Gaza: The Visual Attempt That Defies Being Reduced to Silence
Special Feature: 
Full text: 

على الرغم من تناولها ثيمات "التحرر من الاستعمار" (decolonization) و"ما بعد الاستعمار" (postcolonialism)، وطرحها موضوعات متعلقة بتحرير الفن من التبعات الاستعمارية، بما في ذلك الدعوة إلى الانفتاح على قراءة التاريخ من زوايا مغايرة وإتاحة مساحات للفنانين من الجنوب العالمي للمشاركة، فإن كثيراً من المؤسسات الفنية الغربية نأى بنفسه عن القضية الفلسطينية منذ 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، ولم يتجرأ أن يدين مجازر الاستعمار الصهيوني في غزة، أو حتى أن يتخذ موقفاً تضامنياً إنسانياً مع الشعب الفلسطيني. وبينما التزمت تلك المؤسسات الحياد والصمت، أوصدت أُخرى الأبواب في وجه الرواية الفلسطينية، واتخذت منحى عنصرياً إقصائياً بعد أن اجتاحها رُهاب الفلسطينيين واللاسامية. وفجأة، أصبحت الموضوعات التحررية التي فاضت بها المنصات الفنية خلال الأعوام الماضية بلا معنى، فهي في أحسن أحوالها كانت نقاشات لحالات استعمارية افتراضية خيالية لا صلة لها بالواقع.

كان عنوان أحد محاور ورشة فنون معاصرة نظمتها جامعة بوتسدام الألمانية في برلين، هو: "كيف يتعامل الفنانون مع السردية التاريخية التي اختُزلت إلى الصمت؟" لكن بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، وقبل وقت وجيز من عقد الورشة في 19 تشرين الأول / أكتوبر 2023، قرر منظّموها اختزال مشاركة الفنانة الفلسطينية إميلي جاسر "إلى الصمت" في إثر نشاطها في وسائل التواصل الاجتماعي، فوجدت جاسر نفسها وقد أزيلت من قائمة المتحدثين، بينما لم يجد المنظِّمون في ممارستهم تلك تناقضاً مع "اختزال السردية التاريخية التي يطرحونها في ورشتهم إلى الصمت." وردّت جاسر على ذلك من خلال حسابها في إنستغرام في 22 تشرين الأول / أكتوبر 2023 قائلة: "الجهود على أشدّها لنزع إنسانيتنا بأي طريقة، وتخطو بتسارع. ويبدو كأن استنشاق الهواء صار من الممكن أن يؤطَّر على أنه فعل إرهابي"، مضيفة أن هناك استهدافاً لأصوات الفنانين، "لكننا لن نصمت".

يرى إدوارد سعيد أن الدور النقدي للمثقف في المنفى خارج المؤسسة هو "ضرب من ضروب التحدي"، وأن الحفاظ على هذا الدور هو "أمر بالغ الصعوبة"، لكنه يبقى "أهم بكثير من نيل منحة أُخرى أو جائزة جديدة."[1] كثيرون هم مَن صمتوا، خلال الأسابيع الماضية، حتى أولئك الذين تعرضوا للإقصاء لكونهم فلسطينيين، أو لكون إنتاجهم الفني يتعلق بفلسطين، لكن هناك مَن لم يتردد في التعبير عن مواقفه إزاء الاختزال وحملات الترهيب، فَواجَه مواقف المؤسسات الباهتة والعنصرية التي تحركها في كثير من الأحيان مواقف مموّليها.

في يوم افتتاح مهرجان أمستردام العالمي للأفلام الوثائقية في 13 تشرين الثاني / نوفمبر 2023، صعدت مجموعة من الناشطين على خشبة المسرح تحمل لافتة تقول "فلسطين حرة من البحر إلى النهر"، مخاطبة الصمت المؤسساتي إزاء ما يحدث في غزة في الأوساط الفنية، ومطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار. فما كان من إدارة المهرجان إلّا أن سارعت إلى إصدار بيان اعتذاري طويل غازلت فيه إسرائيل واتهمت أولئك الناشطين بمعاداة السامية، من دون أن تتخذ موقفاً من المجازر الإسرائيلية في غزة، أو تطالب بوقف إطلاق النار. وفي إثر ذلك، انسحبت مجموعة من السينمائيين والفنانين والكتّاب ومجموعات فنية، بينها الفنانة الفلسطينية بسمة الشريف المشاركة في إحدى لجان التحكيم، والفنانة جمانة منّاع و"مؤسسة الفيلم الفلسطيني" المشاركة في سوق الأفلام في المهرجان، وغيرهم. وعلّقت الشريف على انسحابها في حسابها في إنستغرام في 12 تشرين الثاني / نوفمبر 2023 قائلة: "يتضح أن إدارة مهرجان وثائقي يقام في بلد يؤمن بحرية التعبير تعتقد أن حياة شعب ما أكثر أهمية من حياة شعب آخر." أمّا "مـؤسسة الفيلم الفلسطيني" فأصدرت بياناً قالت فيه إن إدارة المهرجان التزمت الصمت تجاه الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة لمدة خمسة أسابيع، لتخرج بعدها وتوسم الناشطين باللاسامية، بينما كان من المفترض "أن تندد بـاستهداف وقتل الصحافيين الذين يوثّقون جرائم الحرب بشجاعة، إذ قُتل 41 منهم في الأيام الستة والثلاثين الماضية على يد الجيش الإسرائيلي."[2] وحاول المهرجان لاحقاً تبييض صفحته بمنح المخرج الفلسطيني محمد جبالي جائرة عن فيلمه "الحياة حلوة"، وهو عن تجربته الشخصية خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في سنة 2018 عندما أُغلقت الحدود وكان في النرويج ولم يتمكن من العودة إلى غزة، بينما رفضت النرويج تمديد إقامته إلى حين انتهاء العدوان.

تكثر أمثلة الحجب والإقصاء في المؤسسات الفنية الغربية استهدافاً للرواية الفلسطينية خلال الأسابيع الماضية، فقد ألغى متحف وكسنر في أوهايو حلقة نقاش كان من المفترض أن تشارك فيها الفنانة جمانة منّاع بعدة أشكال من معرضها الشخصي[3] الذي تستكشف فيه البيئة والزراعة والقوانين الهادفة إلى إقصاء الشعوب الأصلانية عن الطبيعة، محتجّاً بأن الوقت غير ملائم "لمناقشة منطقة تمرُّ في حرب." وكانت منّاع شاركت في ندوة بشأن الموضوع نفسه في وقت سابق في "مركز الدراسات الفلسطينية" في جامعة كولومبيا، والتي تناولت موضوع فيلمها "يد خضراء" الذي تناقش فيه منع إسرائيل الفلاحين الفلسطينيين من جمع العكّوب والزعتر، وتغريمهم وحبسهم كجزء من خططها لإدارة الطبيعة الفلسطينية "المتوحشة" وإخضاعها وسكانها لسيطرتها الكولونيالية.[4] وكان المنظّمون قد تعرضوا لضغوطات كبيرة لإلغاء المعرض نفسه بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، إلّا إنهم لم يرضخوا لها.

وارتأى متحف بلفيدير 21 في فيينا أن يؤدي دور الرقيب عندما مسح القيّمون أجزاء من شروحات عمل فني في معرض "On the New-Part 3"، الذي افتُتح في 25 تشرين الأول / أكتوبر 2023، على الرغم من رفض المجموعة الفنية صاحبة العمل وهي "Improper Walls"، الأمر الذي أدى إلى سحب العمل والانسحاب من المعرض في يوم الافتتاح.[5] ومع أن العمل يناقش اللجوء والتهجير على الحدود البولندية - البلاروسية، إلّا إن إهداء الفنانة صاحبة العمل عملها إلى "فراس من فلسطين وعلي من لبنان، وكل مَن يعاني التهجير القسري، الذين نجهل أسماءهم، والذين لم تُرْوَ قصصهم بعد"، أثار حفيظة القيّمين على المتحف. وفي كندا فُصلت القيِّمة واندا نانيبوش من الشعب الأصلاني من غاليري آرت أونتوريو، لنشاطها في وسائل التواصل الاجتماعي ضد العدوان الإسرائيلي على غزة بسبب ضغوطات من متحف إسرائيل والفن، كندا.[6] وفي ألمانيا التي شهدت انسحاب 6 من أعضاء اللجنة العلمية لبينالي دوكيومنتا، بسبب طريقة التعامل العنصرية مع عضو اللجنة الكاتب والقيِّم رانجيت هوسكوت خلال الأسابيع الماضية، فقد ألغت السلطات في مدن مانهايم ولودفيغسهافن وهايدلبرغ، النسخة العاشرة من بينالي التصوير الفوتوغرافي (Biennale für aktuelle Fotografie)، وهو بينالي التصوير الأكبر في ألمانيا، وكان مقرراً تنظيمه في آذار / مارس المقبل. فقد اعتبرت إدارة البينالي انتقاد شهيد علم، أحد القيّمين المشاركين من أصول بنغلادشية، العدوان الإسرائيلي على غزة عبر وسائل التواصل الاجتماعي "لاسامية"، بينما اعتبر علم أن ما يقوم به هو ضمن حرية التعبير وأنه يرى نفسه كناشط. وعندما حاولت إدارة البينالي فصله، تضامن معه القيِّمان الفنّيان الآخران: تنظيم وهّاب ومنعم واصف، فقرر المنظّمون من دون تردد إلغاء هذه النسخة من البينالي بشكل كامل.[7]

وقد حذّر الفنان الصيني آي ويوي الذي يُعتبر من أهم المشاهير في عالم الفن المعاصر، من "العنف الناعم" في الأوساط الفنية "الذي يهدف إلى خنق الأصوات" فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وذلك بعد أن أُلغي معرض له في غاليري ليسون - لندن قبل مدة وجيزة من الافتتاح في 15 تشرين الثاني / نوفمبر 2023، عقب تضامنه مع الفلسطينيين في منصة إكس. وقال ويوي في تغريدته التي مسحها بعد وقت قصير: "لقد نُقِلَت في بعض الأحيان، عقدة الشعور بالذنب تجاه اضطهاد الشعب اليهودي، كتعويض إلى العالم العربي. غير أن للجالية اليهودية حضوراً قوياً في الولايات المتحدة مالياً وثقافياً، ومن حيث التأثير الإعلامي، كما أن حزمة المساعدات السنوية لإسرائيل، والبالغة قيمتها ثلاثة مليارات دولار، كثيراً ما وُصفت وعلى مدى عقود، بأنها واحدة من أهم الاستثمارات التي قامت بها الولايات المتحدة. وهذه الشراكة غالباً ما توصف بأنها شراكة مصير." وعلّق أحد الصحافيين على إلغاء المعرض بدهشة، قائلاً: "استنتجنا هذا الأسبوع أنه لا يوجد أحد في عالم الفن محصن ضد دفع ثمن مهني للتعبير عن رأيه بشأن العدوان الإسرائيلي الكارثي على غزة، ولا حتى فنان كبير مثل آي ويوي."[8]

وفي هذا السياق، سارع مدير معهد العالم العربي في باريس جاك لانغ الذي ينظم معرضاً بعنوان: "ماذا تقدم فلسطين إلى العالم"، إلى تقديم موقف داعم لإسرائيل منذ اليوم الأول للحرب. ومع أنه أشار بعد ذلك بقليل، إلى أهمية الالتزام بالقانون الدولي، إلّا إنه لم يصدر عنه أي تنديد بالعدوان الإسرائيلي على غزة، ولا حتى مطالبة بوقف إطلاق النار، على الرغم من تحسّره على قصف المركز الثقافي الفرنسي في غزة، ونعيه "وفاة" محمد سامي، أحد الفنانين الغزّيين المشاركين في المعرض، معلناً في صفحته في الفيسبوك وقوفه مع الفنانين الفلسطينيين "من كل قلبه". وأكثر من ذلك، انتهز لانغ مجازر غزة كفرصة للترويج لمعرضه محاولاً استقطاب الجمهور. وليس ذلك مستغرباً على لانغ الذي وصف المثقفين العرب المناصرين لحملة مقاطعة إسرائيل (BDS) في مطلع سنة 2022 بـ "الخراف"، بل إنه عيّن قيّماً إسرائيلياً لأحد المعارض عن يهود الشرق في سياق حاول نزع الثقافة اليهودية الشرقية عن الثقافة العربية.[9] ولسخرية القدر، كان لانغ انتهى في صيف سنة 2023 من زيارة لقطاع غزة حيث قابل فنانين فلسطينيين، وتسلّم خلال زيارة لرام الله "قلادة النجمة الكبرى" من رئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتيه بالنيابة عن الرئيس الفلسطيني، "تقديراً لدوره في توطيد الروابط بين الثقافتين العربية والفرنسية"، ولـ "مواقفه الداعمة للقضية الفلسطينية!"[10] 

ثورة.. ثروة.. ورقابة

قدَّم الفنان تيسير البطنيجي، وهو من مواليد غزة ويعيش في فرنسا، عملاً في سنة 2013 بعنوان "عاشقان غير مثاليين"، وهو عبارة عن دائرتين من النيون (41 × 20 سم) ثُبّتتا الواحدة إلى جانب الأُخرى: الأولى كَتب في داخلها باللغة العربية وباستخدام النيون كذلك: "ثورة"، والثانية "ثروة". البطنيجي الذي يتميز باستكشافه الحدود الواقعة بين الحضور والغياب، وبين المادية واللامادية، والتي تجسّد صورة من الهشاشة والشفافية، يتلاعب بالكلمات ليزاوج بين كلمتين من غير الممكن أن تلتقيا في الواقع، بل عادة ما تقوّض إحداهما الأُخرى، مقدماً محتوى مشحوناً سياسياً. فالثورة التي تُغرَق بالمال تتحول إلى مشروع تجاري، وعندما تتحكم الثروة في الثورة تحيّدها عن مسارها. ولا يمكن الحديث عن إسكات الرواية الفلسطينية في الغرب من دون الحديث عن تدخّل المال. بل في معظم الأحيان كان المال هو المحرك لتغيير المواقف واختزال الآخر وسيادة الصمت. فعلى سبيل المثال، ضغط الثري الأميركي مارتن أيزنبيرغ، وهو مقتني فنون معروف، على مجلة Art Forum الأميركية، لفصل محررها ديفيد فيلاسكو الذي عمل فيها محرراً لـ 6 أعوام، بعد أن نشر بياناً تضامنياً مع الفلسطينيين في 19 تشرين الأول / أكتوبر 2023، ووقّعه عدد كبير من الفنانين طالبوا فيه بوقف إطلاق النار في غزة، وقد نشرت المجلة في اليوم التالي رسالة دانت فيها البيان "غير المتوازن". وخلف الكواليس، ضغط أيزنبيرغ على بعض الفنانين الموقّعين الذين يقتني أعمالهم، الأمر الذي أدّى إلى سحبهم توقيعهم من البيان. وقالت الفنانة البريطانية هنا بلاك، وهي واحدة من الذين وقّعوا البيان، إن كثيراً من العقائديين المناهضين للفلسطينيين في عالم الفن على استعداد لتدمير الفنانين وقيمة الأعمال الفنية لمجرد الحفاظ على قدرتهم على الحدّ من حرية التعبير فيما يتعلق بفلسطين.[11]

وبتأثير المال، قررت صالة مزادات كريستي استثناء عملَين للفنان اللبناني أيمن بعلبكي، أحدهما وجه لملثم يرتدي كوفية حمراء، والآخر لرجل يضع قناع غاز أسود ويلفّ رأسه بقطعة قماش حمراء كُتب عليها بالعربية "ثائرون". اللوحتان اللتان نُفّذتا في سنتَي 2012 و2015 استُبعدتا بعد أن تلقّت الصالة "عدداً من الشكاوى من زبائنها الأثرياء" بحجة أن العملين مرتبطان بما يجري في غزة، وأن من شأنهما إثارة مشاعر الناس. وقال بعلبكي: "تذكّرني هذه القصة بكيف كان النازيون يقمعون أعمال الفنانين اليهود الشيوعيين الحداثيين بحجة أنها تشكّل إهانة للمشاعر القومية الألمانية."[12]

ومؤخراً، أثار متحف ويتني للفن الأميركي حفيظة مجموعات طلابية أميركية وقّعوا عريضة ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، عندما صرّح الملياردير الأميركي كين غريفين أحد داعمي المتحف الكبار، أن الطلبة المؤيدين للفلسطينيين يجب أن تُدرجهم جامعاتهم على قائمة سوداء. وفي 22 تشرين الثاني / نوفمبر 2023، توجهت مسيرة طلابية غاضبة، ضمن مسيرة أكبر نُظّمت في نيويورك دعماً لغزة، نحو المتحف وأغرقت مدخله بالدهان الأحمر كناية عن تورّط المؤسسة والقائمين عليها في جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة، هاتفين بأن غريفين إرهابي.[13] 

حصان طروادة وغورنيكا غزة

منذ 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 استشهد عدد من الفنانين في غزة ومنهم هبة زقوت مع ابنها، ونسمة أبو شعيرة، وحليمة الكحلوت، وفقد كثيرون عائلاتهم بالكامل، كما دُمرت بيوتهم وحاراتهم ومراسمهم، مثلما دُمرت مراكز ثقافية بينها مركز رشاد شوا الثقافي في غزة. وقد شاهدنا الفنان باسل المقوسي عبر وسائل التواصل الاجتماعي يحاول إخفاء أعماله الفنية بلفّها ببطانيات ووضعها تحت طاولة، قبل نزوحه. أمّا الفنان ميسرة بارود، فلم يفقد بيته فقط، بل مرسمه وجميع أعماله الفنية أيضاً. ولا تزال الرواية عن مصير الفنانين وفنّهم ناقصة في ظل تواصل التدمير وشُحّ المعلومات. وقد يحاول العالم أن يغمض إحدى عينيه عمّا يجري، وينظر بالعين الأُخرى إلى مصالحه ويتّخذ مواقفه بناء على ذلك، إلّا إن الفنان الفلسطيني لم ينفكّ خلال الأعوام الماضية عن إيجاد لغة بصرية مشتركة لإيصال أفكاره وشرح قضيته، لعل وعسى أن يَحدث تغيير يوماً ما.

الفنان تيسير البطنيجي الذي فقد مؤخراً عدداً كبيراً من أفراد عائلته ومجموعات مبكّرة من أعماله الفنية في غزة مسقط رأسه، عاش حالة من التيه القسري ما بين الحدود، ليستقر في النهاية في فرنسا في سنة 2006، حيث أنجز مجموعة من المشاريع تحاول الحديث إلى الغرب بلغته، مثل مشروع GH809 أو (بيوت غزة 2008 - 2009). فبعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 2008 / 2009، والذي أسفر عن استشهاد 1300 فلسطيني، وتدمير عدد كبير من البيوت، حاول البطنيجي أن يقرّب موضوع هدم البيوت من الجمهور الغربي. فاستخدم 20 صورة لبيوت غزة المدمرة كي تبدو من بعيد كأنها مجموعة من الإعلانات العقارية المعلقة بالطريقة التي يستخدمها السماسرة للإعلان عن تأجير أو بيع بيوت في مكاتبهم العقارية. لكن عند التأمل في العمل، نجد تفصيلات لبيوت دُمّرت في غزة: وصف للبيت، وموقعه، ومدى قربه من البحر، وعدد غرفه، وعدد الأشخاص الذين عاشوا فيه. يقول البطنيجي: "أحاول استخدام أمور مألوفة بصرياً في الشارع الغربي من أجل الحديث عن تجربتي وبلدي، بعيداً عن الخطاب السياسي المباشر، ومن دون لعب دور الضحية. فالناس ترى أخبار القصف والانفجارات من دون أن تتوقف عندها. وأرى في اللغة البصرية المألوفة حصان طروادة أدخل من خلاله إلى الناس."[14]

 

تيسير البطنيجي، GH0809 (بيوت غزة 2008 - 2009 )، 2010 

 

وضمن الإطار نفسه، اختار الفنان هاني زعرب في سنة 2013، أن يحاكي مجموعة من اللوحات المشهورة في مشروع باسم "عذراً.."، ومنها لوحة مشهورة للفنان العالمي لوسيان فرويد بعنوان "غرفة الفنان" (The Painter’s Room) (1944)، والتي يطلّ فيها رأس كبير لحمار وحش مخطط بالأحمر والأصفر عبر نافذة إلى داخل غرفة المرسم... اللوحة ملهمة للفنان بجميع تفصيلاتها، غير أن زعرب وضع حمار الوحش كله داخل الغرفة وأزال الموجودات كلها وبنى لها جدراناً رمادية عالية (كجدار الفصل العنصري الإسرائيلي) ونافذة وهمية مرسومة على الجدار، كما رسم جناحين صغيرين للحمار الوحشي لا يتلاءمان مع ثقله وسمّاها "عذراً لوسيان فرويد، هذه حجرة الفنان"، في إشارة إلى الفنان الفلسطيني الذي يجد نفسه محاصراً ومحدود الحركة بين أربعة جدران عالية. ففي هذه اللوحة، اختار زعرب حماراً وحشياً مشهوراً ليوصل فكرة الحصار على غزة والجدار العنصري.

أمّا الفنان محمد الحواجري، فأنتج سلسلة من الأعمال باسم "غورنيكا غزة" (2010 - 2013) مستلهماً أعمال فنانين أوروبيين من عصر النهضة، وهي أعمال مألوفة للجمهور الغربي، وذلك في محاولة منه لأن يوصل رسالته. وقد غيّر الحواجري في هذه الأعمال كي يجعلها تعبّر عن الواقع الفلسطيني، فأعاد إنتاج عمل "الحرية تقود الناس" للفنان الفرنسي إغوين دولاكروا (1830) الذي يصوّر الثورة الفرنسية وقمعها، بحيث أصبحت المرأة في وسط المشهد فلسطينية تلتفّ بالكوفية وتحمل علم فلسطين، بينما تلوح في الخلفية عمارات مهدّمة ونار مشتعلة في سماء يتصاعد فيها دخان أسود كثيف كأنه يمثل مشهداً من غزة اليوم، مضيفاً صور كولاج لطفل شهيد وطفل آخر غاضب يسير أمام مبنى مهدّم، وتبدو طائرات الموت وهي تحلّق في السماء. يأخذ الحواجري النضال الفلسطيني ويحاول أن يضعه في سياق نضالات غربية معروفة، ليقول إن القضية الفلسطينية هي قضية نضال وتحرر وطني. وقد عُرضت مجموعة من هذه الأعمال في النسخة الأخيرة في دوكيومنتا (13)، لكنها لم تلقَ استحسان الصحافة الألمانية التي استهجنت تشبيه الوضع الفلسطيني بأي ثورة أوروبية، بل ربطتها بمعاداة السامية ومعاداة إسرائيل.

لعل استخدام لوحات لوسيان فرويد، وغورنيكا لبابلو بيكاسو، وغيرها، كحصان طروادة للوصول إلى الجمهور الغربي قد نجح في الوصول إلى بعض الجمهور، ولعله كذلك يعبّر عن روح المقاومة لدى الفلسطينيين، مقاومة الوضع القائم. لكن هذا الاستخدام، مثلما يبدو، لم يمسّ بتوجهات كثير من المؤسسات الفنية الغربية الكبيرة التي كانت ولا تزال محاولاتها لإشراك فنانين من دول الجنوب العالمي في فاعلياتها مجرد "ديكور" أو قشرة تضفي عليها المظهر الأخلاقي الذي تبتغيه لا أكثر، من دون أن يؤهّلها ذلك لأن تكون نصيرة لقضايا تحررية أو للفنانين أو لشعب يقع في فلسطين تحت نير أطول استعمار في العصر.

 

المصادر:

[1] للمزيد انظر: إدوارد سعيد، "تأملات في المنفى"، في: "تأملات حول المنفى ومقالات أُخرى"، ترجمة ثائر ديب (بيروت : دار الآداب، ط 2، 2007)، ص 133.

[2] انظر:

In Response to IDFA’S Damaging Statement on 11 November 2023: Our Statement and Demands”, “Pavilion Online”, 11/11/2023.

[3]Taylor Dorrell, “Wexner Center Cancels Panel Event Featuring Palestinian Artist”, “Matter News”, 26/10/2023.

[4] شاهد فيديو محاضرة جمانة منّاع في صفحة "مركز الدراسات الفلسطينية" (Center for Palestine Studies)، جامعة كولومبيا، في موقع "يوتيوب"، في الرابط الإلكتروني.

[5] انظر بيان الانسحاب في:

The Myth of the Liminal Old-Growth”, “Improper Walls”, 25 October 2023.

[6] Karen K. Ho, “Indigenous Art Curator Wanda Nanibush Leaves Art Gallery of Ontario, Prompting Questions”, “ARTnews”, 22/11/2023.

[7] Anna Lentchner, “Germany Cancels Entire Biennale Over Curator’s Facebook Post”, “ArtAsiaPacific”, 23/11/2023.

[8]Hakim Bishara, “Ai Weiwei Speaks Out on Cancellation of His London Exhibition”, “Hyperallergic”, 15/11/2023.

[9] إلياس خوري، "يهود الشرق واليهود العرب"، "القدس العربي"، 6 / 12 / 2021.

[10] "نيابة عن الرئيس: اشتيه يقلد رئيس معهد العالم العربي النجمة الكبرى من وسام الثقافة والعلوم والفنون"، "وكالة الأنباء الفلسطينية" ("وفا")، 24 / 7 / 2023.

[11]Daniel Boguslaw and Natasha Lennard, “Bed Bath & Beyond Scion Pressured Artists to Retract Gaza Ceasefire Call in Artforum Letter", “The Intercept”, 26/10/2023.

[12]Western Cultural Institutions Dissociate Themselves from the Palestinian Cause, and More Broadly from Arab Artists”, “Globe Art”, No date.

[13]Hakim Bishara, “Whitney Museum Entrance Doused with Fake Blood”, “Hyperallergic”, 23/11/2023.

[14] تيسير البطنيجي. (باريس / رام الله، 20 / 7 / 2023، مقابلة أجرتها رنا عناني).

Author biography: 

رنا عناني: كاتبة في الفنون البصرية.