Palestinian Patients in the Gaza Strip
Special Feature: 
Full text: 

في سنة 2007، وبعد استلام حركة المقاومة الإسلامية/"حماس" مقاليد السلطة في غزة، فرض الاحتلال الإسرائيلي حصاراً خانقاً على قطاع غزة براً وبحراً وجواً، ووضع عدة قيود على دخول مستلزمات كثيرة إلى القطاع، مثل: الوقود، والمواد الخام، والمواد الغذائية، والأدوية، فضلاً عن القيود التي فرضها على حركة الناس بمَن فيهم المرضى الذين يندرجون تحت "الحالات الإنسانية الاستثنائية". فوفقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية لسنة 2020، فإن ثلث طلبات تصاريح العلاج في الخارج يعود إلى المرضى بالسرطان، والأُخرى إلى الجراحات المتخصصة، وتشخيص الحالات، وأمراض القلب، وسواها من الخدمات الطبية غير المتوفرة في غزة.[1] وهذا الأمر يشير إلى أن المرضى لم تبدأ معاناتهم خلال العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، وإنما هي قصة طويلة من المعاناة والصبر والألم والأمل في آنٍ معاً.

كُتبت عدة أبحاث عن العلاقة بين القوة والانتظار، مع أن الانتظار مفهوم معقد يتعذر اختزاله في تفسير واحد أو سياق محدد، إذ لا يمكن فصل الحاضر عن المستقبل، أو حتى الماضي عن الحاضر والمستقبل، فمَن ينتظر، يكون الانتظار بالنسبة إليه حالة محتومة أو خارجة عن سيطرته.[2] لذلك، خلال الانتظار، القوة هي التي تحدد مَن ينتظر ومَن لا ينتظر، وهذا التصنيف يمثل عنصراً أساسياً للفوارق بين القوى، فالانتظار مرتبط بشكل وثيق بديناميات القوى ضمن التسلسل الهرمي للأنظمة والمجموعات الاجتماعية.[3]

يمثل الانتظار "توتر الذوات ضمن الحدّ بين عالم الحاضر، أو حتى الماضي، اللذين لا يمكن الهروب منهما، وبين عالم المستقبل الذي لا يمكنهم أن يعبروا إليه بشكل تلقائي أو فوري."[4] وبما أن عملي متعلق بمعالجة مشكلة التصاريح في غزة، فإنني سأركز في هذه المقالة على حالة البينية من الخضوع الكامل لحالة الانتظار، والاستسلام لقرار مقبل.

ثمة مواقع انتظار متنوعة تستخدمها الأجهزة الإسرائيلية للسيطرة على الشعب الفلسطيني، وهنالك علاقة متبادلة بين الزمان والمكان والتنقل، تتجلى فيها العلاقة بين الانتظار / الوقت والسلطة في مختلف الزمانيات والمكانيات عند نقاط التفتيش / الحواجز، وبما هو أبعد من ذلك. يتساءل الباحث ميكو جورونن عن كيفية وماهية تقنيات الانتظار التي تعمل كوسيلة للسيطرة على الأجساد والمساحات / الفضاءات، موضحاً كيف يتم توظيف "التأخير / التأجيل" في حد ذاته كاستراتيجيا استعمارية للسيطرة على أجساد الناس،[5] الأمر الذي ينتج منه مساحات مغايرة من الانتظار (على سبيل المثال: انتظار التصاريح؛ انتظار العلاج؛ انتظار الحصول على الأدوية؛ الانتظار داخل الحاجز؛ وغيرها العديد من مساحات الانتظار).

تمزّق آليات وسياسات السلطات الإسرائيلية الفضاء الفلسطيني، على نحو يسمّيه ساري حنفي "إبادة الفضاء"،[6] أي إبادة فضاء فلسطين في إشارة إلى مساحة فلسطين المتقلصة. أمّا نحن فيمكننا أيضاً وصف الزمن الفلسطيني المتقلص باعتباره "إبادة زمنية"، في إشارة إلى الوقت أو الزمن الخانق للفلسطينيين الذين يمرّون عبر نقاط التفتيش / الحواجز وما إلى ذلك، إذ تتم سرقة الزمن الفلسطيني من خلال التحكم في وقت الفلسطيني ومساحته على اعتبار أن لا مكان ولا زمان له، مثلما أشار إلى ذلك وليد دَقّة.[7]

لا تُعتبر الحواجز الاستعمارية أداة مكانية للاحتلال العسكري فحسب، بل حواجز زمنية - وقتية كذلك. وتكشف هيلغا طويل - صوري عن التجارب التي يمر بها الفلسطينيون في أثناء انتظارهم على حاجز قلندية في شمالي القدس، موضحة كيف يتقلص الزمن الفلسطيني، بينما يتسع الزمن الإسرائيلي، وبشكل يؤثّر في تطور الفلسطينيين وتقدّمهم، إذ يشعرون بأنهم عالقون في الحاضر بلا مستقبل، أو في مستقبل لا يمكن التنبؤ به، علاوة على معاناتهم جرّاء التوتر والضغط بسبب ساعات الانتظار الطويلة والازدحام داخل الباب الدوّار. تقول صوري: "عند كل ممر ينتظر المرء لفترة زمنية غير معروفة. وهذه العملية غير متوقعة ومشروطة، إذ لا يعرف الناس أبداً ما إذا كانوا سيُغلق عليهم وهم في داخل الباب الدوّار (وهو ما يحدث غالباً)، أو كم من الوقت سيحتاجون إلى الخروج منه، وما إذا كانوا سيبقون عالقين في الممر المحصن مع آخرين، وما إذا كان هذا 'التجمع' سيستمر لدقائق أو لساعات."[8]

إن العلاقات والممارسات المكانية / الزمانية بين الفلسطينيين والإسرائيليين غير متماثلة جذرياً: فالفلسطينيون يواجهون صعوبة وبطئاً في حياتهم، فضلاً عن عدم قدرتهم على التوقّع / التنبّؤ، بينما يرى الإسرائيليون أن الزمان والمكان يمكن التنبّؤ بهما، ومائعان، وحديثان أيضاً في نهاية المطاف.[9]

في ضوء ما سبق، نرى أن الانتظار لا ينحصر في الأشكال التي ذكرناها فقط، بل إنه يتمثل في مواقع لامتناهية ومتعددة، ولا يمكن التنبُّؤ بها أحياناً. فالقوة والقمع الاستعماري يعملان معاً لإنتاج ممارسات وعمليات بإيقاعات متعددة تجعل حالة الانتظار نشاطاً محورياً في حياة المرضى الفلسطينيين في قطاع غزة للوصول إلى الرعاية الصحية خارجه، وهو نشاط يشمل: نظام التصاريح؛ المرض بأنواعه؛ الانتظار داخل الحاجز وخارجه؛ كيف يعاني الفلسطيني ويتحمل ألمه وتأخّر حصوله على التصريح للعلاج في الخارج على الرغم من المرض. 

انتظار تصاريح العلاج: المستقبل واللايقين

تقول إحدى المريضات التي قابلتها، والتي تعاني سرطان الغدة الدرقية: "يجب أن أتلقى علاج اليود المشع في الخارج، ومرة تلو أُخرى أنتظر التصريح بعد تقديمي الطلب الذي يصلني مرفقاً بجملة 'تحت الدراسة'. أشعر بالمرض الشديد، الأمر الذي يجعل زوجي يذهب إلى عدة منظمات لحقوق الإنسان لرفع قضية ضد السلطات الإسرائيلية. ما زلت أنتظر، وأتمنى أن أحصل على إذن بالخروج خلال عشرة أيام. وإلّا لن أستطيع تحمّل الألم أبداً."

على الرغم من ألم وتدهور صحة المرضى، فإنهم يحاولون جاهدين إيجاد أي طريقة للتفاوض على صحتهم، إمّا عن طريق رفع دعوى في المحكمة ضد الاحتلال الإسرائيلي عن طريق منظمات حقوق الإنسان في غزة، وإما عن طريق إدراج أسمائهم كمرافقين بدلاً من مرضى بعد عدة محاولات للخروج كمرضى.

يشعر المرضى بفقدانهم الإحساس بالحاضر، كأن وقتهم ليس ملكهم، فحاضرهم يهيمن عليه ما سيأتي في المستقبل. وفي حالتهم، يبدو حاضرهم المتمثل في "انتظار التصريح / العلاج" مشروطاً بواقع مستقبلي غير مؤكَّد، ولا يمكن التنبّؤ به مثل الموافقة أو الرفض، أو حتى الوفاة بسبب الانتظار والعملية البيروقراطية. ويرتبط فقدان الشعور بالحاضر بالسلبية، إذ يبقى المنتظِر عالقاً بين الحاضر والمستقبل، الأمر الذي يجعله يشعر كأنه مشلول ومعلَّق في الزمن.[10]

خلال هذا العدوان الإسرائيلي على غزة، أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة خروج أكثر من 40 مستشفى ومركزاً طبياً عن الخدمة، من ضمنها مستشفى الصداقة التركي للأورام، وهو المستشفى الوحيد لعلاج 10,000 مريض بالسرطان. يقول مدير المستشفى د. صبحي سكيك إن هؤلاء المرضى لا يستطيعون العيش من دون فسحة من الأمل، معلناً أن هناك ما يقارب 1000 مريض بالسرطان بأمسّ الحاجة إلى تصريح للعلاج في الخارج. لكن بطبيعة الحال، لا يوجد تاريخ محدد للحصول على التصريح، فمدة الانتظار لانهائية. ولذلك يتعيّن على المرضى الانتظار حتى تصلهم عبر الهاتف المحمول رسالة بالقرار، وهذا الانتظار المفروض عليهم يصعب تصوره أو تخيله.

تقول مريضة أُخرى: "لقد انهرتُ تماماً، وارتفع ضغطي كثيراً. انتطرتُ كثيراً آملة وصول الرسالة النصية على هاتفي المحمول، والتي جاءت أخيراً مرفقة بجملة "طلبك في قيد الدراسة". الطلبات المرفقة بـ "في قيد الدراسة" أو "في قيد الفحص" أو "معلَّق" أو "مرفوض"، تندرج كلها ضمنياً تحت تصنيف "المرفوض". وفي الوقت الذي تمنح هذه الرسالة المريضة شعوراً مزدوجاً ومتناقضاً بين الأمل وخيبة الأمل في آنٍ واحد، فإن مرضى آخرين يعتبرون هذه الرسالة بمثابة خيبة أمل كاملة، من دون إغفال أن نص الرسالة ذاتها يلتقطها آخرون كإشارة أمل، حتى إن كانت وهمية الطابع. ومثل هذه الرسائل النصية يظل يتلاعب في وقت المرضى ومشاعرهم وعواطفهم وأعصابهم وآمالهم وحتى حياتهم، كي تبقى مشاعر الأمل واليأس تتأرجح وتتغير بين وقت وآخر.

ومع أن هذه المريضة حصلت على تصريح للعلاج قبل ذلك كمرضى كثر آخرين، إلّا إن السلطات الإسرائيلية المسؤولة عن ملف تصاريح المرضى تصرّ على التلاعب بمشاعرهم وتعليق حقوقهم في الحصول على علاجهم بحجة الفحص الأمني من دون ذكر سبب للرفض، أو قرارات الفحص بشكل واضح. وهذا الشكل من الانتظار، "انتظار التصريح"، لا يُعدّ الشكل الوحيد للانتظار الذي يتحتم على المريض المرور به، وإنما يُفرض عليه انتظار تصريح مرافقة أيضاً، لكن من دون وجود أي ضمانات بالموافقة. ففي بعض المرات، يُمنع المريض من السفر، بينما يُسمح لمرافقه بالعبور، والعكس صحيح، وهو ما يشكل عبئاً كبيراً على المريض الذي لا يستطيع الحركة من دون مساعدة مرافقه، فيقرر في نهاية المطاف عدم السفر خوفاً من البقاء بمفرده.

تعكس هذه الأمثلة عدم تمتّع المرضى في نظر المستعمِر بأي حصانة خاصة جرّاء خصوصية حالتهم الصحية. فالموافقة على التصاريح أو رفضها منوطان، بالدرجة الأولى، بمزاجية الشخص المسؤول عن ملف المرضى لدى السلطات الإسرائيلية التي تتعامل مع هذا الملف ببيروقراطية عالية، وخصوصاً فيما يتعلق بالتصاريح، بل غالباً ما تعتمد قرارات الرفض على اختلاف في تقدير القرار بين مسؤول وآخر ومن دون سبب يُذكر. وعليه، فإن المرضى الذين يتم رفضهم من دون سبب محدد، يتعذر عليهم، في معظمهم، تجنّب السبب وراء الرفض في المرات المقبلة التي سيقدمون فيها طلب التصريح مجدداً. 

الانتظار داخل حاجز بيت حانون "إيرز"

للوهلة الأولى، يبدو حاجز بيت حانون "إيرز" خالياً من الموظفين، لكن الحقيقة هي على العكس تماماً، فجميع المارّين من الحاجز يخضعون لمراقبة شديدة "من الأعلى" مثلما يصفها المرضى من دون أن يروا مَن يراقبهم، بل يشعرون بأنهم تحت الأرض، بينما الجندي متربع فوق السماء ويحتلها. فالمريض لا يرى شيئاً، في حين أن الجنود يرون كل شيء، وهذا الوضع شبيه بفكرة ميشال فوكو عن سجن "البانوبتيكون"، حيث برج المراقبة هو الآلية الوحيدة للسلطة لمراقبة السجناء من داخل زنزاناتهم بينما لا شيء مرئياً بالنسبة إليهم، الأمر الذي يشكل ضغطاً على السجناء كونهم يخضعون للمراقبة من دون معرفة متى وكيف تتم مراقبتهم.[11] يحاول الفلسطينيون المسافرون عبر الحاجز السيطرة على تصرفاتهم وسلوكياتهم داخل الحاجز، كونهم لا يملكون القدرة على معرفة أو رؤية مَن يقبع بالضبط خلف الزجاج، على الرغم من درايتهم ضمنياً أن ثمة جنوداً إسرائيليين يتربّصون بهم من خلف الزجاج. غير أن فكرة أن تكون "خلف الزجاج" تجعل الفلسطيني يعتقد أن جميع أجهزة الدولة تعمل على مراقبتهم، وهكذا ينمو الخوف في داخلهم أكثر وأكثر ويسيطر عليهم، وهذا عدا كاميرات المراقبة في كل مكان، والمجسّات، والماسحات الضوئية، والأبواب الدوّارة وغيرها كثير من أجهزة المراقبة، والتي يدّعي الاحتلال الإسرائيلي أنها تقنية "متحضرة" لتسهيل حركة المسافرين داخل الحاجز.[12]

يخضع المرضى داخل حاجز بيت حانون "إيرز" لفحوصات من خلال الماسحات الضوئية وتفتيش الجسم والتعري، كما يُجبرون على المشي مسافة 1200 متر، وهم يجرّون أمتعتهم المسموح بها فقط. فالفلسطيني الذي يعبر الحاجز لا يمكنه حمل أي شيء سوى الملابس وهاتفه المحمول من دون شاحنه حتى، كما أن جميع منتوجات العناية الشخصية ممنوعة، الأمر الذي يشكل عبئاً مضاعفاً على المرضى، وخصوصاً على مَن ليس لديهم وضع اقتصادي جيد، فيضطرون إلى شراء ما يحتاجون إليه عند وصولهم إلى الضفة الغربية أو مناطق الداخل المحتل، حيث الأسعار مضاعفة عن تلك التي في غزة. وفي هذا الصدد، تقول نهى المريضة بسرطان الغدة الدرقية، والتي سافرت للعلاج في تشرين الثاني / نوفمبر 2021: "سبق أن سألت بعض المريضات اللاتي سافرن قبل ذلك عبر بيت حانون 'إيرز'، ونصحنني بعدم ارتداء أي شيء معدني، فأزلت الأزرار المعدنية واستبدلتها بالبلاستيكية، كما اتخذت العديد من الاحتياطات." ويشير حديث هذه المريضة إلى أن هنالك شكلاً من أشكال الترقّب، فالقلق من نقطة التفتيش يبدأ قبل وقت طويل من الرحلة الجسدية.

لا تبدو الملابس هي المشكلة الوحيدة فحسب، بل إن المرضى يتعرضون للتفتيش الذاتي أيضاً، فهم يضطرون، مثلما أخبروني، إلى خلع جميع ملابسهم في غرفة التفتيش الذاتي الملأى بكاميرات المراقبة من جميع الجهات في هذه الغرفة. لقد التقيت بمها عندما كنت في غزة وقالت لي أنها أُرسلت إلى هذه الغرفة لأن بطنها كان متصلاً بجهاز القسطرة البولية. وعندما طلبت الجندية منها خلعه، حاولت المريضة أن تشرح لها أنه يتعذّر عليها ذلك، فما كان من الجندية إلا أن وضعت جهاز المسح بالقرب من جسد المريضة، كي تتأكد أن الجهاز المتصل بجسدها لا يشكل خطراً أمنياً، وذلك على الرغم من أن هذه الأشعة تؤثر سلباً في المريض بالسرطان. هذا ليس إلّا شكلاً من أشكال المعاناة العديدة التي يرويها المرضى عند مرورهم من الحاجز بغرض العلاج، إذ كثيراً ما جرى استدعاء بعض المرضى إلى تحقيقات قاسية وأسئلة عن السبب في الخروج من غزة على الرغم من وجود التقارير الطبية في حيازتهم، بل هناك من يُسحب منه التصريح من دون أي سبب يُذكر، مثلما حدث مع شقيقة إحدى المريضات المرافقة لها، فقد انتظرتا لساعات طويلة ليتفاجآ بعدها بسحب التصريح.

لا توجد استثناءات للمريض في غزة، وحتى للمريض التي توصف حالته بـ "إنقاذ حياة"، فهناك تناقض في حالة الطوارىء؛ فكلمة "طارىء" لا تدل على معناها عند المحتل، ذلك بأن كثيرين من المرضى كانوا بأمسّ الحاجة إلى العلاج في الخارج، غير أنه لم يُسمح لهم بذلك إلّا في حالة واحدة هي حالة "إنقاذ حياة"، أي أن يكون المريض على شفا الموت المحتم. ولا بد هنا من أن نعي أن الاحتلال الإسرائيلي لا يخاف من الجسد الفلسطيني السليم فحسب، بل من الجسد الفلسطيني "السقيم" أيضاً، فهو يماطل بمنح التصاريح للمرضى إلى أقصى مدة ممكنة، كي يجعل أجسادهم سقيمة أكثر فأكثر حتى تصبح خاضعة لهم في نهاية المطاف. فالمريضة غدير كادت تفارق الحياة بسبب نزيف حاد، ليتم تحويلها من غزة إلى مستشفيات الداخل المحتل، لكن هذه العملية لم تكن سهلة قط، إذ إنها اضطرت إلى الانتظار 45 دقيقة داخل حاجز بيت حانون "إيرز"، ليتم إجراء مسح كامل لجسدها من خلال الأجهزة. غير أن معاناتها لم تنتهِ هنا، وإنما تعرضت للتهديد بالقتل حين رفع الجندي الإسرائيلي سلاحه في وجهها عندما كانت على حاجز ترقوميا، الذي يسميه المرضى "حاجز الموت" الواقع على طريق 35، والذي يصل بين بئر السبع والخليل. فبينما كانت تمر عبر الماسح الإلكتروني، أنذر بإشارة حمراء، فما كان من الجندي إلّا أن رفع سلاحه في وجهها، ليتضح بعدها أنها نسيت هاتفها المحمول في جيبها. ولم تكن هذه المرة الأولى التي ترى فيها غدير سلاح الجنود، فالسلاح هو الشيء الوحيد المرئي في حاجز بيت حانون، على اعتبار أنه يتعذّر عليها رؤية الجندي الجالس خلف الشبابيك الزجاجية رافعاً سلاحه أمام المرضى.

هذه أمثلة حية توضح كيف أن الجسد المريض لا يشفع له بأن يُعفى من التفتيش والضبط والرقابة حتى لو أدى إلى الاغتيال / الموت. فالأجساد الميتة لا تُقصى عن تلك المنظومة، ما دامت مناقضة للهوية الاستعمارية. وهذا ما حدث خلال محاصرة الاحتلال لمستشفى الشفاء في العدوان الحالي على غزة، بزعم أن قيادة "حماس" تختبىء في أنفاق تحتها، فأصبحت المستشفى رمزاً للهجوم وتحقيق صورة انتصار للجيش الذي "لا يُقهر". لقد كانت المستشفى ملجأ لأكثر من 50,000 فلسطيني اضطروا إلى النزوح ظناً منهم أنه المكان الأكثر أماناً، لكنه لم يكن كذلك، فقد سرق جنود الاحتلال الإسرائيلي أجساد المرضى المتكدسة على أرض المستشفى في الخارج، ومنعوا جثثاً أُخرى من أن تُوارى في الثرى حتى بدأت الكلاب تنهشها، وهذا كله مع تنصّل منظمات الأمم المتحدة وحقوق الإنسان والصليب الأحمر من مسؤوليتها تجاه حماية المستشفيات والأطباء والمرضى والأهالي. 

الجسد الفلسطيني: بين التمرد والتهديد

في المجمل، يمكننا القول إن الانتظار يبطىء الوقت والحياة، ويؤجل الشعور بالحاضر إلى المستقبل الذي لا يمكن تخيّله، أي أن خطط المريض الحياتية تظل معلقة إلى حين حصوله على العلاج. وقد قالت لي مريضة أنها تردد دائماً لأطفالها أنها ستأخذهم في نزهة حين تحصل على التصريح والعلاج وتتعافى.

وفي المقابل، أن تكون مريضاً لا يعني بالضرورة أن تكون مستسلماً وضعيفاً. فتلك المريضة التي طُلب منها أن تخلع ملابسها أمام الجندية في غرفة التفتيش الذاتي المحاط من كل زاوية بكاميرات المراقبة، أبت أن تفعل ذلك لأنها أحست بإهانة جسدها وانتهاك حرمته، فطُردت من الغرفة، وظلت مصرّة على رأيها حتى سمحوا لها بالدخول مرة أُخرى من دون تفتيش. إن الرفض وعصيان أوامر الاحتلال الإسرائيلي أمران مرفوضان تماماً، ذلك بأن الاحتلال يعتقد أنه يملك السلطة المطلقة للسيطرة على أجساد الفلسطينيين. ولا تتجسد هذه السيطرة على حركة أجسادهم فحسب، بل يتم التلاعب بصحتهم وأجسادهم أيضاً، لأنها سيطرة فعلية على حياة الإنسان وموته، وعلى مَن يُسمح أو لا يُسمح له بالعلاج، ومَن يُمكن اعتبار حالته تحسين "جودة حياة"، أو "إنقاذ حياة".

إن جسد تلك المريضة وآخرين مثلها يعاني مرضاً مضاعفاً، أحدهما من النظام الاستعماري الاستبدادي، والآخر من جسده نفسه. فالمشكلة ليست في الانتظار بحد ذاته، وإنما في الشعور بالخوف من أن جسدك مراقَب بينما لا يمكنك رؤية شيء أو أي أحد. إن الشعور بأن الجسد يُنتهك يتم باسم التحضر من خلال استبدال العنصر البشري بالإلكترونيات والآلات الحديثة، ولعل هذا يدل على العلاقة المتضاربة بين الاحتلال والمحتل، فهي علاقة مراقبة يجري إنتاجها وإعادة إنتاجها في كل موقف أو حدث يمكن للمرء تخيله أو عدم تخيله.

يقول عزيز، مريض بالسرطان، إنه كان يشعر بالإهانة والذل الشديدين حين المرور عبر حاجز بيت حانون "إيرز"، وهو يشبّه الحاجز من الداخل بسجن الحيوانات حيث يتفرج عليك الجنود. إن أجساد الذكور الفلسطينيين تشكل خطراً وتهديداً أمنياً للاحتلال الإسرائيلي الذي يحاول بشتى الوسائل ترويض جسد الرجل الفلسطيني كي يصبح راضخاً مستسلماً ومطيعاً لأوامره، ويسعى لتحويل هذا الجسد الصامد والسياسي والحيوي والذي يتمتع بالصلادة إلى جسد بيولوجي مهترىء ومنصاع لهم. يعمل الحاجز على بناء وإنتاج التهديد الفلسطيني الآخر (غالباً الذكور) من أجل إعادة إنتاج المنطق الذي يعتمد عليه وجوده، ولهذا يعمد إلى إنتاج الفلسطيني الفوضوي أو "الهمجي" كي يكون هذا حجة لوجود الحاجز في الأساس، وذريعة يمارسها الحاجز لإدامة الشعور بأن ثمة خللاً ما يحتاج إلى إدارة وتأديب.[13]

على الرغم من تهديد الجسد الفلسطيني، فإن المرضى الفلسطينيين يحاولون بشتى الطرق التفاوض على مستقبلهم لنيل استشفائهم، إمّا عن طريق التمرد على قرارات السلطات الإسرائيلية عدم منحهم تصاريح العلاج، ورفع دعوى قضائية ضدها، وإمّا تنظيم تظاهرات داخل مستشفيات القدس أو الداخل مثلما حدث فعلاً، احتجاجاً على تأخر أدويتهم وعلاجهم عن الفترة اللازمة. 

خاتمة

إن وقت الانتظار لا يشكل صورة واحدة لانتظار التصريح / العلاج / أو على الحاجز، وإنما يؤدي دوراً جوهرياً في تشكيل حياة المرضى، وعلاقاتهم مع الآخرين أيضاً. فالمريض لا يستطيع ممارسة حياته كما قبل بينما يمرّ بعدة محطات انتظار. وخلال فترة عملي الميداني على أطروحة الدكتوراه في برنامج الجغرافيا الإنسانية، عن المرضى والمستشفيات وسياستَي الحياة والموت على حاجزَي بيت حانون "إيرز" ورفح البري، قمت برصد معاناة المرضى وعائلاتهم وأطباء مستشفيات غزة في الوصول إلى الرعاية الصحية، حيث يعاني المرضى بالسرطان، والقلب، والأمراض المزمنة وغيرها، من تأخير في تصاريح علاجهم خارج غزة، بشكل يؤدي في أحيان كثيرة إلى تفاقم حالتهم الصحية، وصولاً إلى الموت، فضلاً عن مكابدة في نقص الأدوية قبل العدوان الحالي على غزة. غير أن أزمة الانتظار اليوم تتفاقم أضعاف ما كانوا يختبرونها سابقاً، وخصوصاً في ظل تدمير المستشفيات، وتوقف عمل حاجز بيت حانون، والإغلاق الجزئي لحاجز رفح البري، مع السماح بخروج عدد قليل جداً من المرضى بالسرطان خلال أول أيام الهدنة، وذلك بعد انتظار 48 يوماً من العدوان.

ثمة علاقة وطيدة بين الوقت والقوة والانتظار، إذ تمارس الدولة قوتها للسيطرة على الوقت لجعله بطيئاً وغير فاعل، وبالتالي، يتقلص الفضاء الفلسطيني، في مقابل تمدّد الوقت والمكان الإسرائيليَّين. ومع ذلك، يظل الفلسطيني يقاوم هذه السيطرة للحفاظ على صحته وحياته.

 

المصادر:

[1]Patients in the Gaza Strip Unable to Obtain Israeli-Issued Permits to Access the Healthcare”, “World Health Organization (WHO)”, 21 June 2020.

[2]Ghassan Haj, Waiting (Carlton Victoria-Australia: UMP Academic, 2009).

[3] Ibid., p. 9.

[4] Ibid., p. 45.

[5] Mikko Joronen, “Spaces of Waiting: Politics of Precarious Recognition in the Occupied West Bank”, Society and Space, vol. 35, no. 6 (9 May 2017), pp. 994-1011.

[6]Sari Hanafi, “Spacio-Cide: Colonial Politics, Invisibility, and Rezoning in Palestinian Territory”, Contemporary Arab Affairs, vol. 2, no 1 (January-March 2009), pp. 106-121.

[7] وليد دقَّة، "السيطرة بالزمن"، موقع "أوان"، 16 / 6 / 2021.

وانظر أيضاً: عبد الرحيم الشيخ، "المكان الموازي: رسم الزمن في فكر وليد دقّة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 135 (صيف 2023)، ص 187 - 220.

[8]Helga Tawil-Souri, “Checkpoint Time”, Qui Parle, vol.26, no. 2 (1 December 2007), pp. 383-422.

[9]Ariel Handel, “Where, Where to and When in the Occupied Territories? An Introduction to Geography of Disaster”, in: The Power of Exclusive Inclusion: Anatomy of Israeli Rule in the Occupied Palestinian Territories, edited by Adi Ophir, Michal Givoni and Sari Hanafi (New York: Zone Books, 2009), pp. 179-222.

[10]Hage, op., cit., p. 66.

[11]Michel Foucault, Discipline and Punish: The Birth of the Prison, translated by Alan Sheridan (London: Allen Lane, 1977), p. 201.

[12]Irus Braverman, “Civilized Borders: A Study of Israel’s New Crossing Administration”, Antipode, vol. 43, no. 2 (November 2011), pp. 264-295; Hagar Kotef and Merav Amir, “En-Gendering Checkpoints: Checkpoint Watch and the Repercussions of Intervention”, Journal of Women in Culture and Society, vol. 32, no. 4 (Summer 2007), pp. 973-996; Daniela Mansbach, “Normalizing Violence: From Military Checkpoints to ‘Terminals’ in the Occupied Territories”, Journal of Power, vol. 2, no. 2 (2009), pp. 255-273; Eyal Weizman, Hollow Land: Israel’s Architecture of Occupation (London: Verso, 2007).

[13]Mark Griffiths and Jemima Repo, “Biopolitics and Checkpoint 300 in Occupied Palestine: Bodies, Affect, Discipline”, Political Geography, vol. 65 (July 2018), pp. 17-25.

Author biography: 

إشراق عثمان: مرشحة في برنامج الدكتوراه في الجغرافيا البشرية، جامعة نيوكاسل، بريطانيا.