Palestine in the Islamic Consciousness: The History of Stature and Signs of Triumph and Defeat
Full text: 

"سُئل يوسف بن عطية: أَكَانَ عَطَاءٌ السَّلِيمِيُّ يَقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ هَدِيَّةً؛ قَالَ: نَعَمْ مِنْ عُتْبَةَ الْغُلَامِ، فقيل له: وَأَيُّ شَيْءٍ كَانَ يُهْدَى لَهُ. قَالَ: هَذِهِ الْجِرَارُ الْفِلَسْطِينِيَّةُ فِيهَا الزَّيْتُونُ وَالْكَامخُ يَجِيءُ بِهَا تَحْتَ كِسَائِهِ مُعَلِّقُهَا بِيَدِه.ِ"[1] هذا النصّ مسلسل بالبصريين: يوسف بن عطية، وعطاء السليمي، وعُتبة الغلام؛ فأمّا عطاء فهو من صغار التابعين وكبار العبّاد، ولتنسّكه ما كان يقبل الهدية، إلّا من عُتبة الغلام، وذلك إمّا لأنها منه، وإمّا لأنها من فلسطين، أو للأمرين معاً. وعُتبة الغلام من عبّاد الثغور، ناسك يقصد السواحل يرابط فيها، حتى استشهد في المصيصة، وهي ثغر ساحلي يقع بالقرب من أضنة التركية الآن، وقيل إنه استشهد في قرية الحباب، ولعلها هي القرية التي تتبع حلب اليوم.

وعلى أي حال، فإن هذا النص، الذي أورده أبو نعيم الأصفهاني في كتابه "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء"، في ترجمة عُتبة الغلام، كثيف في تجسيد هذه العلاقة الخاصة التي تربط أمصار المسلمين بفلسطين، وعبّادهم بثغورها، وأهلهم بزيتها وزيتونها. وهو إن لم يكن النص الوحيد بهذا الشأن، لشيوع الرحلة في تلك الطبقة العتيقة من التابعين وتابعيهم إلى بيت المقدس، فإنه يتسم بشيء من الفرادة، ولا سيما بنسبته جرار الزيتون والكامخ (والكامخ ما يؤتدم به من مخللات وما يشبهها) إلى فلسطين عامة، لا إلى بيت المقدس حصراً.

وذلك لأن فلسطين إقليم معروف لدى المسلمين بامتيازه الجغرافي، في الفضاء الشامي، مثلما يحدده ياقوت الحموي في "معجم البلدان": "وهي آخر كور الشام من ناحية مصر، قصبتها البيت المقدس، ومن مشهور مُدُنها عسقلان والرملة وغزّة وأرْسوف وقيسارية ونابلس وأريحا وعمّان ويافا وبيت جِبْرين؛ وقيل في تحديدها: إنها أول أجناد الشام من ناحية الغرب، وطولها للراكب مسافة ثلاثة أيام، أولها رَفَح من ناحية مصر وآخرها اللَّجون من ناحية الغَوْر، وعرضها من يافا إلى أريحا نحو ثلاثة أيام أيضاً، وزُغَرُ ديار قوم لوط، وجبال الشراة إلى أيلة كله مضموم إلى جند فلسطين وغير ذلك."[2]

هذا الامتياز للإقليم الفلسطيني حاضر في النصوص الأولى في سياق التفسير القرآني، كما في تفسير الآية الكريمة: ﴿يا قَومِ ادخُلُوا الأَرضَ المُقَدَّسَةَ الَّتي كَتَبَ اللَّهُ لَكُم وَلا تَرتَدّوا عَلى أَدبارِكُم فَتَنقَلِبوا خاسِرينَ﴾ (سورة المائدة، الآية 21). فقد كانت فلسطين مشمولة ضمناً في تحديد المفسرين العام، بجعل الأرض المقدسة الشام عموماً، أو مدّها من العريش إلى الفرات، أو بقصرها على بيت المقدس وإيليا، أو النص على كونها "دمشق وفلسطين وبعض الأردن"، مثلما قال الكلبي،[3] أو "أريحا أرض الأردن وفلسطين"، كما قال مقاتل بن سليمان.[4] وعلى أي حال، فقد امتازت الأقاليم الشامية في الفتح الإسلامي بجند لكل منها، جند فلسطين، وجند الأردن، وجند دمشق، وجند حمص، وجند قنّسرين، وفصّل اليعقوبي جند فلسطين، بتفصيله كور فلسطين، حيث أصلها مدينة اللد، ثم الرملة التي ابتناها الأمويون، وإيليا وهي نفسها بيت المقدس، وعمواس، ونابلس، والسامرة، وسبسطية، وقيسارية، ويافا، وبيت جبرين، وعسقلان، وغزة. ويقول اليعقوبي: "وأهل جند فلسطين أخلاط من العرب والعجم ومن لخم وجذام وعاملة وكندة وقيس وكنانة."[5]

وهذا الامتياز للإقليم الفلسطيني على المستوى الاجتماعي في الوعي الإسلامي، منذ زمن الفتح ثم إعادة التخطيط الأموي لبلاد الشام، مؤسس على امتياز قديم، بيّنه هيرودوت بوصفه للفلسطينيين بأنهم "الفينيقيون والسوريون سكان فلسطين"، محدداً الإقليم الفلسطيني وأصل سكانه: "ويروي هؤلاء أنهم كانوا يسكنون الخليج العربي [هكذا هو في الترجمة العربية لـ "تاريخ هيرودوت"] في قديم الزمان ثم هاجروا إلى الساحل السوري، وما زالوا يسكنون هذا الساحل إلى اليوم. وتُعرف هذه المنطقة من سورية وما يليها جنوباً حتى مصر بفلسطين."[6]

يمكن الخلوص من ذلك، إلى كون الوعي الإسلامي المبكر بفلسطين يتجاوز بيت المقدس، إلى عموم ما يسميه المؤرخون كور فلسطين، وذلك لوجود بُنية اجتماعية سابقة تتصل رابطاً بين تلك الكور الممتدة في التاريخ، مثلما هو ظاهر من تحديد هيرودوت لفلسطين، وصولاً إلى المؤرخين المسلمين. بيد أن هذا لا ينفي أن المكانة الخاصة للعموم الفلسطيني متأتية من مكانة بيت المقدس خاصة، والشام عامة، كما في النصّ الديني المُنشىء للوعي الإسلامي، فمن جهة تندرج فلسطين في العموم الشامي، ومن جهة أُخرى تتبع الخصوصية المقدسية، كون القدس وسائر الكور الفلسطينية كلها من الإقليم الفلسطيني.

يعني ذلك أن الوعي الإسلامي تجاه فلسطين كان قرين الدعوة الإسلامية، بينما حاول البعض القول إن هذه المكانة تعززت بفضل عبد الملك بن مروان لتتعاظم تالياً مع الحروب الصليبية، كما في محاولة المستشرق الأميركي تشارلز ماثيوس،[7] والذي كانت له مساهماته في حقل المقدسيات، أو فضائل بيت المقدس، بتحقيقه كتابين في فضائل بيت المقدس ثم ترجمتهما، وهما "باعث النفوس إلى زيارة القدس الشريف المحروس" لبرهان الدين ابن عبد الرحمن الفزاري المعروف بابن الفركاح (ت: 729هـ)، و"مثير الغرام إلى زيارة الخليل عليه السلام" لتاج الدين إسحاق بن إبراهيم التدمري (ت: 833هـ).

اتكأ ماثيوس على نص لليعقوبي زعم فيه أن عبد الملك بن مروان أراد بالمسجد الأقصى وقبّة الصخرة صرف الناس في الشام عن الحج إلى مكّة خشية من أن يبايعوا عبد الله بن الزبير،[8] كما أن اهتمام ماثيوس بأدب "فضائل بيت المقدس" الذي تكاثرت نصوصه في الحقبة المملوكية لا بدّ من أنه أعطاه هذا الانطباع، وإن كانت محاولة التقليل من مكانة فلسطين في الوعي الإسلامي، واحدة من اشتغالات المستشرقين الصهيونيين الذين كان لبعضهم اهتمامه الخاص بهذا النوع من الأدب الإسلامي، كإسحاق حسون الذي حقّق كتاب "فضائل بيت المقدس" لمحمد بن أحمد الواسطي (كان حيّاً في سنة 410هـ، أي قبل الحروب الصليبية). فقد عمل حسون على تحقيق هذا الكتاب لنيل شهادة الماجستير من الجامعة العبرية بإشراف أستاذه مئير قسطر، بهدف القول إن المسجد الأقصى الذي في القدس لم تكن مكانته محل إجماع بين المسلمين، مستدلاً بروايات شيعية زعمت أن المسجد الذي في سورة الإسراء هو مسجد في السماء. كما حاول الاستعانة بجهود بعض الفقهاء المسلمين في التخفيف من غلوّ عامة المسلمين في تعظيمهم المسجد وابتداعهم طقوساً لا أصل لها في النصّ الديني (كابن تيمية في رسالته "قاعدة في زيارة بيت المقدس"). بيد أنه فاته أن فعل العامة من الناس أعمق دلالة على موقع المكان (القدس والمسجد الأقصى والحالة هذه) من آراء الفقهاء، والتي لا تُنكر المكانة من حيث الأصل، وإنما مظاهر طقسية في المكان لا أصل لها في النص الديني.

وعلى أي حال، ووفق مناهج النقد التي طورها العلماء المسلمون، ولا سيما المحدّثين منهم، فإن ثمة حوادث ونصوصاً مؤسسة للوعي الإسلامي بفلسطين، ورابطة لمفهوم الانتصار وتمام الدين بها، وهي من حيث الأهمية: رحلة الإسراء بالنبي إلى بيت المقدس والصلاة بالأنبياء فيها، وكون المسجد الأقصى ثاني مسجد بُني في الأرض بعد المسجد الحرام وهو ما يرجع به بالضرورة إلى ما قبل داود وسليمان، وكونه القبلة الأولى، وكونه المسجد الثالث الذي تُشدّ إليه الرحال، والمسجد الثالث الذي يتعاظم فيه أجر الصلاة بعد المسجدَين الحرام والنبوي. وهذا القدر من النصوص المؤسّسة لهذه المكانة ثابت في المصادر الأصلية للمسلمين، وفق مناهج النقد الحديثي لهم.

ويرد الإقليم الفلسطيني، في النصوص الأولى في المصادر الحديثية، باسم بيت المقدس، والقدس، وفلسطين، وإيليا، والأرض المقدسة، ثم كان يُنسب أهلها إلى فلسطين كما صاروا يُنسبون إلى بيت المقدس، فيقال الفلسطيني كما يقال المقدسي. ومن ذلك الحديث: "إِنَّ تَمِيماً الدَّارِيَّ حَدَّثَنِي بِحَدِيثٍ. فَفَرِحْتُ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُحَدِّثَكُمْ، أَنَّ نَاساً مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ رَكِبُوا سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ، فَجَالَتْ بِهِمْ حَتَّى قَذَفَتْهُمْ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ"،[9] وحديث خالد بن دهقان (وهو رجل من طبقة أتباع التابعين)، قال: "كُنَّا فِي غَزْوَةِ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ بِذُلُقْيَةَ، فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ فِلَسْطِينَ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَخِيَارِهِمْ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ"،[10] وهو ما يعني قِدَم الصلة بين سكان الجزيرة العربية، وأهل فلسطين، قبل الإسلام، وذلك لقدم القبائل العربية في فلسطين، وللرحلة القرشية إليها، مثلما يقول مقاتل بن سليمان في تفسيره الآية الكريمة ﴿لِإيلافِ قُرَيشٍ﴾ (سورة قريش، الآية 1): "وذلك أن قريشاً كانوا تجاراً يختلفون إلى الأرض ثم سُمّيَت 'قريش'، وكانوا يمتارون في الشتاء من الأردن وفلسطين لأن ساحل البحر أدفأ، فإذا كان الصيف تركوا طريق الشتاء والبحر من أجل الحر، وأخذوا إلى اليمن للميرة فشق عليهم الاختلاف، فأنزل الله – تعالى - 'لِإِيلافِ قُرَيْشٍ' ".[11]

وعليه يمكن الحديث عن علاقة عربية قديمة بالإقليم الفلسطيني، تعززت مع تأسيس ديني واضح، ربط بنحو حاسم المسجد الأقصى بالمسحد الحرام، وهو ما أظهر الاهتمام المبكر بالمسجد الأقصى لدى عامة المسلمين، واليقظة إلى العقبات السياسية في طريقه، وما سينهض على ذلك من دفع جهادي مبكر. فقد أخرج الواقدي في مغازيه أن ميمونة زوج النبي قالت: "يَا رَسُولَ اللهِ، إنّي جَعَلْت عَلَى نَفْسِي، إنْ فَتَحَ اللهُ عَلَيْك مَكّةَ، أَنْ أُصَلّيَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ. فقال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَقْدِرِينَ عَلَى ذلك، يحول بَيْنَك وَبَيْنَهُ الرّومُ. فَقَالَتْ: آتِي بِخَفِيرٍ يُقْبِلُ وَيُدْبِرُ. فَقَالَ: لَا تَقْدِرِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ ابْعَثِي بِزَيْتٍ يُسْتَصْبَحُ لَك بِهِ فِيهِ، فَكَأَنّك أَتَيْته. فَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تَبْعَثُ إلى بَيْتِ الْمَقْدِسِ كُلّ سَنَةٍ بِمَالٍ يُشْتَرَى بِهِ زَيْتٌ يُسْتَصْبَحُ بِهِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، حَتّى مَاتَتْ فَأَوْصَتْ بِذَلِكَ."[12]

الوعي بالحائل الرومي انعكس ترقباً في المرحلة التالية في المدينة بعد الهجرة، ففي حديث عمر بن الخطاب: "وَكُنَّا تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ النِّعَالَ لِغَزْوِنَا"،[13] أي كان حديثهم في المدينة أن الغساسنة، وهم وكلاء الروم، يستعدون لغزوهم، وقد رُوي عن كعب بن مالك، أحد صحابة النبي الثلاثة الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك، أن ملك الغساسنة أرسل إليه يستميله يقول له: "أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِا أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، قال: فَقُلْتُ حين قَرَأْتُهَا: وَهَذَه أَيْضاً مِنَ الْبَلَاءِ، فتياممت بها التنور فسجرتها بِهَا."[14]

لقد أفضى هذا الوعي المبكر المتبادل بالخطر السياسي الرومي إلى الصدام مع الروم ووكلائهم في زمن النبي في غزوتَي مؤتة وتبوك، ثم الاستمرار في الفتوحات الشامية البادئة مع الخليفة الأول أبي بكر الصدِّيق، والمستكملة مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، في مشهد ملحمي يروي قدوم الخليفة بنفسه وصلاته المؤسسة للبناء الجديد للمسجد وعهده لأهل القدس من المسيحيين.

الربط المبكر بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، جعل تمام الأمر بالنسبة إلى المسلمين في فتح المسجد الثاني، ثم تمام البشرية، وأداء الأمّة الخاتمة لوظيفتها، بحسب حكاية الدعوة الإسلامية عن نفسها، وذلك بنزول الخلافة، أي رأس الأمر السياسي الإسلامي، الأرضَ المقدسة، أي فلسطين، كما في حديث النبي لابن حوالة: "يَا ابْنَ حَوَالَةَ، إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ نَزَلَتْ أَرْضَ الْمُقَدَّسَةِ، فَقَدْ دَنَتِ الزَّلَازِلُ وَالْبَلَابِلُ وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ، وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنَ النَّاسِ مِنْ يَدِي هَذِهِ مِنْ رَأْسِكَ."[15] ولن تكون بعيدة عن ذلك أحاديث نزول المسيح وقتله الدجال في اللد، وبقاء الطائفة المنصورة في بيت المقدس التي يعتقد معانيها عموم المسلمين؛ لتكون فلسطين في الوعي الإسلامي خلاصة الأرض، وخاتمة الدنيا، وفاتحة الآخرة.

ففلسطين تعني تمام الأمر الأول بدخول المسجد الأقصى الحيّز الإسلامي السياسي، وتعني تمام الأمر الآخر بانتهاء رأس الأمر السياسي الإسلامي فيها بين يدَي الساعة، إذ، وبحسب هذا النصّ، وبحسب فاعليته لدى الإسلاميين المعاصرين، فإن نزول الخلافة في فلسطين يعني انتهاء الوظيفة للأمّة الخاتمة، وهو ما يعني انتهاء الوظيفة الاستخلافية للبشرية كلها. وعليه، فإن عنوان الصعود والهبوط للأمّة، هو موقع المسجد الأقصى من الأمّة ليكون بذلك الرافعة الدائمة لتصحيح أوضاع هذه الأمّة.

ثم كان وقوع المسجد الأقصى بأيدي الصليبيين قضية مؤرّقة للمسلمين كانت تدفع باستمرار إلى البحث عن سبيل الخلاص العام باسترجاع المسجد، حتى تجلّى ذلك في نبوءات دينية تتوقع تحرير المسجد الأقصى من الصليبيين، مثلما جاء في تفسير ابن برّجان الأندلسي (ت: 536هـ). ففي سنة 522هـ كان ابن برّجان لا يزال يكتب تفسيره لسورة الروم، وتنبأ في تلك الأثناء وبنحو غامض بأن فتح صلاح الدين لبيت المقدس سيكون سنة 583ه،[16] وهو ما حدث فعلاً. وقد ذكر ابن كثير في تاريخه "البداية والنهاية" أن نور الدين زنكي وقع على هذه النبوءة، فطمع أن يعيش إلى سنة 583هـ، فأعدّ لأجل ذلك "منبراً عظيماً لبيت المقدس إذا فتحه الله على يديه."[17] وكان ابن كثير ذكر أيضاً أن صلاح الدين حين فتح حلب؛ بُشّر بفتح بيت المقدس، وذلك لأن الفقيه مجد الدين ابن جَهْبَل الشافعي رأى نبوءة ابن برّجان المذكورة "فكتب ذلك في ورقة وأعطاها للفقيه عيسى الهكَّاري، ليبشّر بها السلطان، فلم يتجاسر على ذلك خوفاً من عدم المطابقة، فأَعْلَم بذلك القاضي محيي الدين بن الزَّكِي، فنظم معناها في قصيدة يقول فيها: 

وَفَتْحُكُمْ حَلَبَ الشَّهْباءَ في صَفَرٍ

قَضَى لَكُمْ بِافْتِتاحِ القُدْسِ في رَجَبِ

وقدمها للسلطان فقويت همة السلطان إلى ذلك."[18] 

تبع فتح صلاح الدين للمسجد الأقصى، تأسيس المدارس وتعظيم الأوقاف التي تُعزّز من سكنى المسلمين في فلسطين، فتكاثرت الخانقاوات والأربطة والزوايا والمساجد، ولا سيما تالياً في الفترة المملوكية، حتى بلغ الأمر أن يوقف بعض المسلمين أرضاً وملكاً على بعضهم شرط البقاء في المسجد الأقصى بنيّة الرباط كونه ثغراً مهدداً من الفرنجة في أي وقت. ثم مثّلت فلسطين بعد الفتح الصلاحي، وخصوصاً في الحقبة المملوكية، عنواناً للمشروع السياسي، وفرصة كذلك لتعزير الشرعية السياسية، ووعياً بالخطر المحدق دائماً من الضفة الأُخرى للمتوسط، حتى كانت الأوقاف من أهم موضوعات الفتاوى على الإطلاق، كما كانت في فلسطين من أجلى المظاهر الاجتماعية، وأهم أدوات تعزيز الصمود في فلسطين.[19]

تضاعف أدب "فضائل بيت المقدس"، بعد الفتح الصلاحي وفي الحقبة المملوكية، ومع أنه سبق في أصل تدوينه الحروب الصليبية، إلّا إنه صار من أهم موضوعات البلدانيات وفضائل البلدان في التدوين الإسلامي، والذي يستمد موضوعاته، بشأن فلسطين والشام، من المصادر النبوبة، ومن الموروث الشعبي، وممّا يُعرَف بالإسرائيليات، أو المصادر الكتابية. فبقطع النظر عن النقد الموجّه من العلماء المسلمين إلى التراث الكتابي والشعبي في كتب الفضائل، فإن ذلك التراث دالّ بالضرورة على عمق الحضور المقدسي في الوعي الإسلامي، ويصعب على أي حال حصر المؤلفات في هذا الأدب بسبب تداخل فضائل بيت المقدس مع فضائل الشام عامة. بيد أن من الضروري القول إن هذا النوع من الأدب كان حقلاً يدور عليه صراع استعماري في ثوب أكاديمي، وذلك حين لفت انتباه عدد من المستشرقين، ليسعى بعضهم، ولا سيما الصهيونيين منهم، لاستثماره في محاولة التقليل من مكانة القدس وفلسطين في الوعي الإسلامي، بمحاولتهم القول إن التأليف في فضائل القدس متأخر عن التأليف في فضائل غيرها من البلدان. وقد تصدى للأمر عدد من المهتمين بهذا الأدب، وفي طليعتهم الدكتور محمود إبراهيم في كتابه "فضائل بيت المقدس في مخطوطات عربية قديمة".[20]

ولم يكن الأمر اعتقادات مجردة لدى العامة، وإنما ظهر في طقوس وشعائر كانت تضاهي بين المسجد الأقصى والمسجد الحرام، ولا سيما في يوم عرفة وأيام الحج، وهو ما كان يستدعي إنكار الفقهاء لممارسة امتدت طويلاً، إذ يُرجع بعضهم عادة التعريف التي يضاهي فيها المسلمون في بيت المقدس طقوسهم في يوم عرفة خلال الحج، إلى زمن عبد الملك بن مروان. وذكر مثل هذه الطقوس مؤرخون ورحّالة فقهاء قبل الحروب الصيلبية، كالفقيه المالكي أبي بكر الطرطوشي (ت: 520هـ)، وناصر خسرو علوي الذي وصل إلى القدس في رمضان في سنة 438هـ، وكان أبو عبد الله محمد بن أحمد المقدسي البشاري (ت: 380هـ) في كتابه "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، ذكر ما عُرف في الثقافة الشعبية بـ "تقديس الحج"، أي الشروع في الحج نحو البيت الحرام من القدس، أو زيارة القدس في خاتمة الحج، في أثناء حديثه عن الإقليم المغربي، وتحديداً سطيف والسوس.[21] ولهذه العادة أصل يُنسب إلى أحاديث نبوية قد لا يصحّحها نقّاد الحديث من المسلمين، إلّا إن المهم في ذلك قدمها، كما في حكاية المقدسي عن المغاربة، الأمر الذي يعود بعلاقة المغاربة ببيت المقدس إلى زمن سابق على الحروب الصليبية، وإلى قتال عبّادهم إلى جانب صلاح الدين كالصوفي الكبير أبي مدين شعيب التلمساني المشهور بالغوث (ت: 594هـ)، ثم وقف حارة خاصة بهم في القدس، وقد أوقفها عليهم الملك الأفضل نور الدين أبو الحسن ابن السلطان الملك الناصر صلاح الدين، وهي الحارة التي دمّرها الاحتلال الإسرائيلي بعد سنة 1967.

وممّا لا شك فيه أن المجتمعات الكبرى تتوارث تصوراتها ومعتقداتها وتكتنزها مهما يتقادم الزمن وتطرأ عليها تحولاته، وهو المتوقع لدى عموم المسلمين، وخصوصاً الفلسطينيين، ثم لا غرابة في أن تمثل أحداث ثورة البراق في سنة 1929 مفتاحاً في تشكل الحركة الوطنية الفلسطينية، وترسيم الحاج أمين الحسيني زعيماً لها، وتقديمه بتلك الصفة إلى الجمهور الإسلامي العام خارج فلسطين، مثلما تجلّى في المؤتمر الإسلامي العام الذي عُقد في القدس في سنة 1931، وكان من مقرراته تأسيس جامعة إسلامية في القدس باسم جامعة المسجد الأقصى، وتأكيد إسلامية حائط البراق.[22] وعلى أي حال، فإن الإسلام استمر إطاراً تمثيلياً لخطاب المجتمع الفلسطيني حتى نكبة 1948، من دون أن تظهر حتى ذلك التاريخ انقسامات أيديولوجية قوية في الساحة الفلسطينية بشأن الخطاب الإسلامي التقليدي، إذ لم تتعرض فلسطين للمستوى التحديثي ذاته الذي تعرضت له بلاد عربية أُخرى كمصر. وفضلاً عن الرمزية الدينية لمنصب الحاج أمين الحسيني، فإن الخطاب العروبي الفلسطيني ظل خطاباً إسلامياً إصلاحياً كما في أمثال عوني عبد الهادي وعزة دروزة وعجاج نويهض ورشيد الحاج إبراهيم،[23] وذلك قبل تبلور الخطاب الإسلامي في فلسطين في صيغ أيديولوجية، تأثراً بالإخوان المسلمين المصريين، وبعد صعود الخطابات القومية واليسارية.

وإذا كان الحضور الديني التقليدي في صورته الحركية الجهادية في فلسطين قد بدأ مع الشيخ القسّام، بصفته فقيهاً أزهرياً معمّماً، مع ما في ذلك من بُعد عروبي كونه قادماً من سورية، علاوة على صورته الأيديولوجية مع جماعة الإخوان المسلمين المصرية التي اتصلت بالحاج أمين الحسيني وبدأت تؤسس شعبها في فلسطين منذ أواسط الأربعينيات لتشارك بمتطوعيها في حرب 1948، فإن هذا التشكل الأيديولوجي انطوى على أجندة تحضر فيها القضية الفلسطينية، لكن في سياق انشغالات أُخرى للحركة الإسلامية تتقدم عليها، إلى أن تطورت الحركة الإسلامية في فلسطين بنحو جعل فلسطين قضية الحركة الإسلامية الفلسطينية الأولى، وعنوان النصر والهزيمة للأمّة والدلالة على أحوالها. وإذا كانت حركة الجهاد الإسلامي وحركة المقاومة الإسلامية/"حماس" تمثلان ذلك، فإن كتاب المثقف السوري توفيق الطيب "الحل الإسلامي ما بعد النكبتين" يُعتبر أفضل تنظير مبكر سابق على الحركتين، في بيان معنى سقوط القدس بالنسبة إلى الأمة، إذ إنه يرى سقوطها هذا أخطر من سقوطها في يد الصليبيين في سنة 493هـ، لأن هؤلاء الأخيرين كانوا دون المسلمين حضارة، وبالتالي ليس أمامهم إلّا الإسلام أو الرجوع إلى بلادهم، وأخطر من سقوط قرطبة في سنة 633هـ لأن تلك كانت طعنة في الجناح. أمّا سقوط القدس اليوم فطعنة في القلب، وأخطر من سقوط بغداد على يد التتار في سنة 656هـ، لأنه لم يكن أمام التتار إلّا الذوبان في المسلمين أو الرجوع عن بلاد المسلمين، بينما سقوط القدس اليوم أمر حضاري أساساً، ففلسطين يجب أن تكون قضية الأمة الأولى، وقضية الحركة الإسلامية الأولى.[24]

أخيراً، بناء على ذلك كله، وبقطع النظر عن أدلجة هذه المفاهيم، فإن المسلم يجد في فلسطين رافعته والمؤشر إلى حاله بالضرورة، فمثلما تقع فلسطين جغرافياً في قلب العالم العربي، فإنها تقع في قلب العربي من حيث الدلالة على حقيقة الاستعمار، ثم الظرف العربي العام. ولأنها بهذا القدر من الوضوح في عدالتها، فإنها علامة على الوضع الإنساني العام، ولأن عمقها في الوعي الإسلامي ممتد في طوله، ومتضافر مع حقيقتها العربية، ولأن لأهلها سمات اجتماعية واحدة راسخة توحّدهم في ذلك الوعي بشأن القدس، فإن لا شيء يجمع اليوم العربَ والمسلمين كفلسطين، ولا شيء ينهض بهم كالشعب الفلسطيني. وهذا الأمر وإن بدا واضحاً في معركة "سيف القدس" في أيار / مايو 2021، فإنه بعد عبور 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023 في "طوفان الأقصى"، بات أكثر وضوحاً، حين أظهرت فلسطين وأهلها القدرة الفائقة على جمع العرب والمسلمين من جديد، ومنحهم المعنى والسبب الحضاري، والإمكان الفعلي لتجسيد ذلك المعنى. ولم يكن هذا الانعكاس الفلسطيني في المجموع الإسلامي والعربي متحققاً داخل المجال الإسلامي والعربي فحسب، بل أيضاً حيثما يوجَد المسلمون والعرب في العالم، وإذا كان الانعكاس الفلسطيني في المسلم موجود في ثورات النهوض الفلسطيني كالانتفاضة الأولى والثانية، وقبل ذلك في مسارات الثورات الفلسطينية، فإنه هذه المرة، وبعد عبور 7 تشرين الأول / أكتوبر، أكد الإمكان الفعلي والواقعي لتحقيق الانتصار، وجَسْر الهوّة، وإعادة الالتحاق بالمشهد الحضاري العالمي.

 

المصادر:

[1] أبو نعيم الأصبهاني، "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" (القاهرة: مطبعة السعادة، 1974)، ج 6، ص 226.

[2] ياقوت الحموي، "معجم البلدان" (بيروت: دار صادر، 1995)، ج 4، ص 274.

[3] أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، "تفسير الثعلبي أو الكشف والبيان عن تفسير القرآن" (بيروت: دار إحياء التراث العربي، ط 1، 2002)، ج 4، ص 42.

[4] مقاتل بن سليمان البلخي، "تفسير مقاتل بن سليمان"، دراسة وتحقيق عبد الله محمود شحاتة (بيروت: مؤسسة التاريخ العربي، ط 1، 2002)، ج 1، ص 465.

[5] أحمد بن إسحاق اليعقوبي، "البلدان"، وضع حواشيه محمد أمين ضنّاوي (بيروت: دار الكتب العلمية، 2002)، ص 167.

[6] هيرودوت، "تاريخ هيرودوت"، ترجمة عبد الإله الملاح (أبو ظبي: المجمع الثقافي، 2001)، ص 522.

[7] Charles D. Matthews, “Palestine-Mohammedan Holy Land”, Muslim World, vol. 33, issue 4 (October 1943), pp. 239-253.

وانظر أيضاً:

محمود إبراهيم، "فضائل بيت المقدس في مخطوطات عربية قديمة: دراسة تحليلية ونصوص مختارة محقَّقة" (الكويت: معهد المخطوطات العربية، ط 1، 1985)، ص 43 – 44.

[8] أحمد بن إسحاق اليعقوبي، "تاريخ اليعقوبي" (بيروت: دار صادر، ط 6، 1995)، ج 2، ص 261.

[9] الحديث بهذا اللفظ أخرجه الترمذي، وأصل الحديث في صحيح مسلم.

[10] أخرجه أبو داود في سُننه.

[11] مقاتل بن سليمان، مصدر سبق ذكره، ج 4، ص 861.

[12] محمد بن عمر الواقدي، "مغازي الواقدي"، تحقيق مارسدن جونس (بيروت: عالم الكتب، د. ت.)، ج 2، ص 866.

[13] أخرجه البخاري.

[14] أخرجه البخاري.

[15] أخرجه أبو داود وأحمد.

[16] عبد السلام ابن برجان الأندلسي، "تنبيه الأفهام إلى تدبّر الكتاب الحكيم وتعرّف الآيات والنبأ العظيم أو تفسير ابن برجان"، تحقيق فاتح حسني عبد الكربم (عمّان: دار النور المبين للدراسات والنشر، 2016)، ج 4، ص 1899.

[17] أبو الفداء إسماعيل بن كثير، "البداية والنهاية"، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي (القاهرة: دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، 1997)، ج 16، ص 593.

[18] المصدر نفسه، ص 564.

[19] ساري عرابي، "حياة تُبصرها الفتاوى: العلائي وفلسطين القرن الثامن الهجري"، موقع "متراس"، 15 / 1 / 2023.

[20] إبراهيم، مصدر سبق ذكره.

[21] ساري عرابي، "الأقصى في عرفة وأيام الحج .. التاريخ والنص والطقس .. وقلوب الناس"، منصة "إطار"، 27 / 6 / 2023.

[22] "مقررات المؤتمر الإسلامي العام في دورته الأولى" (القدس: مطبعة دار الأيتام الإسلامية الصناعية، 1931).

[23] بشير نافع، "الإسلاميون الفلسطينيون والقضية الفلسطينية: 1950 – 1980" (غزة: مركز فلسطين للدراسات والبحوث، 1999)، ص 7 - 8.

[24] توفيق الطيب، "الحل الإسلامي ما بعد النكبتين" (القاهرة: المختار الإسلامي، 1979)، ص 5 - 8.

Author biography: 

ساري عرابي: كاتب وباحث فلسطيني، مختص بالدراسات الفلسطينية والفكر الإسلامي.