The Line of Distance: Point Blank in Gaza
Full text: 

لم يكن الطاهر وطّار يعرف أن "عودة الشهداء" في غزة لا تحتمل الوقت والسير تحت الركام، ولم يدرك رولان بارت أن "صفر الكتابة"، بعد تحقيقه الرمز الموسيقي، سيحقق صفر المسافة في فلسطين وغزة تعيش " طوفان نوح"، معركة "طوفان الأقصى"، والتي صارت ساحة حرب بعد "وحدة الساحات" في الضفة الغربية والقدس وفلسطين 1948  والسجون والشتات. إذ لا وقت ولا مكان غير صفر يد الفدائي في وجه عدو طار في سماء غزة واقترب من الأرض في الدخول البرّي فقفز "قلب الحمار" من أسطورة بلعام معلناً الخوف بين جنوده.

وكي تكون المسألة أكثر تجذراً عضوياً بين معادلة الحرب والنصر والكرامة الوطنية، فإن المعركة التي طوت صفحة المفاوضات المخجلة مع عدو لا يفهم لغة الأخلاق ولا معنى الفدائي السياسي وقد رفع الأخير رايته نحو ربوع فلسطين، حققت الكتابة الفعلية في 12 آب / أغسطس 2021، وهي "درجة صفر المسافة". كان الجدار يحمل قلبه وكلمة "القدس" على الجدار، في انتظار "صورة العائد" من غزة إلى فتحة في جدار، ضيقة المساحة واسعة الأفق. اقتربت يده من الجدار وصارت العودة كلمة في رأس العدو.[1] حينها، كانت انطلاقه المسافة صفر في غزة تلوح في "النشيد الجسدي"، إذ حقق الفدائي صورة الشجاعة المطلقة في سجايا المسافة المستحيلة. كانت صورة رمزية اتخذت الواقعية فيها شكل الفعل، وأصحبت سؤالاً في سجل الأيام الفلسطينية: كيف حقّق الفلسطيني المطارِد هدفه من المسافة صفر وراء الجدار، واستمرت مسيرات العودة حتى جاء الطوفان الأكبر والأخطر، "طوفان الأقصى"؟

 

الشاب الفلسطيني يطلق النار من فتحة في الجدار على حدود غزة على رأس القناص الصهيوني

 

قديماً كتب مفكر من بلد يشارك في العدوان على غزة اليوم، سطراً قصيراً في سرد طويل: "‏لا أدب بدون أخلاقية اللغة."[2] غير أن المقاوم يواصل كتابة سطره الذي لا ينتهي بنقطة عبور الفدائي من المسافة صفر، المسافة التي تستحق المديح، والرقم الذي طال إهماله إلى أن أعاد المقاومون الفلسطينيون الحياة إليه قبل الطوفان وبعده. قبل حرب واحدة "في غزة المحاصرة، وعلى الرغم من تثبيت المقاومة الفلسطينية الباسلة معادلة الردع بالحديد والنار، حَرَم 'السلكُ' أبناء غزة، أيضاً، من حميمية الاشتباك من المسافة - صفر مع العدو، اللهم في لحظات النزال العسكري المجيد، وفي مسيرات العودة التي لم تنجز هدفها بعد."[3] كان هذا قبل طوفان "سيف القدس" يسير بين الناس رافعاً إصبعين في دلالة على النصر، وحين أعلنت دولة العدو حرب "السيوف الحديدية" كانت عين الضفة على مسافة الصفر، وجاءت لحظة الصفر لتعلن موعد الاشتباك المباشر في غزة. كانت غزة العنقاء تنظر وتنزل من سياج السماء على الرغم من سطر الحصار الذي يتضح من فعل العدو الكارثي في تطويق الأرض بالأسلاك والشوك على محيط غزة التي حوّلها العدو إلى سجن محاصر في ملهاة الزمان والمكان والمستحيل. دخل هذا كله في جماليات الصورة والعمل، بينما كان سؤال الفلسطيني إشارة إلى الاستحالة الثورية. لكن "طوفان الأقصى" جاء من غزة ليعلن أن العودة إلى القدس والمدن المهجرة وفلسطين التاريخية خرجت من حدّ المستحيل إلى حدّ الواقع، وأنها غير قابلة للتفاوض ولا لشروط التنازل التي أوجدتها القمم العربية والمؤامرات الدولية. 

مسافة الطوفان

في غزة، خلف "نوافذ البحر" وأمام مستعمرات العدو، صار الفعل المستحيل في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 ممكناً وقريباً من فلسطين المحتلة. لقد جاءت لحظة استكمال مشروع التحرر الثوري حين أخذت المقاومة الفلسطينية الباسلة تدكّ "غلاف" العدو. لقد اقتلعت المقاومة الباسلة وجندها القادمون من الجو والبحر والبر الأسلاك التي خنقت غزة، وحوّلت الدولة المستوطنة إلى فرجة في مشهد أيقظ العالم ونظامه المنكفىء على سلام الاستسلام الذي رفع راية التواطؤ لعدو يرفض الوجود الفلسطيني أصلاً. في غزة تتسارع اللغة بشأن الحدث والصورة لتصف ببلاغتها الثورية كلها، الجمال النضالي لموكب الحرية المزيّن بأسماء الشهداء ومعانى الإرادة الوطنية فوق أرضنا السليبة. وفي غزة، أيضاً، سقطت قيم الحداثة وازدواجيات الأنظمة والقانون الدولي الساقط قبل السقوط الأخير.

وجاءت هذه التحولات الكبرى كي تشدّ الانتباه وتتابع السؤال: ما الذي حدث ويحدث وسيحدث بين العدو النائم في أعياد الأسطورة، وبين المفكّر الثوري اليقظ في فلسطين الواقع؟ يتقدم المفكّر نحو المسافات البعيدة لجسد المقاومة الفلسطينية السرّي، ويتنوع الأسلوب في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، ليعود الفلسطيني إلى جغرافيات النكبة مكملاً دور جثامين الشهداء الذين دخلوا ثلاجات العدو ومقابر أرقامه وعادوا إلى جغرافيات فلسطين المحتلة برسم التحرير. هكذا تحيا الجغرافيا المطموسة بين يدَي مَن يحرر الأرض من مضمون المعارك المعجزة. يعود الفلسطيني المقاوم ومَن معه ممّن لم تنل منهم "لعنة الانتطار الطويل" وهم يتحسّسون عيونهم وقلوبهم على الملأ لكسر بوصلة الحصار واستبدالها ببوصلة الصفر الذي خلخل سيطرة العدو. يستمر الفاشي في عدوانه واصطدامه بصفر الطلقة والبندقية والقذيفة العائدة مع جسد الفدائي نحو فلسطين "المحروسة" بنيران الاحتلال منذ عقود رعتها مهزلة القرارات الدولية الباحثة عن مسخرة الحل السياسي الذي لا يحل شيئاً في فلسطين، ولا يفعل شيئاً غير تمكين العدو وإعطائه فرصة من الأعوام الضائعة لتكريس سلطة الاستيطان وهندسة أيديولوجيا القهر اليومي على غزة لقتلها على مهل. 

صفر الفدائي

ثمة عمق في المسافة صفر التي تختصر المسافة التدريبية التي خاضها الفدائي المقاوم بينه وبين فهمه للكون ولفيزياء العدو. ومن تلك المساحة، وضعت المقاومة الفلسطينية في غزة الجسد في مركز الصفر وعلى رأسه، وتكوّن الخطاب وصار أحد درجات قوة الصفر. يظهر "المثلث الأحمر" الذي ربطته بعض التصميمات بالمثلث الأحمر في العَلَم الفلسطيني، في المقاطع المصورة لبسالة المقاومة وانتصار الإصبع على الدبابة. وتشاهد عيون العالم كيف تلتحم الأيادي المجردة إلّا من الإرادة مع أسلحة تتطور في اتجاهات اللاسامية التي تخوض حروباً مدعومة بأساطيل الإمبريالية والنظم الغربية وأسلحتها الفتاكة وتخاذل الرجعية العربية وصمت الرسمية الفلسطينية على غزة التي يأكلها غبار الحرب، وينهض من أرضها صفر "الطوفان المجيد" في قصيدة فدائية إنسانية. لقد انتظرت هذه القصيدة الحربية اللحظة والمساحة الحاسمة لتلتحم مع عدو حاول السيطرة على الكون بروايته المزيفة، وصار احتلالاً ذا رخصة ضارّة وغير محتملة.

وكي نكون أكثر قرباً من غزة، فلا بد من رؤية ما تمارسه الصهيونية من تضييق على الفلسطينيين في سائر الجغرافيات الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس وفلسطين 1948 والسجون وصولاً إلى الشتات الذي صار فلسطين الخارجة من منامات الحالم بالعودة الأكيدة مهما يَطُلْ انتظار "صورة العائد" وإجابة سؤال النكبة "إلى أين تأخني يا أبي؟" هنا، تكون المسافة هي صفر حقيقةِ نُظُم رجعية قررت السكوت عن ضيق الحياة في فلسطين، وعمّا تفعله الصهيونية الإسرائيلية وشقيقتها العالمية في فلسطين. وغزة لا تزال في ظلمة دامسة بلا ماء ولا كهرباء ولا اتصالات، وبلا خبز ولا تطبيب بعد أن دمّر العدو البيوت والمستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس والمخابز والمطاحن وملاجىء الإيواء. في غزة الكل ينتظر دوره، وبينه وبين مساحة جسده يرسم خريطته نحو التحرير والعودة والحرية التي تعمل على إنجازها المقاومة الفلسطينية. هنا، تغدو المسافة أقرب من لحظة الانتصار المحمول على المعاناة التي وصفها إدوارد سعيد، إذ لا مستقبل فلسطيني من دون القدس وغزة، فغزة "تمثّل جوهر القضية الفلسطينية لكونها ذلك الحجر الجهنمي المكتظ باللاجئين المعدمين المتعرضين دوماً للاضطهاد، والذين كانوا على رغم ذلك، ولا يزالون، دينامو المقاومة والنضال ضد الاحتلال."[4]

ولو سمعت الرسمية الفلسطينية مقولة إدوارد سعيد لاعتذرت عن الهرولة إلى المفاوضات، ولسلكت طريق الوحدة والتوازن بين الخطاب الرسمي والفعل المقاوم في مسافة صفرية تبشّر بالنصر المحقّق. لكن الفدائي لم ولن يعتذر عمّا يفعل، والسياسي لن يصغي، وهذه المفارقة ستسم انتصار الثورة الفلسطينية في كبرى معاركها في غزة وجنين ونابلس وطولكرم والقدس وفلسطين 1948 والسجون وفي جبهات المقاومة في الجنوب اللبناني والجولان والعراق واليمن. من الصفر تبدأ خطواتنا في هذا الطريق الطويل ونحن نقترب من خط النصر ونعطي العدو والعالم درساً أخلاقياً سيستوعبه ولو بعد حين. بفعل المقاومة وصبر غزة وشرف جثامين الشهداء وأشلائهم وصمود المشردين... صارت جثامين الشهداء المحتجزة في ثلاجات العدو ومقابر أرقامه على أول طريق العودة، والأسرى يتهيأون للحرية، واللاجئون للعودة، والقدس تقترب منا ونقترب منها، وفلسطين على موعد مع النصر: هنا كان شعبي، هنا صمد شعبي، وهنا سينتصر. 

تلاوين من غزة

لقد رسم 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 ثورة جديدة في غزة وعموم فلسطين وجبهات المقاومة في بلاد العرب التي لا تزال على عهد التحرير. كان سبت البداية في سماء فلسطين وبرِّها وبحرها التي صارت ممر الفدائي ونفقه وممرّه إلى فلسطين التاريخية، محققاً نبوءة سطر حسين البرغوثي الأخير: "فلسطين الطيبة الحرَّة وطني الذي ليس لي سواه؛ وباسم هذا الأفق قلت وسأقول للظلم ظلماً في عينه، وباسمه اخترت الانحياز للضحايا بدون أن أحوّل 'الضحية' إلى نموذج أسمى. وبمقدار ما نحن ضحايا أنحازُ لنا، وبمقدار ما نحوّل كوننا ضحايا وأبطالاً إلى مثال أسمى أنحازُ ضدنا، فمسكين الوطن الذي يفتقر لأبطال، ومسكين الوطن الذي يحتاج لأبطال."[5]

فهل تنهش المستعمرات طريق الفدائي من غزة وإليها؟ سؤال يتردد بالصوت والصورة حول المدن الفلسطينية المحتلة. يردده المقاوم في لحظة الاشتباك، ويطرحه السياسي الرجعي بشأن الحلول السياسية مع العدو في لحظة الاستسلام. وهذا أمر لم تعرفه من قبل قواميس المقاومة والحرية. من هنا، نجد في غزة المقاوِمة طريق العائدين قصيرة المسافة، طويلة التأمل والفرح على الرغم من الألم، وشعاره بين يديه وفي قلبه وثنايا روحه وجسده الجريح: إلى وطني سأعود حاملاً أحلام الشهداء والأسرى واللاجئين.

في الواقع اليومي للحالة الاستعمارية في فلسطين لا نفع للحل السياسي المتأخر الذي طُرح على الفلسطينيين ليقبلوه ولم يلتزم به الاحتلال، بل واصل توسّعه على مرأى الكون. وفي المقابل، يكتب الحل الثوري روزنامة اليوميات الفلسطينية بشأن ما حدث ويحدث وسيحدث في غزة. أطفال غزة يكتبون أحلامهم على الرغم من الأسى والفقد، ويسأل صحافي طفلاً لاجئاً من أهوال الحرب إلى المدرسة التي صارت بيته الموقت: "ماذا تريد أن تصبح حين تكبر؟" فيردّ الطفل: "نحن أطفال فلسطين، لا نكبر." هذا السطر الواقعي صار في الثقافة القاسية أجمل سطور التاريخ لما يحمله من فلسفة ثورية وهوية المؤمن بحقه في وطنه وفي الحرية، وإن كان يقترب من تلقائية الشاعر. لقد صار طفل غزة شاعر جيله وشاعر فلسطين المقاوِمة، يعطي الكون حقه في الانتباه، ويأخذ منه قسوته قبل رحيله المنتظر. في غزة، تتسارع الأيام وصار ملح البحر ماء الفلسطيني الذي قطع عنه العدو ماءه العذب وكهرباءه، وقصف مطاحن قمحه ومخابزه، وصار الهواء غذاءه، والعراء مسكنه، والشمس نور عينيه في طريقه إلى الخلاص والحرية. 

السطر قبل الأخير

طاردت الدولة الاستعمارية سطور الفلسطينيين حتى يستعصي على المرء الفهم، لكن "الصيغة كلها حمقاء"، مثلما قال حسين البرغوثي مرة، وجسد الفلسطيني لا يختفي من صفحة الحقيقة. مَن يكتب السطر الأخير في مسيرة الحرية؟ إن دخان الحرب في غزة لم يكن أزرق كألوان الله، وإنما صارت غزة مثلث النقطة صفر الحمراء بين ألوان العلم: أحمر، أسود، أبيض، أخضر. والفدائي يحمل أطفاله ويسير فوق ركام الحرب، وبقية الروح في غزة على خطى أبطال "نفق الحرية" من سجن "جلبوع" في بيسان إلى أول الحرية وآخر الظلم. على سبت غزة يستيقظ العالم من عسل نومه وظلمه على المعجزة الفلسطينية التي أعلنها محمد الضيف ويحيى السنوار تحقيقاً لحلم محمود العارضة وزكريا الزبيدي، ونهاية لآلام وليد دقة، وللظلم الذي لحق بإخوانهم ورفاقهم وحرائرهم الأسيرات في سجون العدو. ينشغل العالم اليوم بمعجزة غزة، صوتاً وصورة: كيف دخل الفلسطيني بمقاومته أرض الحلم المستحيل؟ كيف عبر إلى مستعمرات العدو وقواعده العسكرية الجاثمة على صدر الوطن؟ إنه سبت المستوطنين النائمين في حقل الأعياد والأسطورة، وسبت العالم الذي يشاهد تحقق عودة الفدائي بالمسافة صفر مع العدو إلى المسافة صفر مع الأرض المحتلة. يبكّر الفدائي وهو يردد أغنية أبو عرب "يُمَّا سرينا الصبح"، ونشيد الحسين الشهيد "ومَن تخلَّف فلن يدرك الفتح"، إلى فلسطين الجميلة التي لن تكون إلّا عربية.

 

المصادر:

[1] ضمن مسيرات العودة في غزة المحاصرة، تقدّم شاب فلسطيني من خلف فتحة الجدار الذي على حدود غزة، وأطلق الرصاص من مسافة صفر على رأس قنّاص صهيوني يدعى "بارئيل شموئيلي"، فأرداه قتيلاً.

[2] رولان بارت، "الكتابة في درجة الصفر"، ترجمة محمد نديم خشفة (حلب: مركز الإنماء الحضاري للدراسة والنشر والترجمة، ط 1، 2006)، ص 20.

[3] عبد الرحيم الشيخ، "في مديح المسافة - صفر"، "باب الواد"، 16 / 5 / 2021.

[4] إدوارد سعيد، "غزة – أريحا: سلام أمريكي" (القاهرة: دار المستقبل العربي، 1994)، ص 94.

[5] عبد الرحيم الشيخ، "سطر حسين البرغوثي"، مجلة "رمّان"، 20 / 3 / 2021.

 

Author biography: 

محمود بركة: يحمل درجة الدكتوراه في الإعلام السياسي، وباحث إعلامي في منظمة التحرير الفلسطينية، ومهتم بالشأن الثقافي الفلسطيني.