يرتبط البحر بغزة، ليس فقط لأن طفولتي كانت قريبة من البحر، بل لأن غزة والبحر يلتقيان في كثير من التناقضات أيضاً: الهدوء والهيجان؛ الاتساع والضيق؛ الصفاء والغموض؛ الضحك والبكاء. وغزة متطرفة كالبحر في صبرها وضيق صدرها وضحكتها وغضبها.
أترك نفسي للبحر عندما يكون هادئاً وأثق به ليحررني، لكنني أخافه عندما يهيج وتضرب أمواجه جدار ميناء غزة، وتتطاير مياهه لتبلّلني حتى لو كنت بعيداً عنه. هكذا تفعل غزة بي. ما أجملها هادئة، تشعر بأن الدنيا ترقص لك طرباً، وما أقساها عندما تثور: تشعرك بأنك متواطىء، وتثير فيك الغضب حتى تبللك الدموع.
تُشعرني شوارع المخيم فيها بالحرية، وخصوصاً الركض حافياً، ومطاردة الأصدقاء / الأعداء في اللعبة، وتجميع أغطية زجاجات "الهابي" (مشروب يشبه الكولا من صناعة غزة – لاحظوا الاسم)، وصنع "الداحول" (دولاب دوَّار يُصنع من أغطية زجاجات "الكازوز" ويتم وصله بعصا ليسوقه الأطفال كلعبة بلا تكاليف)، والتزلُّج على لوح خشبي تحمله أربع عجلات لثلاجة انتهى عمرها الطويل، وتبرّع بها مصلح الثلاجات لنا. أستطيع أن أسرد الكثير، لكن البحر دائماً كان الوجهة حتى في اللعب، وخصوصاً في فصل الصيف. كنت أشعر بأنني أمتلك البحر على الرغم من خوفي منه، وعند اكتشاف أمي لملابسي المبللة، كانت تصرّ على عدم الذهاب إلى البحر. بعدها بتّ أستعير السروال الداخلي من أي حبل غسيل في أي مكان في طريقنا إلى البحر، ومع ذلك، فإن أمي كانت تكتشف ذهابي إلى البحر حتى لو اضطررت إلى "تذوّق" جلد يديّ بلسانها.
كلام الصورة: مخيم الشاطىء، غزة، 2012، تصوير المؤلف
يصيبك البحر بالذهول ويجبرك على الصبر والجلد والانتظار، لكنه في الوقت نفسه يغريك بالمغامرة المجهولة الموعودة التي غالباً ما ترضخ لها.
ترى تلك المغامرة في أوجه الصيادين الذين يُحضرون حصادهم إلى مسمكة غزة التي تعجّ بالصيادين وبائعي السمك و"المعلّم" الذي يحدد أسعاره في ذلك اليوم، وتذمّر الصيادين. منظر مهيب مع بداية شروق الشمس على استحياء بحيث ترى بدايات زرقة البحر وهدوئه اللذين يصاحبهما صراع بعض السمك الذي لا يزال يقفز في محاولة يائسة للعودة إلى مياهه. تقفز "الشيخ والبحر" أمامي، وتلعب كلمات "حنا مينة" في جسدي. ساعات قليلة تفصل بين وصول هذه الأسماك إلى المسمكة، ثم إلى سوق "الشاطىء" كي يتناول "سامي الحمَامي" فطوره قبل المدرسة الابتدائية التي كنا نتشارك فيها "دُرْجَ" الصف الرابع أو الخامس...
البحر صبر ومغامرة وحرية. وغزة كذلك.
غزة أيضا سماء. السماء الواسعة البعيدة الصافية والملبدة، التي تحمل الطائرات المسافرة والقاتلة. السماء أيضا تحاصر غزة من أعلى، وغزة تحاول دفعها إلى الأعلى لتفتح فتحة إلى الله، وتعيد ترتيب النجوم بطريقتها. وعندما تشتد حرارة غزة يؤدي البحر دوره، تماماً كالسماء التي تبدأ بالمطر والرصاص. غزة تهدر وتكفهر وتبكي.
أذكر المتظاهر في جواري في بداية سنة 1988 وهو يعلن عن أهدافه للانتفاضة الكبرى: "كل اللي بدنا إياه غزة والضفة والقدس. بَسْ، ما بدنا أكتر." بعد المطر، تمتلىء شوارع غزة بالبرك المائية التي تعوق وصول طلبة غزة الصغار إلى مدارسهم في المخيمات كلها تقريباً، فيضطرون إلى "عبور" تلك البرك بأحذية من إنتاج سنة 2021 التي اختلفت عن أحذية أواخر الثمانينيات. أتذكّر مختلف تلك الأحذية (الصندل، الزحّافة، الحفّاية، الزنّوبة، وغيرها) التي كانت تنطلق من "الشاطىء" لتغطي شارع "النصر" في عملية تضامن كبرى مع حي "الشيخ رضوان" الذي دعانا إلى فكّ حصار الأعداء على المسجد. ففي الثمانينيات، ما إن تظاهرت جباليا بعد استشهاد ستة (6 وليس 6 آلاف) حتى احتجّ مخيم "بَلَاطة" في اليوم التالي على الرغم من "بُعد" الطريق بينهما. وتبعتهما بعد ذلك جنين وخان يونس والقدس ورفح وقلقيلية وعقبة جبر والناصرة ووو... كل فلسطين.
الطريق إلى غزة من رام الله أو القدس ساعة ونصف بسيارة مرسيدس صفراء تتسع لسبعة ركاب، بينما الطرق داخل مخيمات غزة قصيرة وضيقة، ولا سيما داخل معسكر الشاطىء. كنا نجوبه يومياً من أوله شرقاً إلى آخره غرباً حتى شاطىء البحر، وضحكاتنا تجلجل. ولا داعي لسرد شقاوة أطفال هي أقرب إلى تنغيص حياة الكبار. الطرق في غزة خارج المخيم واسعة، والبيوت كذلك، وخصوصاً تلك التي تحتوي على فاكهة المانغا التي "استعرتها" أيضاً كي أتذوّقها من دون إذن أصحابها. الطريق إلى مدرسة "سعاد الصايغ"، أو مدرسة "صلاح الدين"، أو مدرسة "الكرمل"، تجبرني على رؤية مستشفى الشفاء يومياً، المستشفى الذي هدمه العدو ونكّل بطواقمه ومرضاه في حرب الإبادة هذه التي تجري اليوم في سنة 2023. رحلاتي اليومية مع "محمود" أو "رفيق" لا تزال عالقة في ذاكرتي، والطريق إلى سينما "الجلاء" وسينما "عامر" و"جمعية الشبان المسيحية" تُشعرني باتساع العالم. تلك الطريق بين سينما "عامر" و"جمعية الشبان المسيحية" كانت تؤدي إلى نهاية ما في حي "النصر" حيث كان يسكن "كامل" المعجب بمايكل جاكسون في لون بشرته ولباسه.
أمّا الطريق الأقصر فهي بالتأكيد إلى "الساحة" الرملية للعب "الكورة" اليومية مع حسين وأنور وأكرم وصبحي ونعيم ومحمد وأحمد وأسعد وعبد ومحمود ومصطفى كي يتنافس "الزملكاوية" و"الأهلاوية". طالت الطريق قليلاً بعد إغلاق الفتحة المؤدية إلى تلك الساحة بالبراميل الأسمنتية في أواخر الثمانينيات. الطريق إلى غزة بعيدة وطويلة جداً: أحسبها منذ غادرتها بالأعوام: ثمانية وعشرين عاماً وستة أشهر وبضعة أيام. كبرت أمي فيها، وكبرت أنا خارجها من دون أن نتعرّف بما يليق بالابن أن يتعرّف إلى أمه...
الطرق ذكريات وأمل بلقاءات ستأتي إلينا أو نأتي إليها.
الناس في غزة يشبهون مدينتهم وقطاعهم وبحرهم وسماءهم وطريقهم. يتّسع صدرهم وحبّهم لأطفالهم إلى حدّ الجنون، الأمر الذي يفسر استهداف "أعدائهم" لهم. وفي الوقت نفسه، يتصايحون، وربما "يتطاوش" بعضهم مع بعض على زمّور سيارة، لكنها "طوشة" جدية. صحيح أنها تنتهي بقبلة على الجبين كأن شيئاً لم يكن، لكن هذا قد يكون موقتاً، إذ قد يتربّص بعضهم ببعض، ولو بعد حين، فيتصايحون في أجمل المناسبات وأقساها: في حفل زفاف، مثلاً، عندما "أخطأ" رجل ودخل ليهنىء أخاه العريس وحاول أخذ صورة مع العروسين، فاحتجَّ أهل العروس؛ أو في مراكز الإيواء خلال الحروب المتكررة مثل حرب 2023 حين "نزح" الآلاف منهم إلى مدارس وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، بينما سكنت آلاف أُخرى حول تلك المراكز بعد امتلائها. حتى المدارس تعيد غزة تعريفها: فصفوفها تصبح فجأة مليئة بالحياة، وساحاتها ملأى بنيران مشتعلة خلال النهار للخبيز، ويمكن استخدام "الصاج" أو "القلاية"، أو يقوم الناس بصناعة "فرنهم" الخاص على عجل لخبز عجينهم، حتى لو تخضّب الخبز بالدم بعد الغارة. "كيف يمكن توزيع 650 سمكة على 3000 شخص؟"، هذا إن تجاهلنا الأربعة آلاف الموجودين حول المركز... هذه معجزة تحتاج إلى أكثر من مسيح جديد. "ماذا أفعل لثلاث صبايا وأمهنّ اللواتي يبكين لأنهن لا يجدن مأوى لهنّ في تلك الليلة حتى في مركز إيواء أو حوله، ولا يوجد لديّ متّسع في بيتي لأنه أيضاً ممتلئ؟" ماذا أقول لشخص يصرخ في وجهي لأنه جائع وهو يعتقد أن لديّ طعاماً؟ ماذا أقول لشخص يقسم أيماناً بأن لديه مالاً لكنه لا يجد ما يشتريه في السوبرماركت، وهو وعائلته برسم الجوع؟
هناك حياة لا تظهر على "الجزيرة" ولا "الميادين" ولا غيرهما، فالكل يهتم بأعداد الشهداء. ومثلما تعيد غزة تعريف المدرسة، فإنها تعيد تعريف اللغة والرياضيات والفيزياء من خلال إظهار "تفاهة" الأرقام، وتفاهة كلمات مثل "حصيلة" و"محصلة" و"مجموع"، وجمل مثل: "بلغ عدد شهداء اليوم ..."، كما تعيد تعريف عدة مفاهيم صدّقناها وتبنّيناها لكنها باتت تعرّي أصحابها وواضعيها والمتشدقين بها، مثلاً: تعبير عن رأي؛ ديمقراطية؛ قانون دولي إنساني؛ إرهاب؛ مقاومة. هذه انتفاضة غزة "المعرفية"، وربما تكملها أو تعيد ترتيبها أكثر في المرات المقبلة.
وفي هذا كله، وأثناء هذا كله، تتنافس ضحكات أهل غزة مع بكائهم على درجة الصوت الأعلى. وهذا، بالمناسبة، يشمل جميع ظروف الحياة التي يعيشونها: انتفاضة؛ أيام "عادية"؛ اجتياحات؛ حروب. كما أن نكاتهم تطال أي شيء حتى "أبو عمار"، و"حماس"، وأصحابهم وأعداءهم، وحتى في أشد أيامهم قسوة، كأن يستشهد أطفالهم بالآلاف.
لن يمنع العدوان صديقي عوني من طمأنتي في تشرين الأول / أكتوبر 2023 بأن الوضع تمام، لكن هناك "نقص شديد في البوكسرات." كما حاول ناصر وسائق "الكارّة" (العربة) أن يطمأنا الحمار الذي "جَفَلَ وكَرْبَجْ" بعد قصف طائرات لا أعرف نوعها كي يقنعاه بأن يكمل المسيرة حتى يصلوا إلى البيت بأغراضهم التي اشترياها من السوق. يفتخرون بأنهم من غزة، ويلعنونها، ويلعنون مَن يلعنها... ويبكون، ويضحكون.
يقال إن شمشون أو "شمشوم" الجبار مدفون فيها، أو في صرعة التي في الشمال، مثلما قالوا لنا ونحن صغار، وأذكر كيف حاولنا أن نذهب إلى مقبرة "الشجاعية" لرؤية قبره. جدّ الرسول محمد، هاشم ابن عبد مناف، أيضاً مرّ منها، وربما دُفن فيها أيضاً... لكن مكة تنتصر! الإمام الشافعي الذي دُفن في مصر مع أن مذهبه حي يرزق في غزة! زارها تشي غيفارا الأرجنتيني، وثار فيها جيفارا غزة، وزارها غسان كنفاني... وأعتذر من نساء غزة، أو مَن زرنها من نساء الكون، لقصر معرفتي ومحدوديتها.
غزة أيضاً مقبرة، وخصوصاً لغزاتها القدماء والجدد ومَن سيأتون بعد أن تنهض من رمادها. وأخيراً، يمكننا تغيير ترتيب كلمات الشاعر عبد الرحيم منصور مثلما نرغب: "أنا بعشق البحر، وبعشق السما، وبعشق الطريق، لأنهم حياة."
البحر صبر وصمود. السماء مقاومة. الطريق أمل. فغزة، مثلما قال محمود درويش: "تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا ومن غزاتها في وقت واحد"، و"لأنها كذلك، فهي أجملنا وأصفانا وأغنانا وأكثرنا جدارة بالحب."