إن الذاكرة الجمعية الفلسطينية بأدبياتها المروية شفاهة، لا تغفل عن توثيق الحرب، نصراً وهزيمة، وخصوصاً أن لهذا الشعب تجارب نضالية شهدت معارك وملاحم على امتداد أكثر من 100 عام. ونجد ذلك في المحكي والمُغنَّى، وفي اللهجة الدارجة والكلام اليومي، ذلك بأن حياة أي مجتمع واستمرار وجوده يقتضيان التعبير عن ذاته وثقافته بلجهته ولغته الحية.
ولمّا كان الفلسطينيون يؤرخون أيامهم بـمعاركهم وأمجاد تاريخهم، فإننا لا نزال حتى اليوم نسمع أغاني تذكر "وَقْعِة بيت إمرين"، و"وَقْعِة واد التفاح"، وهما من معارك ثورة سنة 1936. فمعارك الفلسطينيين الكبرى كانت توصف بـ "الوَقعات الجَدِّية"، وذلك كقولهم في وصف إحدى معارك الفلاحين ضد إبراهيم باشا في ثلاثينيات القرن التاسع عشر: "أحمى من وَقْعِة ابن حمزة"، إذ جرت معركة ضارية بالقرب من عقربا في جنوبي شرقي نابلس بين الفلاحين والجيش المصري. وفي هذه المعارك صار البحث عن النصر ودلالته في التعبيرات الشعبية ضرورة لا نافلة، إذ من المهم تتبّع التأريخ الشعبي للأحداث عبر التعبيرات التي يطلقها الناس ويقولونها في أثناء المعارك توثيقاً لها وتعبيراً عن أنفسهم في خضمّها، ذلك بأن النصر مهم حتى لو كان معنوياً، لأنه يساهم في استعادة الفلسطيني زخم قضيته، ويبثُّ الأمل لديه بجدوى نضاله حتى لحظة الانتصار الحقيقي ونيل الحرية.
ولذا، سعيت للبحث في الفعل الكلامي للمأثورات الشعبية المروية، وما حفلت به من تعبيرات عفوية ذات دلالة مباشرة أو غير مباشرة على النصر والمواجهة. فمنذ اليوم الأول لمعركة "طوفان الأقصى" تم تداول التعبيرات الشعبية كالأغاني والهتافات والأمثال والحكايات بطريقة معبّرة عن الهوية الجامعة التي تتمثل في المحتوى الثقافي الشعبي، وأنماط التعبير التقليدية عن المعركة في لحظات الانتصار وألم الفقد والاستشهاد فيها. وبدت التعبيرات الشعبية المرتبطة بسياق الحرب على غزة كأنها عناصر دالة تنتمي إلى نسق واحد فيه قواعد عامة متَّفق عليها بين الناس. ولذا، ركّزت على القوة والصبر وعدم الخوف من بطش العدو، وحملت هذه التعبيرات رسائل قوية عزّزت صورة الغزِّي العنيد الذي لا يُكسر. وكان من الواضح أن هذه التعبيرات تأبى الانكسار وتتلافى الحديث عنه توقاً إلى النصر، والتزاماً بإرث التغنّي بالبطولة ورفض الهزيمة.
التعبيرات
لم يستخدم الفلسطينيون تعابير شعبية أقوى من جملة مراسل قناة "الجزيرة" وائل الدحدوح: "مَعْلِشْ"، وهو يودّع زوجته وأبناءه الشهداء. لكن تعبيرات من نوع: "مُشْ رَاحْ يكسرونا" و"هَيْنا قاعدين"، انتشرت على ألسنة أهل غزة لتكثيف الكلام في جمل مركَّزة الدلالة تصف قوة الناس وجَلَدهم وصبرهم ورغبتهم في الانتصار. وقد تحولت هذه التعبيرات العفوية ذات الأثر الخطابي والاجتماعي، إلى حالة عامة يتم التفاعل معها، ليس بسبب الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي فحسب، بل نتيجة ما تختزنه من طاقة رمزية أيضاً، أكان ذلك انطلاقاً من سياقها الذي انبعثت منه، أم بفعل الأيديولوجيا التي تشحن التعبير الشعبي بطاقة عالية عند التلفظ به على مسمع المستقبِل.
ولعل أهم وظيفة لهذه التعبيرات الشعبية في معركة "طوفان الأقصى" هو تحوّلها إلى وسيلة تعبير جماعي عن الصمود ورفض الاستسلام، وخصوصاً أن قائلها كان يوجه كلامه إلى الإعلام على الهواء في بثّ مباشر لألمه. فهذه التعبيرات التلقائية هي تراكيب ذات وظيفة تواصلية وسياسية تحمل صوت الجماعة في التعبير عن ذاتها، لا صوت الفرد المتلفظ بها. واكتسبت هذه التعبيرات زخمها وقوة حضورها من الإيمان بمشروعيتها ومشروعية الناطق بها في آنٍ معاً، وهو ما لا يمكن للتعبيرات العادية أن تحققه في الحالات الطبيعية. فقد وردت التعبيرات الشعبية في سياق النصر لوصف مشاعر القوة في هذه الحرب، وكان لها مدلول أبعد مرمى من كونها مجرد أقوال تحكي حالة الاشتباك، وإنما كانت استعارات تهزم الهزيمة وتأباها وتصنع النصر وتؤسس له.
وبين الأمثلة اللافتة لهذه التعبيرات، ثلاث مفردات في الدارجة الفلسطينية: "مَعْلِشْ"، و"طَعَجْناهم"، و"فَكَعْ". فتعبير "مَعْلِشْ" هو كلمة دارجة تعني "ما عليه شيء"، ولا أبلغ منها حين قيلت على لسان الصحافي المكلوم وائل الدحدوح: "بِنْتِقْموا منا في الأولاد.. مَعْلِشْ". والكلمة تُستخدم في أكثر من سياق ودلالة، منها ما يعني "لا بأس بالأمر"، تصغيراً له ولحجم أَثره، وأحياناً تقال عند وقوع حدث نعجز عن دفعه في ساعته مع إدراكنا حجم وجعه. وقد يكون في قولها عند التشديد على حرف الشين (ش) نبرة تحدٍّ عالية كأن تقول: لا بأس الآن، لكن لاحقاً سيكون الحساب، أو "إحنا وإيّاكم والزمن طويل". أمّا "طَعَجْناهم طَعِجْ" و"طعجنا الجنود طعج"، بمعنى كسرنا شوكتهم وهشّمنا كرامتهم بضربهم واستهدافهم. ومثلها: "هَرْبَدوهم الشباب"، أي أمعنوا في النيل منهم وانتصروا عليهم في المواجهة. وبالنسبة إلى كلمتَي "فَقَعْ" أو "فَكَعْ"، فإن القاف في العامية الفلسطينية تُستَبدل كافاً في بعض المناطق، و"فقع الصاروخ" إذا انفجر وأحدث صوتاً عالياً، وهي كلمة تُستخدم فلسطينياً كلما انفجر صاروخ للمقاومة في مستعمرات الاحتلال. وقد استُخدمت الكلمة ذاتها عند انفجار الدبابات المحصنة فصاح مُفجِّرها: "فقعَت، والله فقعَت".
الحكايات
بعيداً عن تعبيرات النصر، من المهم أن نميز بين مهارات وأدوات القصّ والسرد المحكي لجمهور في وسط فني، وذلك المحكي عبر وسائل التواصل الاجتماعي خارجاً من الأشلاء ومن تحت الركام. فالحكي بصفته فعلاً كلامياً له وظيفة معينة تُؤدى في سياقات تقوم على الأداء الكلامي الذي يحمل الناس إلى فضاء المتخيل وعوالمه، ينتفي من أساسه في حالة السرد العفوي مباشرة لقصص الناس في غزة، إذ يحاول المتحدثون قصّ حكايات مَن قُتلوا أو استشهدوا أو انتُشلوا من تحت الردم أو هُجّروا، ونَقْل ذلك من خلال الحكي المسكون بالألم لاستعادة الواقع لنا ولهم. أمّا آليات السرد، فتهدف إلى إشراك المتلقي في المأساة، وإخراج الضحايا من حيز الأرقام، وتأليب المتلقين على العدو وممارسة أشكال المناصرة كافة.
فالراوي من غزة، وإن لم يختر ذلك، هو مفوّض من الجماعة ليحكي قصتهم ويسرد حكايتهم وينطق بلسانهم في وسائل التواصل الاجتماعي. ولذلك، فإن لما يقوله قوة وسلطة في التأثير والتواصل، وذلك نابع ممّا للحكاية من أثر وسحر وقدرة على بناء التفاعل الإنساني والتضامن الصلب مع هذه القصص الإنسانية، الفردية والجمعية. ولأجل ذلك يلاحق جيش الاحتلال مَن يحكون قصص شعبهم عبر منصات التواصل الاجتماعي، ويستهدفهم بالقتل أو بإعلان كونهم مطلوبين للقتل، لأن ما يحكونه من قصص إنسانية عن استهداف أحلام الناس العاديين وحياتهم الطبيعية، له قدرة على إحداث أثر لا يزول من الذاكرة. ومثال ذلك حكاية الأم التي تبحث عن طفلها الشهيد يوسف أبو موسى، وتصفه بأن "شعره كيرلي وأبيضاني وحلو" قبل أن تعلم باستشهاده. ولا شك في أن تأثير مثل هذه الحكايات لا نعثر عليه في التقارير والأرقام والإحصائيات.
الأمثال
للمثل عند الناس صدقية خاصة، فهم يؤمنون به ويميلون إلى التمثّل به لما يحمله من حكمة ونصيحة. ولذا، نجد الناس في الشدة والحرب يكسون حديثهم بالأمثال رفعاً للهمم وتبشيراً بالأمل. ويمكننا الانتباه إلى جملة من الأمثال والحكم التي وردت في حديث الناس وفي منشوراتهم عبر منصات التواصل الاجتماعي لبيان موقفهم من الحرب، من دون الإفصاح عنه، أو لوصفها باختصار بليغ. وخصوصاً تلك الأمثال التي يمكن إدراجها في التعبيرات الشعبية عن النصر. من هذه الأمثال:
- "الفَيْلَة لَلّي فالها" بمعنى مَن يباغت خصمه يكسب المعركة؛ وقريب منه في الدلالة قولهم: "فات السبت في طيز اليهودي"، الأمر الذي تحقق فعلاً في يوم العبور في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023. وهذه الأمثال العامية تعني فوز مَن سبق، وأن العدو خسر منذ اللحظة الأولى.
- "ما بضيع حق وراه مُطالب"، فكيف يضيع الحق إذا كان وطناً، والمُطالب به مقاوماً؟ والوقت كفيل باسترداد الحق. وعلى رأي المثل: "إحنا وإيّاكم والزمن طويل"، و"إللِّي ما بوخِذْ حَقُّو عِنِبْ، بوخْذُو زبيب".
- "نَفَس الرجال بِحْيِي الرجال"، ومثله قولهم: "إيد على إيد، بْتِرمي لبعيد"، فالنصر في الحرب يحتاج إلى عون وسند، لأن "الحِمل إن مال على واحد قتلو". وبحسب المثل الشعبي، فكل منا قادر على فعل شيء: "اللي بِعْرِفِشْ يُرقص يهزّ اكمامُو"، وبالحد الأدنى علينا أن نقول لا، وعلى رأي المثل: "إذا حدا بدّو يركبك، هز اكتافك"، أو "اللي بِسْتْحيش يركبك، تستحيش تدبُّو".
- "إللي بِوَفِّر هواتو بتيجي في راسو"، بمعنى مَن لا ينتهز فرصته لضرب عدوه فإن عدوه سيصرعه ويقهره، وسيكون ضحية تردده. وقريب منه "إن افترست أُدْرُس"، أي ابذل كامل جهدك في قتال عدوك إذا لاحت لك الفرصة، لأن المثل يقول: "إن بات فات"، وهو مثل للحضِّ على الرد الفوري على الاعتداء وعدم التأجيل.
- "النصر صبر ساعة"، ويقال في الحثّ على التجلُّد والاحتمال عند اشتداد الخطوب، ويدعم ذلك أيضاً قولهم: "إن ما عِكْرت ما صِفْيِت"؛ وعند المواجهة لا ينفع الغياب لأنه "إن عِلِي الموج لا توطي له"، و"إن قدرت اتْغَيِّبْ غَيِّبْ، وإن حَضرت كُون زلمه طَيِّبْ".
- "قال: والله يا قرد غير امسخك. قال: أكثر من هالمسخة؟"، وهذا مثل يستحضره الفلسطينيون لبيان أن الموت الذي يتعرضون له هو حدث متواصل منذ 75 عاماً، وأنه لا جديد في سياسة الاحتلال تجاههم. ومثله قولهم: "ضربوا الأعور على عينو، قال خسرانه خسرانه"، ولأجل ذلك يقولون: "لو حسبنا حساب العصافير ما زرعنا الدُّخن"، وهو للتعبير عن عدم الخوف من الأعداء، "وعكا لو بتخاف البحر ما جاورتو". وفي المحصلة: "اللي خايفين عليه قاعدين عليه"، ولهيك "خليهم يطبخو أحمض ما عندهم".
- "القوي عايب"، لأن القوة الباغية تدفع إلى الغطرسة والاعتداء، وكذلك هو عدونا. لكن في الأمثال أيضاً ما يشير إلى توازن القوى أو جهل العدو بما لديك من قوة، وهي أمثال فيها نبرة تحدٍّ واضحة، مثل: "غريمك حجر يا لوز"، و"دبُّور هدَّا ع مْسَنْ، قاللو زَيْ ما طِحْت إطلع"، و"أجاك يا بلُّوط مين يِعِرْفَك".
- "امشي الحيط الحيط وقول يارب الستر"، وهو مثل يقال عادة لعدم الانخراط في الفعل السياسي والمقاوم، لكنه يُستخدم في فلسطين الآن بدلالة جديدة، وذلك لوصف المقاومين الذين يخرجون من بين الركام ويسيرون بجانب الحيطان والأبنية المهدّمة، وذلك لأجل ضرب العدو وهم يرددون عبارة التوكل على الله، ومثله قولهم: "ارمي الحَب واتوكل ع الرّب".
الأغنيات
من أشهر القوالب اللحنية الغنائية في التراث الشعبي الفلسطيني قالب الدَّلْعونا الذي يحمّل فيه الفلسطيني همومه وشجونه وأفراحه وحبه. ومن خلال النظم الشعري الجميل لهذا القالب في ليالي السمَر والأعراس، يُنشد القوَّال أو الزجَّال كلمات الحنين والحب للوطن، فتصبح الدَّلْعونا غنيّة بوصف المقاومة ومعاركها وانتصاراتها ورموزها.
وفي مطالعة سريعة لإرث الدَّلْعونا التراثية التي غُنّيت في الأعراس نطالع وصفاً بليغاً، كأن الزجالة يصفون معركة فلسطين الحالية "طوفان الأقصى"، مع أنها قيلت في وصف الاستعمار القديم، الجديد، الذي لا يزال حليفاً للصهيونية في معاركها وأدواتها. ومن ذلك:
هِلْنَا عَليهم هَيلَ الزَّلازِل .. والموتِ الأحمَر عَليهُم نازِل
لُومَا النِّكليزي نِزِل يِقاتِل .. ما ظَلِّش مِنهُم ولا صَهيونا
وفي هذه الأبيات من الدَّلْعونا وصف يكاد ينطبق على ما حدث في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 وما تلاه. وإذا استبدلنا دور الأميركيين بالإنكليز لصارت أبياتاً تصفُ بالضبط ما حدث في الأمس ويحدث اليوم.
وفي مديح اللحظة الفارقة يمكننا استحضار أبيات دَلْعونا، مع استبدال الرقم سبعة عوضاً عن الرقم ستة إن شئت:
سبعة أكتوبر اليوم المَوعودِ .. يوم انتصرنا على اليهودِ
لا بُد يا بلادي إلنا تعودي .. وتصيري حُرة يا فلسطينا
وعن المعركة والاستعداد لها وعدم الخوف من الموت، تصف هذه الأبيات الجميلة ما حدث ويحدث:
ظُبّو المَدفع ظُبّو الدَّبابِ .. إحنا لا بِنخشا ولا بنهابِ
ولا يرهبنا لَمعِ لِحرابِ .. لو نشرب فيها كاس المنونا
***
أظهرنا شوية من شجاعتنا .. وشافوا المهالك في مَعركتنا
ما كانوا يُظنّـوا هـاذي قُوّتنا .. وأخّرْنا الـبـاقـي لـيـوم ثـانـي
ويذهب القوَّال الشعبي لوصف مشهد عظيم فيه التحولات المهمة بين التهجير والاقتلاع والذهاب إلى المواجهة رفضاً لما آلت إليه حال الفلسطينيين:
على دلعـونـا وعَـا طريق اسدودِ.. ذَبحونـا و اتـهَــجّـرنـا بَــرا لِـحــدودِ
قُلت يا ابنية هاتي البارودي.. تَهْجِمْ عَ الغَاصِبْ ابن الصَهيونا
لكن الدَّلْعونا ليست وحدها من الأشكال القولية الغنائية التي تحمل تعبيرات النصر ودلالته، فالذاكرة الجماعية المغنّاة لا تعترف بالهزيمة كقدر أبدي، وتأبى التسليم به حتى لو كان الموت تحقق. ولذا، تحثُّ المرويات الشفهية على رد الهزيمة ومنع تحولها إلى معيار، ونجد في غناء الندب والنُّواح قول النساء الثاكلات:
لا تذلّوا يا حمولة .. عَلقوا عَ الخَيل شعير
واقتلوا قَتّال محمد .. لَوِنُّو في السما يطيـر
***
خذوا الثار يلّي بتوخذوا الثار
خذوا بالثار لا يروح معيار
الهتافات
يمكن تصنيف الصيحات والهتافات من ضمن الموروث الشعبي الفلسطيني، وهي تلك التعبيرات التي تصدح بها الحناجر الغاضبة في المسيرات الداعمة لقضية فلسطين، والرافضة لاستمرار العدوان على غزة. ومن خلال فريق من المتطوعين رصدنا بعض هذه الهتافات المتنوعة والمبدعة والمشحونة بصورة النصر في ميادين العواصم والمدن العربية والفلسطينية.
وبين هذه الهتافات التي وُثّقت على تنوّع أسلوبها ومضمونها وطريقة أدائها، كان هناك حضور لرجال المقاومة والأجنحة العسكرية، وخصوصاً "كتائب القسام" و"سرايا القدس" و"كتيبة جنين" "وعرين الأسود" و"كتيبة الرد السريع"، وكذلك لقادة المقاومة وخصوصاً أبو عبيدة ومحمد الضيف بدرجة أولى، ثم يحيى السنوار وصالح العاروري ومروان البرغوثي. وقد يكون هِتاف "حُطِّ السيف قبال السيف.. إحنا رجال محمد ضيف" الأكثر تداولاً في جميع التظاهرات، يليه الهتاف لأبو عبيدة، والذي كان أحد ملامح الهتافات العربية، ومنه: " أبو عبيدة يا عيوني.. إضرب كريات شموني"، و "يا أبو عبيدة يا مغوار.. سَمِّعنا صوت الإنذار"، ومثلها هتاف "طلقة بطلقة ونار بنار، واحنا رجالك يا سنوار"، و"يا عاروري طُل وشوف.. وهي ارجالك ع المكشوف". ومن الهتافات كذلك ما يحضّ على الوحدة الوطنية، ويغمز من قناة بعض الفصائل، ومنها: "الضفة بدها مروان.. وبدها العاروري كمان"، و"يا اللي معك بارودي، ومخبيها للأعراس، يا بتطخ اليهودي، يا بتعطيها لحماس"، "يا اللي معك بارودة، ومخبيها للأعياد، يا بتطخ اليهودي، يا بتهديها للجهاد"، "بلا سلمية بلا بطيخ، بدنا رصاص وصواريخ".
وفي هذا السياق، ترد أيضاً مدن ومستعمرات الاحتلال التي طالها قصف المقاومة، ومن ذلك: "تــل أبيـــب نربّــيها.. تحت النـار نخلِّــيها"، و"طيّارة طَيْروها.. وعَلى السَّبع ودَّوها"، و"سَمِّعلي موشي دَيّان.. وهي حَررنا عَسقَلان". ولم يغب الهتاف لصباح يوم العبور: "يوم السبت صُبحية.. صارت أكبر عَملية.. طاروا بالمَظلية.. دَرّجوا بالمية.. دَمّروا الصهيونية. والأسرى فوق المِيّه". كما ان هناك هتافات شحذ الهمة وبثّ القوة، والإشادة بغزة وأنها لا تركع ولا تستسلم، ومنها: "ضَرْب وطَخْ وهدم بيوت.. ما بيضعف عزيمتنا.. يا مرحبابك يا موت.. تا نوخذ حريتنا"، و"اطلع يا قمرنا وْهِلْ .. وضوي الكرة الأرضية.. ما خلقنا تنعيش بذل.. خلقنا نعيش بحرية"، و"كم شهيد وكم جريح.. يا غزة ما يهزك ريح".
وختاماً، لا بد من الإشارة إلى أن التعبيرات الشعبية المرتبطة بثقافة الانتصار ووعيه في أثناء الحرب، والتي احتفظت بها الذاكرة الجماعية، بغضّ النظر عن النتائج التي ستنتهي إليها الحرب، تمتاز بأنها تعبيرات طبيعية تفصح الذات الفلسطينية من خلالها عن نفسها بتلقائية وعفوية في لحظة الحدث. ولأجل ذلك فإن توثيقها ورصدها في وقتها إنما هو توثيق لتاريخ الإنسان نفسه وأثر وجوده وثقافته من ناحية، وبثّ لروح الصمود والصبر والمجالدة في انتظار لحظة النصر من ناحية ثانية.