Resistance Flood: Dichotomy of Colonial Brutality and the Palestinian Culture of Hope
Special Feature: 
Full text: 

توطئة

بعد 75 عاماً على الاستعمار الإحلالي الصهيوني يأتي "طوفان الأقصى" الهادر بما يفيض من معانٍ ودلالات دينية ووطنية على ما يمثله المسجد الأقصى في المخيال والوجدان والرمز والمعنى الفلسطيني – العربي، وكقدرة على شحذ المخيلة والمقاومة باعتبارها الخيار الوحيد، فيعود إلى الأذهان التساؤل البديهي الأول الذي غاب عن السياق الفلسطيني والعربي وهو: كيف نستعيد الحقّ الفلسطيني؟ وهو السؤال عن البدائل التي يمكن تبنّيها وتنفيذها كخيار جوهري يجيب عن الأسباب التي أدت إلى مأزق المشروع الوطني الذي جعل من الشعب الفلسطيني أسيراً لخيارات محصورة في نفق مظلم تحياه القضية الفلسطينية.

إن ما جرى في 7 تشرين أول / أكتوبر 2023، هو فتح مخيال جديد وكسر للصورة الواهية للقوة التي أراد الاستعمار تكريسها بمساهمة سافرة من الإمبريالية الغربية لتثبيتها في ذهنية العالم، وتكريس ثقافة الهزيمة في المحيط العربي وأنظمته التي فقدت شرعيتها الوطنية والقومية والأخلاقية. كانت تلك الصورة توهم بقوة "عظمى"، فالعدو الصهيوني خلق "لنفسه صورة القوة التي لا تُقهر، والسلاح المتفوق عدداً، والجندي المقاتل، والتكنولوجيا المتقدمة، والعلم الحديث..."[1]

هذه المواجهة تستدعي الفهم العلمي والعملي لماهية الاستعمار الإحلالي الصهيوني الذي نواجهه، وفهم قوته وخططه وبُنيته وتحالفاته، وبالتالي طرق التخلص منه. وبالقدر نفسه من الأهمية تتمترس الثقافة المقاومة في المواجهة، فتطوّر أدواتها وطرقها في سيرورة تتنامى فيها كمّياً بؤر المجموعات المقاومة في الضفة الغربية، وتتراكم نوعياً في قطاع غزة، وتضبط هذه الثقافة بوصلتها فيما تبقّى من "دول الطوق" وحركات المقاومة فيها. وهذا التناظر بين منعة ثقافة المقاومة وصلابتها وتنوّعها وصمود رجال المقاومة في الميدان، هو ما تحاول الدراسة سبره بين بأس اليأس الصهيوني وألم الأمل الفلسطيني. 

I- متلازمة البأس واليأس الاستعماري

يتم التعامل مع الصهيونية باعتبارها أبشع وأقصى درجات الاستعمار الإحلالي وأكثرها عنفاً ودموية، ومن السهل إيجاد تمثلات تغذّي العنف وتحضّ عليه في وعي الصهيونية وسلوكها الذي يقوم على "تحطيم العقل".[2] فالاستعمار الصهيوني يرى نفسه ضمن مقولات عدمية تقوم على نزع صفة الإنسانية وسلبها وتفريغ مخزون الكراهية والعدوانية تجاه الشعب الفلسطيني، وهذا منظور مستلّ من بُنية عالمية إمبريالية قائمة، من جهة، على عقدة تفوّق الرجل الأبيض من جانب، ومتكىء، من جهة أُخرى، على خطاب ينهل من أساطير دينية توراتية ورؤية قائمة على الأسطورة لتسويغ سلوكه من أجل صوغ وعي جمعي يستوعب فائض الاستكبار والاستعلاء على البشرية جمعاء.

وعليه، فإن المقولات العنصرية لدولة الكيان، والقائمة على هدر دماء الفلسطينيين، عن مملكة "النور أو الظلمات" والإيغال في دم الفلسطيني بصور فجّة، أو تعميم صورة الفلسطيني "خليل" العامل في "الكيبوتس"، والذي اتُّهم بتقديمه خريطة ديموغرافية للمقاومة في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 مثلما يدَّعون، من أجل الانتقام والثأر من جميع فلسطينيي قطاع غزة... هذه الصورة ليست طارئة أو محصورة في عملية المقاومة، وإنما متأصلة في الوعي الاستعماري منذ بداية مشروعه الصهيوني، ونجدها في المقولة المنسوبة إلى غولدا مئير: "لا يمكننا أن نصفح عن العرب لأنهم يجبرون أبناءنا على قتل أبنائهم." وبهذا تُرسم صورة للعربي باعتباره وحشاً وهمجياً يؤذي مشاعر "اليهودي المتحضر" لأنه يذكّره بحقيقته الدموية على الرغم من المجازر الفظيعة التي ارتكبها الكيان ضد الفلسطينيين والعرب. فهوس القوة لدى الكيان الصهيوني يتحول إلى لغة مقدسة وظلامية، إذ لا يوجد في هذا البلد مكان لشعبين، ويجب تدمير الفلسطينيين مثلما اقترح مناحم بيغن، ومن قبله زئيف جابوتنسكي صاحب عقيدة "الجدار الحديدي" الذي يؤمن بالمذابح وإقامة إسرائيل بالقوة والنار.[3] ومن أقوال هذا الأخير: "إن الاقتتال بالسيف ليس ابتكاراً ألمانياً، بل إنه ملك لأجدادنا الأوائل، وقد نزل علينا من السماء"،[4] بشحنة دينية متجسدة في مفهومهم على أنها حقيقة مقدسة تُفرض بالقوة والمذابح فقط. وما عملية "السيوف الحديدية" التي يشنّها الكيان الصهيوني على قطاع غزة حالياً إلّا أحد تجسيدات هذه العقيدة.

لا يختلف الأمر كثيراً لدى زعماء الكيان الصهيوني الحاليين. فبنيامين نتنياهو يعتبر نفسه تلميذ جابوتنسكي، ويجسّد رؤيته في علاقة الكيان بالفلسطينيين والعرب، ويموضع الصراع بين حلقة مستمرة بين الخير والشر مستنداً إلى مقاربة استشراقية هدفها استقطاب قوى الاستعمار الإمبريالي العالمي من فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة الأميركية. وقد تم ذلك في ظل مقارنات مكشوفة للعبور الفلسطيني بالمحرقة تارة، وأحداث 11 أيلول / سبتمبر 2001 تارة أُخرى، ونشر الأضاليل والكذب للموازاة بين حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وتنظيم "داعش" الإرهابي.

إن ما يجري في دولة إسرائيل من كشف عن بأس الاستعمار الإحلالي وهمجيته هو أحد تعبيرات العقيدة التوراتية الذي يرشح منه الشعور باليأس الذي وصل إليه الكيان في مقاومة الشعب الفلسطيني عبر الإبادة البيولوجية والإنسانية التي يبررها ضمن مقولة "الصراع الديني". ولعل هذا هو أحد أسباب تراجع "الهوية العلمانية" الإسرائيلية في مقابل تضخّم "الهوية الدينية" كتعبير عن فائض القوة والعنف تجاه الفلسطينيين. وقد وجد بنيامين نتنياهو في الصهيونية الدينية واليهود الشرقيين أداة لتحقيق التخلص من الفلسطينيين في غزة عبر الإبادة أو التهجير نحو سيناء، أو التهجير لفلسطينيي الضفة الغربية إلى الأردن. كيف لا وهو يقدم نفسه كمخلص للشعب اليهودي، ويرى أن الوجود الفلسطيني بحد ذاته هو خطر على الوجود اليهودي في فلسطين،[5] ولهذا يُفترض التخلص منهم باعتبارهم عابرين.

وبالمنطق نفسه، يمكن النظر إلى تصريحات وزير التراث الصهيوني عميخاي إلياهو عن خيار قصف قطاع غزة بالسلاح النووي. فهو لم يُعِر الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة أي اهتمام، وإنما كانت تصريحاته تجسيداً لـ "توجيه هنيبعل" في العقيدة العسكرية الصهيونية الذي يحيل إلى متلازمة البأس واليأس إلى حدّ الانتحار أو التضحية بالأسرى. ويقابل ذلك أيضاً خيار القتل والتهجير لسكان قطاع غزة باعتباره "الحل الوحيد والصحيح لهم وللمنطقة" على حدّ تعبير وزير المالية بتسلئيل سموتريتش.

إن تذخير الوعي الجمعي الصهيوني بمثل تلك المقولات التوراتية يهدف إلى إيجاد مسوغات للإبادة والقتل والاستعباد للفلسطينيين، وتعذيب الأسرى الفلسطينيين وامتهان كرامتهم، وهدم البيوت وقصف المستشفيات والجوامع والمدارس وتشريد الفلسطينيين من أرضهم... ضمن حالة استعمارية "ذات شحنة عنصرية مثقلة" بالإرهاب.[6] وما الاعتزاز بسفر يوشع بن نون، والقصة شمشون، والعقيدة الانتحارية لـ "مسّادا"، ونبوءة إشعيا في النصر، إلّا أساطير لتغذية الوعي الجمعي البائس واليائس في المخيال الشعبي والسياسي في أثناء ممارسة طقوس القتل والدم في إحراق غزة ونابلس وجنين.

إن استدعاء البطولة في قصة شمشون ويوشع بن نون وأسطورة "مسّادا"، باعتبارها استراتيجيا وتكتيكاً لإضفاء الشرعية على المصالح الجماعية الحالية من خلال استدعاء بطولات ماضوية وأسطورية، إنما غايته تأطير مظهر إسرائيل وصورتها وتفوقها في المخيال الصهيوني أمام التحدي والصمود الفلسطيني المنقطع النظير، تعززها عقيدة صهيونية إعلامية تقول: "اسكتوا فنحن نطلق النار." ولعل هذا ما يفسر نوبات الثأر والانتقام والترويع للفلسطينيين في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، كحالة تستدعي الاستنفار الداخلي في إسرائيل لزعزعة صورتها و"جبروتها في المنطقة"، والخارجي من حيث الدعم العسكري الإمبريالي، ممثلاً في البوارج والآليات العسكرية الأميركية التي حشدتها في المنطقة.[7]

تبدو خرافة شمشون أبعد من الناحية العسكرية الممارسة حالياً، كون الإسرائيليين ينظرون إلى ذواتهم على أنهم ضحايا المحرقة، وأبعد من السياسي للتفريق بين العدو والصديق في مملكة "النور والظلمات" بهدف إنتاج العنف الدموي الذي يعكس "إسرائيل كحالة متطرفة من العسكرة"، فهي في حالتها الصهيونية، "تمثّل إمكانية إسرائيلية معاصرة لقتل ارتجاعي"[8] للأنا اليهودية، وبصورة دموية أفظع من شقيقتها النازية من حيث عدم الاعتراف بالفلسطيني، والذي يعكس أكثر الأنا السلبية للشخصية التي تهدم المعبد على نفسها، وعلى الفلسطينيين مثلما جاء في قصة شمشون. فالنموذج البطولي لعملية "التعافي الذاتي" لا يتضمن نموذجاً إيجابياً فقط، لأنه يوجه الانتباه بشكل أساسي إلى آفاق وعواقب الفشل لنموذج اليأس الذي يتجسد في خرافة "مسّادا"، والذي يفضي إلى الفشل باختيار الانتحار الجماعي بدلاً من الخضوع، أو عبر "توجيه هنيبعل" الذي يسمح بالقضاء على الإسرائيليين إن اقتضى الأمر في حال تم أسرهم، ليموت "اليهودي" بكرامة عبر قصفه مع الفلسطينيين في قطاع غزة؛ هذا التوجيه الذي بقيت تفصيلاته سرية حتى الآن، لأنه يتعامل مع مسألة خطف الجنود باعتبارها تهديداً استراتيجياً لدولة الكيان كونه يتطلب دفع ثمن باهظ، فتكون المعادلة: جندي ميت خير من جندي أسير.

إن متلازمة البأس واليأس للاستعمار الصهيوني الإحلالي ثبتت هشاشتها منذ اليوم الأول للحرب، وفي بعض التمظهرات في الأيام التالية. ومن هنا، يمكن فهم النزوع إلى اختلاق الأكاذيب والتضليل الإعلامي ضد الفلسطينيين والمقاومة في قطاع غزة، أو أخذ صورة باهتة في مقر المجلس التشريعي أو مركز الشفاء في غزة، أو عند بوابة مدخل مخيم جنين، وتدميرها لاحقاً، أو رفع علم إسرائيل على مئذنة مسجد في الضفة الغربية، أو على منزل صالح العاروري وهدمه لاحقاً، أو محاولة النيل من كرامة الأسرى الفلسطينيين، أو تكريس عقيدة الخوف والصدمة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو الترهيب القانوني في القدس وفلسطين 1948... فهذه كلها تعبّر عن يأس هذه المنظومة الذي سيقود بالضرورة إلى انتحارها وموتها.

بعد فتور البروباغندا الصهيونية في الغرب وإفراغ معظم سمومها المضللة على الفلسطيني، والتراجع الجزئي في مواقف الدول الغربية نتيجة الضغط الشعبي فيها المستند إلى وضوح صورة الدم الفلسطيني من قتل للأطفال والمدنيين والمسعفين والأطباء واستهداف المستشفيات والجوامع والمدارس والجامعات والبُنى المؤسساتية... فإن إسرائيل لا تزال قادرة على الحديث عن الإنسانية والأخلاق! ويتبجح يوآف غالانت وزير الحرب بالقول: أريد أن أسأل بعض زعماء العالم من أين لكم هذه القوة لتقدموا لنا الأخلاق فيما يتعلق بالقتال؟! كأنه يذكّرهم كيف تجرؤون على ذلك وتاريخكم مكتوب بالدماء والقتل؟

نتيجة الشعور بالخطر من المقاومة، والخشية من توقف الدعم والتأييد الغربي، يتساءل قادة الكيان بشأن البلادة تجاههم، ويزعمون أن هذه الحرب هي "حرب الاستقلال الثانية"، على حد تعبير بنيامين نتنياهو، كأن دولة الاستعمار تستشعر التهديد وتلك المساومة على الاستقلال[9] الذي حاولت نيله بالدم والنار. وإسرائيل بهذا تكرّس نزعتها الانتحارية التي تحاول جذب حلفائها إليها، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، مذكرة الجميع بقصة الدب الذي قتل صاحبه، إن هي نجحت في جرّ الولايات المتحدة الأميركية إلى حرب إقليمية تحرق الأخضر واليابس. 

II- عقيدة الصدمة: هندسة ثقافة الهزيمة

"لا يبدو بالنسبة لي أنها حرب جديدة. شعورياً عشت هذا. حرب 2014 كانت علامة فارقة، ثم مضى كل شيء إلى حيث بدأ هناك، عندما كانت القذائف العشوائية تضرب بيوتنا في كل ثانية، وعندما كنا نتحاشى أن ندوس على جثث جيراننا الملقاة في الشوارع ونحن نركض ونتدافع. لا يبدو هذا جديداً، آلة القتل هي نفسها، والمشهد الهمجي أيضاً. عشت الحروب هنا جميعها، والمشترك في كل مرة أنه لا يوجد ولا متر واحد يمكن أن ينجي من فكرة أن الطيار أراد أن يقتلك."[10] جاء ذلك في منشور وتعليق أنيس غنيمة على العدوان الذي اختبره قطاع غزة في تموز / يوليو 2014، ويختبره حتى الآن منذ 7 تشرين الأول / أكتوبر2023، والمشهد نفسه يتكرر على مدار الساعة، باستثناء سبعة أيام من الهدنة لتبادل الأسرى. المشاهد نفسها، ومصادر السلاح نفسها، والمتواطئين أنفسهم، والقتلة ذاتهم من نسل القاتل مايكل غالانت وآخرين في التطهير العرقي في سنة 1948، والذي جاء إلى فلسطين مستعمراً من أوروبا على متن سفينة "إكسودس: الخروج"، وخدم في وحدة "ثعالب شمشون"، ووُلد ابنه يوآف مايكل غالانت وزير الحرب الحالي الذي سمّاه أبوه تيمناً بالعملية البشعة "يوآف"، ولا يزال الدم الفلسطيني ينزف منذ قرابة 75 عاماً على النكبة والمقاومة.

ما بين مجزرة عملية "يوآف" ضد قرية الدوايمة التي حدثت بين تشرين الأول / أكتوبر وتشرين الثاني / نوفمبر 1948، والعدوان الحالي المستمر منذ بداية تشرين الأول / أكتوبر حتى كانون الأول / ديسمبر 2023 ضد قطاع غزة باسم "السيوف الحديدية"، ثمة 75 عاماً تقريباً من التطهير للفلسطينيين والسعي لتهجيرهم، كأن خطة دافيد بن - غوريون ما زالت في قيد العمل والتنفيذ، حين قال إن "هناك خياراً واحداً فقط متبقياً أمام عرب أرض إسرائيل [فلسطين] – هو أن يفروا بعيداً"، وإن العمل هو أن يكون المكان "نظيفاً وخالياً"[11] من الفلسطينيين، عبر القتل المروع والثأر والانتقام والردع النفسي والمادي، واستباحة دم الأطفال والنساء والشيوخ والرجال، وفرض الخناق والتجويع وبثّ الرعب في صفوف الفلسطينيين، لجعل المكان الفلسطيني غير قابل للحياة وغير ملائم للعودة إليه بعد تدمير بُنيته المادية: من منازل ومؤسسات اجتماعية ودينية وصحية.

لقد تبنّى الكيان الصهيوني كثيراً من تلك السياسات ضد الشعب الفلسطيني، وخصوصاً القوة الساحقة ومحاولة استهداف الأمن النفسي والاجتماعي عبر التدمير الهائل للجامعات والمستشفيات والجوامع، والبيوت والمجمعات والأبراج السكانية، والمخابز والمطاحن، وفرض حصار شامل وخانق ممثل في تصريح يوآف غالانت في بداية عدوان تشرين الأول / أكتوبر 2023، حين قال: "لا كهرباء ولا طعام ولا ماء ولا وقود (سيصل للقطاع)"[12] ولا اتصالات. أي، لا حياة للفلسطيني بعد اليوم في قطاع غزة، أو عبر سياسات الاغتيالات والهدم والإغلاق المطبق التي تحدث في الضفة الغربية، في محاولة لإضعاف الروح المعنوية ومحاصرة المقاومة بهدف تحطيم العالم المألوف للمجتمع، ونشر إشاعات يتم تفنيدها بالصوت والصورة والمنشورات والفيديوهات المصورة، وهي إشاعات يحاول الاستعمار من خلالها النيل من عزيمة المجتمع ومِنعته عبر سياسات التعسف الاستعماري الإحلالي.

إن حرب المدن فن لا تتقنه قوات الاستعمار الإحلالي، ولهذا كان لا بد من تدمير هائل لقطاع غزة عبر دكّها لأكثر من 20 يوماً بشكل متواصل قبل الدخول البري في مناطق شمال قطاع غزة ووسطه على وجه التحديد، واستئناف التدمير خلال الاجتياح وبعد أيام الهدنة السبعة. والاحتلال يفعل ذلك ليقول إن فلسطين كمستعمرة لا تليق إلّا بـ "قاتل مستنير"، وأن ثمة حتمية للتخلص من الفائض الفلسطيني لأنه أصبح داء سياسياً يستوجب استخدام مزيد من القوة الساحقة والعرض المذهل للقوة والتوغل بالنار عبر الآليات الحربية والمجنزرات المسنودة بنيران الطائرات الحربية التي تدكّ وتقصف للتنظيف أمامها، من أجل شلّ تصور المجتمع لنفسه، وتدمير إرادة المقاومة عن القتال، أو لخفض التوقعات في المفاوضات بشأن الأسرى الصهيونيين وتصنيفاتهم المتنوعة التي تجري تحت القصف والنار والدم، ولتقديم تنازلات كبديل من فشل الحلول العسكرية "الذكية" التي تستخدم عقيدة الصدمة والرعب الأميركية، عبر الرهان على سرعة انهيار معنويات المجتمع.[13]

فهدف العدوان هو دفع مليون فلسطيني بقوة النار والدمار الهائل إلى الإجلاء من منطقة شمال القطاع والنزوح إلى الجانب الجنوبي للتجمع فيه، مع تركهم من دون يقين من إمكان عودتهم إلى منازلهم التي دُمرت بشكل كامل أو جزئي. وهذه الحرب النفسية التي تخلق نوعاً من اللايقين لدى الفلسطينيين،[14] قد تغلق أمامهم الأمل، وتحاصر قيادة المقاومة التي يسعى لها الاستعمار، في محاولة لإخضاعها على تقديم تنازلات وسقف سياسي يرفع شعار "مرحلة ما بعد حماس"، كخطاب جازم عن نتيجة يتمنون تحقيقها.

مع بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وإعلان "الطاقم الوزاري المصغر" لدولة الكيان حالة الحرب بموجب القانون الأساسي بتاريخ 8 تشرين الأول / أكتوبر 2023، إلى جانب الهجمة العسكرية والحربية والإعلامية ضد القطاع، مورست انتهاكات وامتهانات للإنسان الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس وفلسطين 1948 والسجون، من حيث تضييق مساحات التعبير الاحتجاجي، أكان على صعيد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، أم الاحتجاجات الميدانية التي تساند قطاع غزة والمقاومة، فأقرّت اللجنة القانونية والدستور في الكنيست الإسرائيلي قانوناً يفرض عقوبة لعامٍ فعلي على مَن يثبت استهلاكه بشكل منهجي مقاطع فيديو للمقاومة أو يمدحها، كجزء من سياسة الحملات الترويعية والترهيبية، وإجراء الاعتقالات التعسفية مترافقة مع استخدام أشد أشكال الإهانات والضرب والتنكيل، وصلت إلى حد تصفية معتقلين فلسطينيين في السجن، أكانوا معتقلين جدداً أم قدامى، وذلك جرّاء الضرب المبرح، من أجل تقويض رأي عام مساند للمقاومة عبر الفضاء الرقمي أو الميداني في الضفة الغربية، كأنها حالة تستعيد الحكم العسكري في الأربعينيات والستينيات، علاوة على تنامي الاعتقالات الإدارية للآلاف من الشباب والناشطين وطلبة الجامعات الفلسطينية في بيرزيت وبيت لحم والخليل، في سبيل تعميق الخوف وهيمنته على المشهد الفلسطيني لخلق حالة فزع ورهبة، وشكل آخر من اللايقين أيضاً.

وإذا لم تؤثر في الفلسطيني تلك السياسة، فعندها يُفترض العمل على التخلص منه، وإلّا فما معنى دعوة سموتريتش في آذار / مارس 2023 الماضي، والتي قال فيها: " 'أعتقد أن قرية حوارة يجب أن تُمحى، وأن على دولة إسرائيل القيام بذلك'، مضيفاً أنه لا ينبغي أن يقوم مواطنون عاديون بذلك"،[15] وهي دعوة لاقت استحساناً من ميليشيات المستعمرين بالحرق والاعتداء على المحلات والبيوت الواقعة في شارع حوارة والقرى المجاورة مثلما حدث في قرية ترمسعيا، وكذلك بالعنف المفرط الذي يقوم به المتطرف والإرهابي إيتمار بن غفير وزير "الأمن القومي" تجاه الأسرى منذ توليه الحقيبة الوزارية، والتضييقات والإهانات للأسرى الفلسطينيين التي تضاعفت بعد عملية 7 تشرين الأول / أكتوبر، فضلاً عن الانتهاكات لساحات المسجد الأقصى وباحاته، والتي كانت أحد أهم الأسباب لعملية طوفان الأقصى.

إن استمرار الفلسطيني بصفته جماعة قومية مرتبطة بالوطن والمكان والقضية يشكل عائقاً أمام تنفيذ خطط الاستيلاء على الأرض الفلسطينية، من محاولات إخلاء لشمال قطاع غزة، والتي يواجهها الغزّي بالبقاء والصمود والمقاومة فيه، أو الأطماع المعلنة بالسيطرة والضم للأرض الفلسطينية في مناطق الضفة الغربية، والتي توّجتها حكومة الاستعمار بتعيين أحد أعضاء "الكنيست" مسؤولية إدارة مناطقها تحت مسمى "يهودا والسامرة"، فضلاً عن ممارسة أقصى درجات الملاحقة القانونية والبوليسية للناشطين في أراضي 1948، إلى حدّ أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو صرّح قائلاً إن مَن سيدير قطاع غزة بعد الحرب يجب ألّا يدعو إلى العنف، وإن على المناهج التعليمية أن تنسجم مع الرؤية الصهيونية في تحقيق الأمن. وبدا هذا التصريح كأنه دعوة متجددة إلى فرض الاستسلام على الفلسطيني، عبر هندسة اجتماعية بالبارود والقوة العسكرية والصدمة.

هذه السياسة ليست بجديدة، فقد كرستها منظومة اتفاق أوسلو في سنة 1993، وتسلُّلُ خطاب الاستسلام إلى الحقل السياسي الفلسطيني، اللذان شجعا نخباً سياسية واقتصادية واجتماعية على التساوق مع الواقعية السياسية، وتسببا بتكاثر نخب اقتصادية لا تتناقض مصالحها الاقتصادية والاجتماعية مع السياق الاستعماري، ما دامت البنوك والقروض[16] تدرّ عليها مزيداً من الأرباح والمنفعة، بل زاد تأثيرها ونفوذها في وقتنا الحالي، مترافقة مع سيادة وهيمنة ثقافة الحياة الاعتيادية لطبقة وسيطة اجتماعية وأكاديمية كرست التطبيع المجتمعي،[17] والعقلانية المفرطة. وتورُّم هذه الطبقة الوسيطة دعم استمرارية منظومة أوسلو وديمومتها وثقافتها كي تحافظ على استقرارها ومنجزاتها ومكانتها الاجتماعية، عبر أدائها الدور الوسيط في الحقل السياسي والثقافي والاجتماعي، مصحوباً بثقافة الخوف من المواجهة والنضال على الصعيد السياسي، ومكرسةً ثقافة الهزيمة على الصعيد الوطني، مع غياب واضح وفاضح لدورها في المواجهة الوطنية الحالية.

تعيش هذه الطبقة الوسيطة والمسلوبة دوراً سلبياً، فهي سليمة العقل لكنها مستلبة الإرادة والفعل والوعي، لأنها ترضى أن تعيش في عالم ووجود فلسطيني ضمن قواعد الاستعمار الذي يستدعي الاستسلام كسلوك من العقلانية. كما أنها تفتقد الأدوات الثقافية الوطنية التي تجعلها فاعلة ومؤثرة، لأنها خلقت القطيعة بينها وبين شعبها عبر مفردات ومفاهيم الخلاص الفردي المستوردة من الغرب، وأصبح دورها لا يتعدى قطعة في ماكينة إنتاج عقدة النقص في روح مجتمعها وتثبيطه،[18] فكيف تساهم في الخلاص الجمعي والوطني وهي لا تتسلح إلّا بثقافة الهزيمة والفردانية المفرطة؟

والحال هي نفسها على الصعيد الرسمي الفلسطيني الذي تمظهر بغياب تام لرئيس السلطة الفلسطينية عمّا يجري من تحديات وجودية للشعب الفلسطيني، وبظهور رئيس الحكومة الفلسطينية وناطقه الإعلامي بعد أكثر من شهر على العدوان في مشهد مملوء بالدموع. وإذا كان لنا أن نموضع هذا الأمر في هذا السياق، فإنه لن يكون أكثر من رسالة عجز ووهن وقلة حيلة، واستجرار للحزن كثقافة وصلت إلى حد البلاء، فهذه الثقافة أيضاً غير قادرة على الإبداع والتحدي، لأنها قيادات ونخب وطبقات وسيطة أصبحت صنيعة التفكير الواقعي الذي أنتجته الهزائم العسكرية، "أو ربما تحت تأثير 'القناعات الأيديولوجية' لدى البعض الآخر التي كانت نظّرت للتعايش والتصالح والسلام."[19] وكان ذلك واضحاً بعد معركة سيف القدس في أيار / مايو 2021، والتي أبدت فيها القيادة الفلسطينية الرسمية - الهرمة في السلطة وفصائل منظمة التحرير - رضاها عن الاستمرار في القيام بدورها المدني والتنسيقي والجهوي في ظل انسداد وفشل المسار السياسي بشكل واضح، مثلما هو دورها وموقفها من العدوان على قطاع غزة في تشرين الأول / أكتوبر 2023 بشكل فاضح. وعلى النقيض من ذلك، كان هنالك دور وحضور للجماهير الفلسطينية منذ معركة أيار / مايو 2021، تنتظر وتتلمس قيادات جريئة وفاعلة وقادرة على تصويب بوصلتها نحو التحرير، وتجاوز ثقافة الهزيمة والخوف والاستسلام. وكي يتحقق ذلك، فإنه لا بد من تجاوز مفاعيل تلك الثقافة وخالقيها وقواها، والانطلاق نحو طوفان المقاومة وثقافة الأمل. 

III- ثقافة المقاومة وانبعاث الأمل من جديد

ليس من المبالغة القول إن صمود المثقف في مواجهة ثقافة الهزيمة لا يقل أهمية عن صمود المقاتلين، ولهذا قيل إن المثقف أول مَن يشتبك وآخر مَن ينكسر، على اعتبار أن المقاومة الثقافية وثقافة المقاومة هما متطلبان أساسيان ومتلازمان في معركة الوجود الفلسطيني، لأن معركتنا ثقافية بامتياز. وبما أن الاستعمار الصهيوني الإحلالي "في حقيقته وجوهره هو عملية ثقافية، فالمعرفة هي جوهر السلطة، والاحتلال باعتباره سلطة هو في الأساس عملية ثقافية ومعرفية أكثر ممّا هي عسكرية [....] ومن ثم فإن مقاومة الاحتلال والهيمنة هي في الأساس عملية ثقافية مضادة."[20] وعليه، فإن المقاومة هي التي تحدد مصير المعركة عبر استمرار الفعل القتالي والإرادة، ومن خلال تسلح المقاوم بثقافة المقاومة وجدواها التي تشكّل وعي وسلوك وخيارات المقاومين والمجتمع.

وإذا تنبّهنا إلى معنى المقاومة من الناحية اللغوية، فإننا نجد: المواجهة، ومقاومة الإغواء والظلم والحاكم المستبد والطغيان والعدوان، والهجوم والتهذيب وتعديل الاعوجاج، والنهوض، والقيامة كانبعاث من الموت، أو انبعاث جديد من الموت السياسي والاجتماعي لدور الفعل والعمل النضالي. ولهذا، من غير المستغرب أن القيادة الوطنية الموحدة في الانتفاضة الشعبية في سنة 1987 استخدمت اختصار "قاوم" لبرنامجها الوطني وعقيدتها. وعليه، فإن المقاومة ليست صرعة فكرية أو رياضة ذهنية، ولا ردة فعل وجدانية، بقدر ما هي مشروع متأصل وخطاب متنقل بصورة جذمورية في المسلكيات المتجذرة نحو تحرير الأرض والإنسان.

ثقافة المقاومة هي وعي رؤية وخطاب شعبي ونخبوي بجميع أبعادها في السياسة والكفاح، وفي ميادين الثقافة والاجتماع والإعلام، وهي تقويم للضمير الحي والجمعي، وليست مرتبطة بمجموعة مقاتلة وإنما بمجتمع المقاومة بما يعنيه من استمرارية ودوام. فقد تكون المقاومة العسكرية ظرفية، أمّا مجتمع المقاومة فهو تعبير عن تمثّلات ثقافة المقاومة وخياراتها، فالمقاومة ليست غاية، وإنما هي سيرورة حياة في السياق الاستعماري، تعمل على إشباع حاجات المجتمع وتحقيق أهدافه في الاستقلال والكرامة والحرية.

واقع هذا النوع من الثقافة هو أنها "لا تصدر عن 'الأنا' [الفلسطينية] من حيث هي صاحبة حق، ولا عن 'الآخر' كمحتل للأرض بالسلاح، وإنما تصدر عن التعامل النقدي مع أشكال الصراع المستمر بينهما، والذي يستلزم مراجعات نقدية دورية. والمراجعة الثقافية المطلوبة فلسطينياً، قوامها تحديد إمكانات الطرفين 'المتصارعين' من دون أوهام، أو مقايسات ماضوية، أو 'محاكاة وهمية'، تُبقي الأول في مكانه، ولا تأتي إلّا بخيبة جديدة في حال 'الاحتكام إلى السلاح' بمعزل عن السياق وعناصره."[21] وهذه الثقافة تراجع المسار السياسي وتحاسبه، وتقيّم الآخر وخططه ورؤيته. وبناء على هذا كله، تنبع أهمية عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 من كونها جاءت من باطن خيال المستحيل، وتجاوزت معنى الهزيمة، هزيمة المسار السياسي الذليل.

هذا الخيال بدأت فتيلته تشتعل وتتشكل في معركة "سيف القدس" في أيار / مايو 2021، من حيث استعادة المكان الفلسطيني في معركة القدس، وثلاثية الصمود (باب العمود وحي الشيخ جرّاح وساحات المسجد الأقصى) في تناوبية مقدسة أعادت إلى المكان قدسيته، وإلى الفعل الفلسطيني معناه الوطني وهويته. وقد تدحرجت المعركة التي حملت اسم "هبّة الكرامة" واتسعت إلى جميع الأمكنة في فلسطين الانتدابية، وتُوّجت بدخول المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة بقوة "سيف القدس" للدفاع عن القدس والمقدسيين. وقد استُشعر في خضم المعركة انبعاث جديد للفلسطيني بعدما وقع في مصيدة الخوف والهزيمة، وكان الوعي الجماهيري يستدعي الفعل ويجسّده بالسياسة والإعلام والمقاومة، كما أن المسيرات الجماهيرية العربية والفلسطينية في اتجاه الحدود من لبنان والأردن وسورية، أعطته بُعداً عربياً في تكاملية وظيفية لأدوات تعكس التنوع الثقافي والسياسي. لقد كان سيناريو التحرير ماثلاً في العلن. وعلى الرغم من خذلان المستوى السياسي الرسمي، فإن جنيناً جديداً بدأ يتشكل في جنين ونابلس وأريحا وطولكرم ورام الله والقدس وبيت لحم والخليل، متجاوزاً مخاضاً يراد إجهاضه، فكان 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 موعد ميلاد المقاوم الذي يحتكم إلى السلاح.

إن ثقافة الخوف والهزيمة والاستسلام هي ظاهرة عابرة وغير قادرة على فتح خيارات ومسارات وآفاق جديدة في التاريخ، نظراً إلى افتقادها الخيال وابتلائها بالانسداد السياسي، بينما ثقافة المقاومة تشحذ المخيلة الوطنية بإمكان الصمود والنصر والتحرير. وهذا الوعي بالممكن التاريخي الذي تصنعه المقاومة في فلسطين وتحققه في قطاع غزة، لم نكن نحلم به، لكنه تجسد كحقيقة لإرادة المقاومة الصلبة التي جعلت من المستحيل واقعة اجتماعية وحقيقة سياسية. وهنا، تشكلت صورة جديدة للفلسطيني وإمكاناته بمقاومته التي "هي العرض التاريخي، الحدث الذي يفجر طاقات الشعوب، وتصحح مسار التاريخ، والضرورة التي تستثير خيارات الشعوب فتختار بدائل أُخرى غير التي فرضتها الإرادات الخارجية وقوى التسلط الداخلي والقهر الخارجي."[22]

إن الصراع بين الصهيوني والفلسطيني هو صراع بين مجتمع متسلط وعدواني رسم لنفسه صورة التفوق، ومجتمع مقاوم يطلب حريته ويستعيد صورته الإنسانية بعيداً عن تشكيلها ضمن موازين القوى في ذهنية الصهيوني أولاً، والغربي الإمبريالي ثانياً. إنه صراع بين ذهنيتين، وإنسانين، وصورتين، ومنظومتين من الأخلاق. ففي ثقافة المقاومة ومجتمع المقاومة يُنتَج الفلسطيني ويعاد إنتاجه في صورة تملك القدرة على التخطيط والإشغال والمناورة والتفاوض وتوظيف التكنولوجيا والإعلام لتشكيل صورة فاعلة وإنسانية مثلما تجسّدها شخصية "الملثّم" أبو عبيدة الناطق باسم "كتائب عز الدين القسّام"، كمثال وقدوة ثقافية في المقاومة، وكقيمة صادقة في إعلان الإنجازات الميدانية والخطوط السياسية وحدودها وخياراتها المفتوحة.

يستعيد الفلسطيني عافيته النفسية بالمعنى الذي ذهب إليه فرانز فانون عبر العنف الثوري لاستعادة اتزانه الذهني والمعرفي والانفعالي، وليشكل "صدمة مضادة" للاستعمار الصهيوني الذي فقد اتزانه وصورته في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، أمام قدرات الفلسطيني القتالية في الميدان. فمنذ صبيحة ذلك السبت والمقاومون يوجّهون إلى العدو "صفعة مضادة" في غزة بصورة خاصة، وفي مخيمات الضفة، وفي شمال فلسطين على الحدود اللبنانية بصورة عامة. فكعب أخيل الذي كشفت عنه المقاومة في بُنية العدو العسكرية والثقافية، أتاح تحقيق بعض الإنجازات والانتصارات، وحاصر السلبيات والبكائيات محوّلاً إياها إلى غضب مقاوم مسلح بالأمل بنيل الكرامة والحرية والتحرير. 

IV- من ولادة الجنين إلى استشهاد المقاتل في غزة

يواجه الفلسطيني الإخفاق السياسي لأداء السلطة الفلسطينية مرة تلو الأُخرى، بأزمات اجتماعية – اقتصادية - سياسية مركّبة يمكن وسمها بحالة من "الانطفاء السياسي" مثلما وصفها فيصل درّاج، وبأزمة ثلاثية الأبعاد في "الوجود، والمعنى، والحرية" مثلما رآها إلياس خوري. ونضيف هنا إلى الصورة المتخيلة عن الفلسطيني السواد الذي خيّم على المشهد من انعدام البدائل بعد محاصرة نتائج هبّة أيار / مايو 2021، وإجهاضها شكلاً ومضموناً، وكيف أن كثيرين ممَّن يعولون على أهمية إيجاد مخرج للأزمة التي وصلت إليها القضية الفلسطينية كانوا يبحثون عن ضوء مبشّر في هذا النفق وهم متسلّحون بالأمل، بينما الأمل الأبرز هو المقاومة التي كانت تجسدها مخيمات جنين ونابلس وطولكرم والقدس وأريحا باعتبارها أنوية صلبة لمستقبل واعد في الفعل والأفق الجديدَين للقضية الفلسطينية التي ينمو الأمل فيها، وتتراكم الخبرات والقدرات. ولهذا، يمكن أن يُفهم الأمل ليس بالمستوى التعييني في المكان، وإنما بالمعنيَين الحرفي والمجازي للكلمة باعتبار "أن فلسطين يتشكّل في داخلها 'جنين' الحياة الجديدة، 'جنين' ولادة جديدة، 'جنين' وطن جديد"، والجواب الأكثر بلاغة هو: "يجب أن تتوقف النكبة [المستمرة] ليصبح الشعار الأساسي هو المقاومة المستمرة."[23]

شهدت الضفة الغربية اختبار حراك متنامٍ، وأنشطة اجتماعية ووطنية متنوعة، وأعمال مقاومة وُصفت "بالفردية" التي تتموضع في غايتها الجمعية، وكان من أبرزها العمليات الفدائية والجريئة في القدس بالقرب من مخيم شعفاط، ومستعمرة "تل أبيب" والمناطق المحيطة بها. هذه الأعمال كانت تُنبىء بانفجار مقبل يعبّر عن امتلاء كأس الاستياء العام من السياسة والاجتماع وفشل "المشروع الوطني"، وكان الجزء الأكبر ممّن أقدموا على تلك العمليات هو من جنين ومخيمها، ومن القدس من مخيم شعفاط، كأن الشهداء يتناسلون من المخيم[24] الذي يحتضن التمرد واللجوء والوطن والأمل، وكأنهم يتناسلون ويستنبتون فيه كزعتر برّي، ويدافعون عن المخيم وفكرته وصورته التي تستدعي التضحية كنبتة صبّار. وإننا إذ نعلّي من شأن المخيم، ليس بمكانه فقط بل بمكانته أيضاً، من حيث صور النضال والمعنى والألم والتضحية، فإن ذلك لأن المخيم الذي كثيراً ما كان خزان الثورة ووقود النضال، أدرك الآن هزيمة قيادته وغربته عنها، فأخذ على عاتقه تمثيل نفسه، باعتباره الإشارة الأولى إلى القضية الفلسطينية.

لقد شكّل المناضلون بالبُعد "الفردي / الجمعي" نموذجاً للبطولة، وأيقونة للفعل، ونمطاً جديداً قادماً من رحم المعاناة واللجوء والبؤس والنضال والغضب، وبالشكل الجمعي عبر بلورة مشروع وطني وثقافي مقاوم.[25] وكان لا بد من استثمار الحالة الثورية في بؤر المقاومة التي أخذت تنتظم على شكل مجموعات وخلايا عسكرية شبه منظّمة، وبتنسيق عالٍ مع المقاومة في قطاع غزة، أبرزها "كتيبة جنين" و"عرين الأسود" في نابلس، ولاحقاً "كتيبة الرد السريع" في طولكرم والكتائب والمجموعات الشبيهة في مخيم بَلَاطة ومخيم عُقْبة جَبر في أريحا، والخلايا النائمة كتلك التي نفذت العملية الفذة في طريق بيت ليد / طولكرم، وحاجز الأنفاق في بيت لحم على يد الفدائيين القادمين من مدينة الخليل، وفي القدس، وفي أغوار أريحا، وكلها يشي بتصاعد حتمي في المستقبل القريب.

حملت "كتيبة جنين" بمخيمها، ومنذ تأسيسها في أيلول / سبتمبر 2021، ومع الكتائب الأُخرى، على عاتقها المضي قدماً نحو مشروعها القتالي تحت شعارات مثل: "بوصيكم، بحياة عرضكم ما حدا يترك البارودة" للشهيد إبراهيم النابلسي، ووصية عُدي التميمي: "أنا المطارد عُدي التميمي من مخيم الشهداء شعفاط. عمليتي في حاجز شعفاط كانت نقطة في بحر النضال الهادر. أعلم أنني سأستشهد عاجلاً أم آجلاً، وأعلم أنني لم أحرر فلسطين بالعملية، ولكن نفذتها وأنا واضع هدفاً أمامي، أن تحرك العملية مئات من الشباب ليحملوا البندقية بعدي"،[26] حتى وصلت إلى "سنقاتل حتى آخر مقاتل، وآخر طلقة، وآخر قطرة دم" لـكتيبة عرين الأسود.[27] وهذه بلا شك عقيدة للوعي المتشكّل الذي أعلن عدم انكساره، وساهم في بلورة الوعي الجمعي وشحذه من أجل إعادة تنمية حسّ المشاركة الجمعي العام والانتماء إلى القضايا الوطنية والمصير المشترك، والإشارة إلى الانسجام والتناغم ما بين الذات الفردية / الجمعية، وانتقال "عدوى" المقاومة الجذمورية بالمعنى الدولوزي، "فحيث تكون علاقات القوة توجد مقاومة" في الميادين كافة. وإن الثقافة هي الدرع الذي يوفّر الحاضنة للأدوات المعرفية التي يحتاج إليها الأفراد لتحديد وجهتهم من هذا العالم. ولهذا، تشدد كتائب نابلس ووريثتها مجموعة "عرين الأسود" في نابلس على أهمية "حرب الثقافة أكثر من السلاح، فلا يجوز لحامل البندقية أن يكون غير مثقف، فحربنا معهم هي حرب وعي"،[28] بتعبير الشهيد وديع الحَوَحْ قبل يومين من استشهاده.

وعلى الرغم من تباين الخلفيات الاجتماعية والأيديولوجية الظاهرية للمقاتلين، أو ما أُطلق عليه "الفاعل الاجتماعي الفلسطيني"، فإن المقاوم يدرك في نضاله أن الفعل هو الإشارة إلى الوجود، وغيابه هو الانطواء والانكفاء على الحياة الشخصية. والفلسطيني في ذلك يتطلع إلى الذوات الفاعلة، وكيف يحاول التأثير في "المجال العام"، بمفهوم بيير بورديو، ويشكّله من جديد بحيث يكون ذلك تشكيلاً لذاته على الرغم من وجود استعدادات متنوعة ورأس مال نوعي متعدد ضمن الفضاء الاجتماعي الفلسطيني. إن أي فعل قتالي "هو حركة انتقال من الفردية إلى التعددية"،[29] والذين يبادرون إليه في السياق الفلسطيني (من خلال الكلمة والبندقية) هم الذين يعلنون أنهم منخرطون في الشأن العام، ومجال ظهورهم في الحيز العام الفيزيائي والافتراضي والقتالي، ذلك بأن الظهور الميداني في مخيم جنين أو قطاع غزة لا يكون بالشكل الفردي، لأن "الإنسان لا وجود له في السياسة، لأن الأخيرة تبدأ دائماً من الناس."[30] إن الفعل لا يتخذ المعنى المجتمعي إلّا بنضاله وتضحيته ودعم البيئة الاجتماعية وتوفُّر المنعة النفسية الحاضنة لنضاله مثلما يظهر في صمود فلسطينيي قطاع غزة، إذ يخرج رجل أو امراة أو طفل من تحت الأنقاض، ليقولوا: "كلنا فداء للمقاومة... فداء للقدس... اضربوا... الله يحميكم"، حينها يدرك المقاتلون أهمية هذا السند وهذه الحاضنة اللذين يقاتلون باسمهما وبدعم منهما من أجل كرامة الفلسطيني الشخصية والوطنية.

هذه الحالة تستلزم وجود حاضنة شعبية ومجتمع مقاومة يتبنّى الخيارات الثورية في مخيمات الضفة الغربية والقدس وصولاً إلى قطاع غزة. وكي تنمو هذه الحاضنة، فإنه لا بد من وجود ثقافة مقاومة وإجماع شعبي على خيارها إلى حدّ المواجهة والاشتباك حتى الموت إذا استدعت الضرورة ذلك. وهذا إجماع مدعوم بإرث نضالي متأصل وضارب في عمق التاريخ منذ المجاهد عز الدين القسّام حتى معركة مخيم جنين في سنة 2002، ومن سليمان الحلبي إلى محمد ضيف. فالفاعلون الفلسطينيون يقومون بإعادة تصويب كتابة التأريخ للهزائم منذ النكبة والنكسة على شكل قلعة صمود، عبر بُنية المقاومة وحاضنتها، فهم مثلاً، يدعون إلى احتضان وحماية الأسرى الذين انتزعوا حريتهم في 6 أيلول / سبتمبر 2021 من سجن "جلبوع" في بيسان المحتلة، والذين جسّدوا نموذج البطولة المشتهاة، وبرهنوا أن صمود جنين وأسراها ومخيمها ليس أسطورة، وإنما حقيقة قابلة للتكرار، مثلما تمت برهنته في معركة "بأس الأحرار" في حزيران / يونيو 2023، وفي صواريخ المقاومة دفاعاً عن جنين وصدّاً للعدوان عليها.

بخطوات أسرع وبجغرافيا متحررة ومتسعة نسبياً، كان المقاتلون في قطاع غزة يصلون الليل بالنهار، لاكتساب الخبرات والقدرات اللوجستية والعملياتية وتطوير المنظومة الدفاعية والهجومية والاتصالية، وإتقان التكتيكات الحربية والإعلام العسكري، وتدعيم بيئة ملائمة لاحتضان العمل الثوري عبر بناء شبكة من الأنفاق في باطن أرض فلسطين، مسلحين بعقيدة راسخة، لأن "'تحرير فلسطين' ولا شيء غيره، هو 'الدين السياسي' الذي اعتنقه الفلسطينيون بعد سقوط البلاد في سنة 1948. وكان هو أبو الأهداف الوطنية العليا."[31] واستناداً إليه صارت الجماهير مسلحة أيضاً بأمل المقاومة ومخيالها الثوري الذي يرى فلسطين جغرافيا واحدة، ويحدد الأدوات وأشكال المواجهة بحسب فهم عميق لماهية الاستعمار الإحلالي الصهيوني وغاياته.

لقد استطاع المقاومون في قطاع غزة ممارسة الدين السياسي الفلسطيني على الرغم من آلام دعوته إلى الانبعاث من جديد، ومراكمة الإنجاز تلو الآخر في الميدان وفي معارك غير متساوية خلال الفترة 2008 - 2022. وهذا التراكم هو مَن رسم نموذج البطولة ووسمه البارود والدم والجوع والعطش والفقد والخسارة... والانتصار الذي يتمتع منجزوه بالقدرة على رؤية الممكن، وباليقين بالقدرة على تحقيقه، ويدركون أهمية إعادة كتابة تاريخ الفلسطيني من الهزائم إلى الانتصار، وإعلان موعد لولادة الفلسطيني المقاوم في غزة العزة.

وكان موعد هذه الولادة في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 عبر العملية البطولية الفذة من حيث الإعداد والتخطيط والتنفيذ التي قامت بها كتائب الشهيد عز الدين القسّام بمشاركة نحو 1200 مقاتل، مثلما أُعلن صبيحة ذلك اليوم، تم تغطيتهم بمئات الصواريخ أرض - أرض، مع مساندة وحدة الهندسة، والطيران، والوحدات البحرية والقوات الهجومية والإسنادية والاستشهادية. وبالتزامن مع ذلك، تم تدمير نقاط المراقبة في الأبراج العسكرية والعتاد الحربي ومراكز القيادة والاتصال، وذلك عبر خطط متكاملة. وتوحي مجريات المعركة والدخول والانسحاب والقتال الشرس حتى في المناورة والدفاع ضد التوغل الصهيوني في قطاع غزة، بتغير صورة المقاتل الفلسطيني من فرد ومجموعة إلى جيش من المقاتلين، جيش تحرير الفلسطيني الذي تمكّن بأدوات وعتاد عسكري لا يقارن بما لدى العدو من إعلان الحقيقة ونشر الأمل، والقضاء في أول ساعات الحرب على فرقة غزة في الجيش الصهيوني، وأسر المئات. لقد أعادت المشاهد المبثوثة عبر الأثير لحظة بلحظة رسم صورة الجندي الصهيوني على حقيقته، وهشمت أسطورة التفوق والبأس محوّلة إياها إلى لحظة يأس واستجداء. وفي اللحظة نفسها، برزت صورة البطولة للمقاتل الفلسطيني التي جسّدت كل ما يمكن أن يكون خيالياً قبل صباح يوم العبور.

شكلت تلك الإنجازات خلال العملية والصمود المتواصل في وجه حرب الإبادة التي ما زالت دائرة، ملامح أولى للحظة الانتصار والعودة الفلسطينية. ولم يتمثل الإنجاز في الهجوم فقط، بل في التخطيط وإدارة المعركة العسكرية والإعلامية والسياسية، وفي التصدي للقوات الصهيونية بعد بدء الهجوم البري، وتدمير القوات المتوغلة من مجنزرات ودبابات ونقاط تموضع للجنود فيما تبقّى من الأبنية الفلسطينية من مبانٍ ومستشفيات ومراكز طبية ومدارس، وتوثيق ذلك كله من خلال الإعلام العسكري. ورافق ذلك كله استمرار للرشقات الصاروخية إلى عمق الكيان وعلى محيط قطاع غزة على الرغم من الرقابة الجوية والأرضية والبحرية، ومن التدمير والإهالة والألم والفقدان والقتل الذي يتعرض له سكان قطاع غزة في هجمة إبادية عنيفة تستعيد مخطط الإبادة التي بدأت في سنة 1948، وتحاول حتى اللحظة تكراره وبصورة أكثر وحشية.

إن مفاعيل المعركة جسّدت التفوق الأخلاقي للمقاتلين الفلسطينيين في خضم المعركة وبعدها، وذلك بعدم التعرض للمدنيين بصورة مقصودة في صور بثّتها كاميرات وقنوات الاستعمار من عدم مسّ المقاومين للنساء في الميدان في أثناء المعركة وبعدها، ذلك بأن المقاومة أعلنت عدة مرات أن هدفها هو المواقع العسكرية وليس "المدنية". ويدعم ذلك تحقيق أولي للشرطة الإسرائيلية فحواه أن طائرة حربية إسرائيلية هي التي قصفت الحفلة في مستعمرة "ريعيم" فيما يسمى "غلاف غزة" بتاريخ 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، وأدت إلى مقتل أكثر من 364 مستوطناً إسرائيلياً.[32] هذا الأمر يعكس متلازمة اليأس والبأس الاستعماري وما وصل إليه حين تحطمت أسطورته، إذ ربما يكون في باله بأس "خيار شمشون"، لكنه كان يمارس أزمة اليأس في "مسَّادا" التي كانت حاضرة بقوة ودفعته إلى القتل الجماعي للمستعمرين، لا الانتحار. ويمكن أن نجد ذلك أيضاً في تصريح مستوطِنة بشأن أخلاقيات المقاتلين، بأن الجيش الإسرائيلي هو مَن قام بقتل المستعمرين والمقاتلين معاً باستهداف منزلها.[33] ونجده أيضاً، في إدارة ملف الأسرى الصهيونيين الذين تبثّ المقاومة لحظات تسليمهم، وأبرزها من ميدان فلسطين في غزة، وكذلك في شهادات من المستعمرين أنفسهم،[34] أو ممّن أُفرج عنهم من حيث الرعاية ومحاولة تقديم المستطاع بصورة إنسانية وأخلاقية. إن عدد الشهداء حتى بداية كانون الأول / ديسمبر 2023 تجاوز 20,000 شهيد، وهناك مئات آلاف الجرحى، وأكثر من مليون ونصف نازح، و8000 معتقل اقترف الاحتلال في حقّهم أبشع الممارسات... وربما لا نحتاج إلى هذا الدم والتوحش كليهما في حرب الإبادة الصهيونية كي ندل على تفوق الصورة الأخلاقية للمقاتل الفلسطيني.

وإذا كانت عملية عُدي التميمي من مخيم شعفاط في القدس قد شكلت نموذجاً جديداً في الأفعال النضالية "الفردية / الجمعية" في الضفة الغربية، عبر كلماته التي تقول إن عمليته "نقطة في بحر النضال الهادر"، فإن عملية "طوفان الأقصى" هي طوفان المقاومة الهادر الذي وصلت أمواجه إلى العالم، بصورته ومعانيه وقِيَمه، وبعثت الأمل باستعادة العمل في سبيل القضية الفلسطينية. وشكّل هذا الطوفان نقطة مفصلية لدى الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية وشعوب العالم، تحت شعار: ما دام مشروع الإبادة قائماً، فإن طوفان المقاومة سيظل دائماً. 

V- في سبيل خاتمة مقاوِمة

شكلت عملية "طوفان الأقصى" مفصلاً تاريخياً ليس على الصعيد الفلسطيني والعربي فحسب، بل على الصعيد العالمي أيضاً، لتكون مرحلة مفصلية لتجاوز حالة العجز والوهن واليأس أمام الاستعمار الصهيوني الإحلالي وتحالفاته مع قوى الإمبريالية العالمية. وفي هذا السياق، تأتي إنجازات المعارك وصمود المقاومة في قطاع غزة والضفة الغربية لتستقطب الشباب الفلسطيني والعالمي إلى القضايا الكبرى التي تشكّل فيها القضية الفلسطينية البوصلة الأخلاقية والثقافية، وتبعث ببشارة ولادة مجتمع مقاوم فلسطيني وعربي وعالمي يسير في سبيل تحرير الإنسان وصيانة كرامته.

إن المعطيات المستمدة من المقاومة تجسيداً للبطولة والشجاعة والإقدام والعزة، على الرغم من المعاناة والألم والفقدان والحرمان، تؤكد أهمية استدعاء ثقافة المقاومة وانبعاث مجتمعها كي تتقدم بوتيرة توازي العمل النضالي من أجل إعطاء المعاني والتوجيه الوطني والقِيمي والثقافي المنطلقة من المحلي الفلسطيني وقضاياه إلى القضايا التي تلامس الإقليم العربي والعالمي الإنساني، بديلاً كونياً يقوم على الكرامة والعدالة والحرية.

ولأن المعركة التي يخوضها الفلسطينيون اليوم، وكل يوم منذ نكبتهم الكبرى في سنة 1948، ليست موجهة ضد كيان أو دولة مارقة فحسب، بل لمقارعة أقصى درجات البشاعة والإجرام للمنظومة الإمبريالية والاستعمارية العالمية أيضاً، فلا بدّ من أن يكون الفلسطيني وغير الفلسطيني مسلحاً بثقافة مقاومة قوامها التضحية والإباء في سبيل الحرية والأمل، وهي ثقافة تتجاوز الوهن والاستجداء إلى انتزاع الحقوق والدفاع عن الكرامة والسير نحو التحرر والحرية. فصمود الثقافة المقاومة في وجه منظومة الاستكبار والاستعلاء الصهيونية والعالمية لا يقل عن أهمية صمود وبسالة وكفاءة وعطاء المقاتلين في الميدان في غزة وفلسطين والإقليم العربي كافة.

 

المصادر:

[1] حسن حنفي، "ثقافة المقاومة"، "مجلة المستقبل العربي"، العدد 324 (شباط / فبراير 2006)، ص 104.

[2] فيصل دراج، "الثقافة بين الفاشية والنازية"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 108 (خريف 2016)، ص 91.

[3] نبيه بشير، "قراءة جديدة لعقيدة الجدار الحديدي"، "مجلة قضايا إسرائيلية"، العدد 69 (ربيع 2018)، ص 40 - 51.

[4] فايز رشيد، "أيديولوجيا القتل والعنف في الفكر الصهيوني... ودروس"، "القدس العربي"، 26 / 8 / 2015.

[5] مهند مصطفى، "بنيامين نتنياهو وإعادة إنتاج المشروع الصهيوني ضمن منظومة صراع الحضارات"، في: نديم روحانا وعرين هوّاري (محرران)، "الصهيونية والاستعمار الاستيطاني: مقاربات فلسطينية" (حيفا: مدى الكرمل / المركز العربي للدراسات الاجتماعية التطبيقية، 2023)، ص 175، 187، 188.

[6] إبراهيم مرعي، "في إعادة الاعتبار إلى 'تحرير فلسطين'"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 136 (خريف 2023)، ص 7.

[7] عبد الرحيم الشيخ، "غزة... قيامة شمشون"، "الأخبار" (بيروت)، 31 / 10 / 2023.

[8] جيل أنيجار، "الدولة الانتحارية"، ترجمة وتقديم عبد الرحيم الشيخ، مجلة "إضافات"، العددان 43 - 44 (صيف - خريف 2018)، ص 230.

[9] انظر: المصدر نفسه، ص 230.

[10] شهادة أنيس غنيمة، أحد مواطني قطاع غزة، والتي نشرها في صفحة "فيسبوك" الخاصة به، وشاهدها الكاتب في 15 / 11 / 2023. ومنشورات غنيمة في الفيسبوك في الرابط الإلكتروني.

[11] بني موريس، "مولد مشكلة اللاجئين الفلسطينيين"، ترجمة عماد عواد (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2013)، الجزء 2، ص 177.

[12] عبد الرؤوف أرناؤوط، "وزير الطاقة الإسرائيلي: أمرتُ بقطع إمدادات المياه عن غزة فوراً"، وكالة أنباء "الأناضول" التركية، 9 / 10 / 2023.

[13] Harlan K. Ullman and James P. Wade, “Shock & Awe: Achieving Rapid Dominance”, a report prepared by “Defense Group Inc.” for “The National Defense University”, September 1996.

[14] انظر رأي المنظر العسكري البريطاني بزيل ليدل هارت في: ألوف بن، "احتلال مدينة غزة والتهجير الموقت للسكان هما الخطوة الإسرائيلية التي كسرت التوازن"، "مختارات من الصحف العبرية"، "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، 9 / 11 / 2023، في الرابط الالكتروني.

[15] "سموتريتش يزعم أنه لم يكن يدرك أنه كان سيُنظر إلى 'محو' حوارة على أنها أمر عسكري"، "تايمز أوف إسرائيل"، 9 / 3 / 2023، في الرابط الإلكتروني.

[16] رجا الخالدي، "الوطن والطبقة: أجيال التحرير الفلسطيني"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 118 (ربيع 2019)، ص 153.

[17] ليزا تراكي، "المتخيل الاجتماعي الجديد في فلسطين بعد أوسلو"، "مجلة "إضافات"، العددان 26 - 27 (ربيع - صيف 2014)، ص 53 - 54.

[18] بلال عوض سلامة، "في معنى الأرض: استعادة الذات الفلسطينية" (قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2021)، ص 157.

[19] مرعي، مصدر سبق ذكره، ص 8.

[20] إبراهيم غرايبة، "توظيف ثقافة المقاومة"، "الجزيرة"، 8 / 3 / 2007، في الرابط الإلكتروني.

[21] درّاج، مصدر سبق ذكره، ص 93.

[22] حنفي، مصدر سبق ذكره، ص 104.

[23] هذان الاقتباسان من: الياس خوري، "من المحرر"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 136 (خريف 2023)، ص 6.

[24] فيصل درّاج، "بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية" (بيروت: دار الآداب، 1996)، ص 17.

[25] بلال عوض سلامة، "الفاعل الاجتماعي الفلسطيني: من الفعل المتشظي إلى الفعل الجمعي"، "المستقبل العربي"، العدد 537 (تشرين الثاني / نوفمبر 2023)، ص 29 - 51.

[26] وكالة "معاً" الإخبارية، "وصية عُدي التميمي"، 22 / 10 / 2022، في الرابط الإلكتروني.

[27] بيان كتيبة عرين الأسود بتاريخ 20 تشرين الثاني / نوفمبر 2022 في موقع الكتيبة في موقع تيليغرام.

[28] سلامة، "الفاعل الاجتماعي الفلسطيني..."، مصدر سبق ذكره، ص 38.

[29] معافة هشام، "حنة أرندت: فلسفة الفعل السياسي، من الفردية إلى التعددية"، "مجلة دراسات"، المجلد 7، العدد 2 (2020)، ص 280.

[30] المصدر نفسه، ص 282.

[31] مرعي، مصدر سبق ذكره، 8.

[32] "هآرتس: تحقيق أولي للشرطة يفيد أن طائرة حربية إسرائيلية قصفت يوم 7 أكتوبر محتفلين بغلاف غزة"، قناة "الجزيرة" في موقع "يوتيوب"، 19 / 11 / 2023، في الرابط الإلكتروني.

[33] انظر شهادة الأسيرة السابقة في غزة ياسمين بوارت: "تعاملوا معنا بإنسانية.. بعدما كانت رهينة، شهادة إسرائيلية عمّا جرى معها"، قناة تلفزيون "العربي" في موقع "يوتيوب"، 21 / 10 / 2023، في الرابط الإلكتروني.

[34] "'نحن مسلمون ولن نؤذيكم'.. مستوطِنة إسرائيلية تروي مشهداً لتعامُل مقاومي كتائب القسـام معها"، قناة "عربي TRT" في موقع "يوتيوب"، 10 / 10 / 2023، في الرابط الإلكتروني.

 

Author biography: 

بلال عوض سلامة: محاضر في جامعة بيت لحم.