها، وبالتالي لا يمكن أن يكون البدو مالكين لها، ولا سيما أن القوانين العثمانية للأراضي كانت تعتمد على فكرة زراعة الأرض وإحيائها من أجل تملُّكها. وفي هذه المرحلة، دخل بدو النقب وبئر السبع في معارك لإعلاء تثبيت الملكية، ومحاولة عرض وثائق متعددة من الفترة العثمانية وفترة الاستعمار البريطاني الانتدابية، غير أن المشروع الصهيوني الاستعماري قام في أساسه على فرض ادعاءاته وسياساته من أجل سلب أكبر قدر من الأرض.
وفي الفصل الخامس حتى الفصل التاسع يعرض النصاصرة المرحلة الأقسى على بدو النقب وبئر السبع، وهي فترة الحكم العسكري الصهيوني التي أظهرت تصاعد ممارسات البدو النضالية لكسر القوانين العسكرية، والتي ثبت فشلها في السيطرة على البدو، أو على تنقلهم بين الحدود، أو منعهم من التواصل الاجتماعي مع العشائر البدوية المحيطة بجنوب فلسطين. ويضاف إلى ذلك أن البدو استطاعوا خلق عدة ثغرات لممارسة اقتصاد التهريب، وإظهار ضعف "المسؤولين" الصهيونيين تجاه مجتمعات البدو، وقوانينهم الداخلية التي اتسمت بالصلابة، بحيث قاوم البدو يومياً للحفاظ على حياتهم وكينونتهم الاجتماعية من التدخلات الاستعمارية. وربما كان الأبرز في ذلك محاولة الاستعمار الصهيوني خلخلة العشائر البدوية وحصرها بهدف تسهيل السيطرة عليها، وقد جابه البدو هذا الأمر بمحاولات تعطيل عمليات الإحصاء والتعداد. كما تحدّى البدو الاستعمار الذي قلّل لهم مساحات الرعي والزراعة، فقابلوها بالرعي في أراضي المستعمرات على الرغم من المنع العسكري.
أمّا الفصل العاشر، فيتناول الفترة الأكثر جدَّة، من "اتفاق أوسلو" في سنة 1993 حتى مشروع برافر الاستيطاني التهجيري في سنة 2013، ويشير فيه النصاصرة إلى استمرار السياسات الاستعمارية الاستيطانية في جنوب فلسطين، وكيف استمرت أيضاً مقاومة الاستيطان، ومواصلة الاحتجاج، والتشكيلات السياسية التي انخرط فيها أبناء النقب وبئر السبع في مواجهة مستمرة حتى اليوم. وجاء الفصل الحادي عشر على شكل خاتمة تُجمل ما ورد في الكتاب.
ختاماً، يجب الإشارة هنا، وبعد تقدير هذا الجهد المعرفي الكبير عن بدو الجنوب الفلسطيني، إلى أن هذه القراءة المستفيضة أبقتنا عطشى لمعرفة المزيد عن فترات زمنية تناولها الكتاب باقتضاب، وتحديداً الفترة العثمانية، كما أنها لم تسعَ بما فيه الكفاية لتوضيح أن البدو هم مكون أساسي من الشعب الفلسطيني، وليسوا فئة منفصلة اجتماعياً عنه، وأن السياسات الاستعمارية عملت على إحداث هذا الفصل ثقافياً واجتماعياً وسياسياً. وتبعاً لذلك، ربما كان من المفيد إجراء قراءة طبقية للمجتمعات البدوية، وكيف تمكّن الاستعمار من إحداث هذا الفصل والإبقاء عليه بين البدو والمجتمعات الفلاحية والحضرية الأُخرى. وكذلك ربما كان من الضروري التشديد على حقيقة أن نمط حياة البدو ومجتمعاتهم كان يتركز أساساً على تحدِّي الخرائط الاستعمارية والحدودية الفاصلة، على الرغم من إشارة النصاصرة عدة مرات، وإن باقتضاب، إلى أن عدم قدرة الاستعمار على السيطرة على البدو إنما كان نتيجة عدم اهتمامهم بالحدود والقوانين العسكرية التي تمنع تنقّلهم. أمّا وضع البدو ضمن السياسات الصهيونية الراهنة، والتي يرى النصاصرة أن عليهم أن يحرصوا على أن يكونوا "قانونيين أكثر" في سعيهم لإعلاء "أصلانيتهم"، فأمر مثير للقلق، لأنه ينبع من الممارسة نفسها التي تفصل البدو عن شعبهم الفلسطيني، في حين لا يمكن أن يكون القانون ملاذاً ضمن كيانٍ لا - قانوني سيظل يحيل إلى أشكال "مواطنة" عازلة وتشتيتية ضمن الصِّنافيّات الاستعمارية لأهل البلد الأصليين.