1
الخطر يلوح ثقيلاً فوق فلسطين، وصناعة إسرائيل لأزمنة النهاية في غزة هي إعادة واستعادة، ومحاولة للتنبؤ بنهاية أُخرى مقبلة. وإذا كان لنا أن نقاوم هذا الخطر، فإنه يتوجب علينا تشخيصه وتسميته. ماذا نقول عن هذه النزعة الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية الساعية بجنون لأن تبدأ من الصفر، وأن تُفرغ الأرض مرة أُخرى من سكانها الفلسطينيين، وأن تستبق بإصرار ثورات المستعمَرين، لا، بل أن تحول دون التفكير حتى في فكرة الثورة؟ ما الذي يكشف عنه هذا التدمير الدؤوب حيال الخطر الحالي والمستقبلي الذي يواجهه الفلسطينيون من النهر إلى البحر؟ وكيف يمكن للمرء أن يواجه هذا الخطر من دون أن يعيد صوغ شروطه، ويؤكد تدميريته، بل أن يتبنّى مكانة الذات المبادة جماعياً؟
إن التسمية الإعلامية لـ "حرب إسرائيل - غزة" لا تسمح بفهم هذا الخطر، ولا تسمح بذلك أيضاً الصيغ الأكثر نقدية عن عنف الدولة، والفصل العنصري (الأبارتهايد)، وحتى الإبادة الجماعية. فهذه كلها محاولات مهمة وقيّمة لوصف ومعارضة نزعة إسرائيل القهرية والإبادية التي تشنّها ضد الفلسطينيين. لكن حتى هذه الصيغ لا ترقى إلى حدّ تشخيص الانتهاك المتكرر لأرض وشعب انتُهكا من قبل، والتدمير المستمر لحياة كانت تنبعث من بين الأنقاض التي خلّفتها تدميرات استعمارية سابقة، وتكرار الغارات العسكرية على المستشفيات التي تؤوي الجرحى من الغارات نفسها، والإصرار على تحويل أكبر سجن مفتوح في العالم إلى معسكر موت مفتوح. وبالتركيز على القتل الاستعماري الجماعي للمدنيين وما يقترفه حكم الفصل العنصري في حقّ البقية من الأحياء، فإن هذه الصيغ لا تواكب الإيقاع المتكرر والدائري لآلة الإزالة الإسرائيلية. إن التركيز على هذا الإيقاع يكشف رغبة إسرائيل في إخراج الفلسطينيين من حيّز الوجود السياسي والتاريخي، والقضاء على ما دشّنوه تاريخياً من نهج حضاري في الحياة، وتحويلهم إلى أجساد بلا أرواح، ومحو شروط سكن الفلسطينيين في الأرض... إنها، باختصار، الرغبة في عدم حكم الفلسطينيين.
والخطر الذي يلوح في الأفق هو أكثر ما يكون وضوحاً وتسارعاً وكثافة في غزة حيث تستفحل مذابح إسرائيل ومجازرها، لكن من العبث أيضاً أن نقارن تكرار ذلك الخطر بالمُثُل الإنسانية، والأعراف القانونية، والسلام. فهذه المُثُل التي لم تترك فيها ندوب الكارثة أثراً، سواء النكبة المستمرة منذ سنة 1948، أو تصاعدها الحالي، لا يمكنها إلّا أن تُبدي المعارضة من بعيد. ومع أنها جميلة، وأصلية، ونقية، ووعظية، غير أنها بعيدة كل البعد عن واقع الكارثة، بحيث إنها لا تستطيع الشعور بها، وتشخيصها، والرد عليها، ومقاومة وحشيتها وتصاعدها المستمر. إن انفصال هذه القيم يساهم في التضاعف غير المفحوص للنكبة: فكلما ازدادت الكارثة كارثية، ازداد الهول رعباً، وكلما ازداد انتهاك القيم الإنسانية، ازدادت الإنسانية نأياً بنفسها عن الإزالة. إن تطعيم الإنسانية ضد عدوى الكارثة يدعم منطق "الوقفة الإنسانية" الأخيرة (24 تشرين الثاني / نوفمبر – 1 كانون الأول / ديسمبر 2013)، فالإنسانية تعترض سيول المعاناة في غزة من أجل إطعام السكان الفلسطينيين، لتنسحب لاحقاً وتمكّن من استئناف عملية الإزالة. والوقفة تُبقي تقويم الإنسانية وتقويم المحو منفصلين، فلا علاقة للأول بالآخر، ولا يمكنه مقاومته.
ولتشخيص الخطر الذي يلوح في الأفق، ثمة ضرورة لأن يكون هناك شعور، مهما يكن صعباً، بتفصيلات الكارثة في غزة، غير أن هذه التفصيلات تتلاشى عندما تصبح الصور والتقارير الواردة من غزة غير قابلة للتمييز، بل متسقة وشمولية. إلّا إن هذه الشمولية ليست نتيجة للكارثة بقدر ما هي نتيجة لطريقة عملها: فالكورثة تسعى للشمولية كي تَشلّ. وفي مواجهة هذه الشمولية، ربما علينا أن نسعى لأن نجد إرشادات سياسية لا في المُثُل المفرغة، وإنما في تفصيلات الكارثة: الأطفال الذين لم ينجُ أحد من أفراد أُسرهم، والأمهات اللواتي ثكلن أبناءهن، والرجال الذين لم يعودوا شهوداً عدولاً وضحايا، والكبار الذين يحيون من جديد عمليات التشريد القسري، والفتيات المصابات اللاتي يمتن من الألم، والأجساد الملفوفة في أكياس الموتى، والمدارس التي تحولت إلى ملاجىء ثم إلى مدافن للموتى، والمقابر الجماعية، والأطراف المبتورة، والبنايات المتداعية، والأحياء المفرغة من سكانها، والشوارع المقصوفة، والمدارس المدمرة، والأشجار المجتثة، والبُنى التحتية المسحوقة، والأسطح المسوّاة بالأرض، والظلال المختفية، والحطام العميم، والدم الراعف من التراب، والأرض والأطراف الجسدية المشبّعة بلونَي الدمار الرئيسيين: الأحمر والرمادي. هناك أيضاً 1,8 مليون إنسان اقتُلعوا من مساكنهم وأُجبروا على النزوح جنوباً إلى أماكن أكثر ضيقاً، حيث يستشهد العديد منهم على امتداد طرق السلامة المفترضة، وآخرون يُجبرون على ترك أحبائهم خلفهم برسم الدفن. ثم هناك المعلمون، والأطباء، والخبازون، والطباخون، والصحافيون، والممرضون، والحانوتيون، وموظفو الخدمة المدنية، والمتطوعون، والعمال، وكثيرون غيرهم... وهم في صمودهم والتزامهم نحو الآخرين، لديهم معرفة حميمة بالكارثة في مظاهرها الجماعية والتفصيلية. وهذه التفصيلات تشير إلى خطر لا يقتصر على قتل المدنيين فحسب، بل على الرغبة الاستعمارية أيضاً في محو المكان وتاريخه، وإفراغ أرواح الأحياء، وتقليل عدد المحكومين. ومن بين الأنقاض تروي التفصيلات كذلك حكاية تشكيلات الصمود والمقاومة المعادية للاستعمار.
2
يطلق الخبراء القانونيون المرموقون على هذا المحو والإزالة في غزة اسم "الإبادة الجماعية" التي تُعتبر أكثر الجرائم جسامة بموجب القانون الدولي. وقد أشار هؤلاء إلى أن المسؤولين الإسرائيليين أعلنوا نياتهم الإبادية وتصرفوا وفقاً لها. وإذا كانت تقنيات الذكاء الصناعي قد أتاحت المدنيين، بالجملة، لوسائل المحو الجماعي، فإن الأسلحة المتقدمة والنظم العسكرية التي توفرها الدول الغربية قد نفّذت واقعياً الإبادة الجماعية في حقّ الأهالي الرهائن في غزة.
كصنافية قانونية، يُقصد بجريمة الإبادة الجماعية الأفعال التي يُسعى من خلالها لتدمير جماعة بأكملها أو جزء منها. والإبادة تشير إلى قتل أفراد جماعة، ملحقة بهم الضرر، بحيث تفرض "إخضاع الجماعة، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً." وتستهدف أعمال الإبادة الجماعية الحياة البيولوجية والمادية لأعضاء الجماعة في الوقت الحاضر، لكن الجريمة تصف أيضاً محاولات إبادة المستقبل البيولوجي للمجموعة المستهدفة، أو التقليل منه إلى أدنى حدّ ممكن. وتتضمن الإبادة الجماعية "فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة" و"نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أُخرى."[1] لذا، ومن مفهوم قانوني، فإن أعمال الإبادة الجماعية تستهدف حياة الجماعة في الحاضر وفي المستقبل، والطفل هو الشخصية التي تجعل الإبادة الحاضرة تمتد إلى المستقبل: اِقضِ على الأطفال في الجماعة المستهدَفة الآن، وستقضي على مستقبل هذه الجماعة.
الإبادة الجماعية إطار توضيحي للتدمير الإسرائيلي الذي يُقترف الآن في حقّ الفلسطينيين ويسعى لإزالتهم من الأرض. لكن ما لا يمكن للإبادة الجماعية، بمعناها القانوني، أن تؤطّره بشكل كامل هو جميع تلك الأعمال الاستعمارية الإزالية التي لا تستهدف الحياة البيولوجية والمادية للشعب فحسب، بل تستهدف كذلك المنازل والأحياء والمساجد والكنائس والمدارس والشوارع، وأخيراً الأرض، أي أنها تستهدف المساحات التي لا تشكّل البُنية التحتية للحياة في الوقت الحاضر فحسب، بل أيضاً المواقع التي تثوي فيها الذاكرة، حيث يمكن للمرء أن يروي حكاية عن حياته، وحيث يرث المرء حياة جماعية يمكنه أن يشارك فيها، وحيث يمكن للمرء أن يعتبر نفسه جزءاً من تاريخ أكثر اتساعاً، وماضٍ يتجاوزه. بكلمات أُخرى، إن حصر نطاق الإبادة الجماعية في استهداف الحياة المادية والبيولوجية، حاضراً ومستقبلاً، لا يمكن أن يؤطّر الهدف الآخر لآلة الإزالة الإسرائيلية: وهو الوجود الجماعي المتواصل لشعب صامد ومقاوِم، وباختصار، نهج حياته المتجذر في النضال على مرّ الزمن. إن الإبادة الجماعية، كإطار، غير كافية لوصف الكيفية التي تجبر فيها إسرائيل الفلسطينيين في غزة، مرة تلو الأُخرى، على البدء من جديد، كأنهم لم يكونوا موجودين من قبل. فجريمة الإبادة الجماعية، على الرغم من تركيزها على الدمار المادي، وليس البيولوجي فقط، لا تشكّل إطاراً لتدمير تاريخانية الفلسطينيين، بل إن وحشية هذا التدمير تتجاوز جريمة الإبادة الجماعية التي هي أخطر الجرائم بموجب القانون الدولي، كما أنها تغذي الإيقاع الدوري والمتكرر لآلية الإزالة الإسرائيلية.
3
تسعى إسرائيل لاقتلاع الوجود السياسي الجماعي المتجذر تاريخياً من خلال ارتباطه بالأرض، وتتجلى هذه الرغبة في الجهود المتواصلة لإنهاء الحماية التي توفرها الأرض للفلسطينيين. ونظراً إلى عدم وجود دولة تؤكد أنهم شعب، وبما أن النظام الدولي وِحْدته التأسيسية هي الدولة، فإنه لا يعترف بغير الشعوب، فقد دشَّن الفلسطينيون معنى وجودهم الجماعي، بما في ذلك كونهم شعباً، من خلال ارتباطهم بالأرض التي يسكنونها والتي طردتهم إسرائيل منها، مراراً وتكراراً، مستخدمة الوسائل العسكرية والقانونية. لقد منحت الأرضُ الفلسطينيين وجوداً جماعياً في العالم. وبما أنها تُبقيهم جزءاً من العالم، فإنها تحميهم من الاختفاء في المجهولية وتمنحهم التاريخانية. لقد واجه الفلسطينيون خطر الاختفاء في سنة 1948 عندما استولت القوات الصهيونية على معظم فلسطين واقتلعت الفلسطينيين لإفساح المجال لإنشاء إسرائيل. ويسمى هذا الاختفاء من الأرض النكبة. والنكبة تشير إلى خسارة مزدوجة تكبّدها الفلسطينيون: خسارة أرض فلسطين، وبالتالي، خسارة أنفسهم. وهذا هو السبب في أن النكبة، أو عملية الاقتلاع من الأرض، لم يكونا مقبولَين قط، لأن القبول بذلك سيكون بمثابة الموافقة على التدمير الذاتي. ولذا، كان الموقف المزدوج للذات الفلسطينية: فهي موسومة بالنكبة، ومحكومة بالنضال ضدها في آنٍ واحد.
ليس من قبيل المصادفة، إذاً، أن تشمل أهداف حرب إسرائيل الإزالية مشهدية غزة: بيئتها الطبيعية والمبنية. فالواقع الجلي هو مشروع يسعى لمسح مكان من الوجود يمكن أن يعود إليه المشردون والنازحون، أو تشويهه إلى درجة لا يعود في قدرة سكانه التعرّف إليه أو تخيّله. ولذلك، فإن الأنقاض والغبار في كل مكان ليسا جرّاء القصف فحسب، بل إنهما الوسيلة التي يسعى بها المستعمِر كذلك لتحويل الأرض إلى مكان غير صالح للسكن. وفي رطانة اللغة العسكرية، توصف تسوية كل شيء بالأرض في شمال غزة بأنها إنشاء "منطقة عازلة"، لكن هذه الرطانة مضلِّلة أيضاً لأنها تخلط بين الوسائل والغايات، ذلك بأن إنشاء منطقة عازلة خالية ليس غاية الحرب الإزالية ضد سكان الأرض، وإنما هو وسيلة للقضاء على العلاقة بين الشعب والأرض. ولذلك، فإن كل ما تمكّن الفلسطينيون من إنجازه وبنائه، بما في ذلك من أنقاض جولات الدمار السابقة، هو هدف لمزيد من التدمير. فالرغبة الإزالية هي رغبة شمولية، ومن هنا الثمن الفادح لوجود إسرائيل: فعليها ألّا تقتلع الفلسطينيين من الأرض فحسب، عن طريق الإبادة الجماعية أو الاقتلاع، بل أن تدمّر هذه الأرض بيئياً أيضاً، كي تتمكن من المطالبة بها بصفتها منطقتها المُؤمْنَنَة الخاصة بها. ومن هنا أيضاً ينبثق الطموح إلى إغراق أرض غزة بمياه البحر، مسببة بذلك تحويل الأنفاق إلى سراديب موتى، وتلويث المياه الجوفية لأجيال ستأتي.
وعلى ذلك، فإن الحديث عن التطهير العرقي ليس دقيقاً تماماً، لأن ارتباط الفلسطينيين بالأرض، والوجود الجماعي الذي يمنحهم إياه هذا الوجود، وليس انتماءهم العرقي أو هويتهم الجماعية الثابتة، هما اللذان يغذّيان وحشية الاستعمار الاستيطاني تجاههم. لهذا، فإن التحليلات الاجتماعية التي تركّز على الاختلافات بين الجماعات، بما في ذلك الاختلافات الإثنية أو الدينية، تفشل في تشخيص أهداف هذه الوحشية. إن العودة إلى المفردات العربية المستخدمة في وصف نكبة 1948، والأفعال الاستعمارية التي حافظت على استمراريتها، ربما تكون أكثر ملاءمة إذا أردنا تشخيص الخطر الذي يلوح في الأفق. فهذه المفردات تتمحور على الأفعال التي تصف الطبقات العديدة من فصل الفلسطينيين وإقصائهم عن الأرض، وهي: الاقتلاع، والترحيل، والتهجير، والتشريد، وهي كلها أفعال تشير أيضاً إلى المشروع الاستعماري الذي يسعى لعدم حكم الفلسطينيين.
4
هذا البتر بين الشعب والأرض والحكاية التي تربط بينهما، يبدو جلياً أيضاً في الضفة الغربية حيث يواصل المستوطنون والجنود اقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم الزراعية ومن بساتين الزيتون. وفي الخليل، تعيش مئات الأُسر وأفرادها تحت الحظر (الأمني)، بمعنى أنهم أزيلوا بالقوة من الأرض التي تمنحهم أفقاً للإقامة في عالم الحياة (lifeworld). ولا شيء جديداً من عمليات البتر هذه، أو تاريخه هو تشرين الأول / أكتوبر 2023، لكنها الآن متسارعة وأكثر انتشاراً.
وفي مختلف أنحاء أراضي الضفة الغربية، فإن الحواجز تجسّد تأثيرات جديدة؛ فإذا كانت وظيفة الحواجز التقليدية هي العسكرة وإعاقة حرية حركة الفلسطينيين على الأرض وكسر تدفّق وجودهم، فإنها الآن تظهر كبوابات تعزل وتحاصر. وفي بعض الأحيان، لا يُسمح لأي شخص، ولساعات متواصلة، بالدخول أو المغادرة. وهكذا، لم تعد الحواجز محض حواجز، وإنما تطورت لتصير أداة مصغرة للحصار، متصادية مع الحصار المميت المفروض على غزة. وعلى الرغم من الاختلافات الصارخة، فإن العامل المشترك بين الاثنين هو الطموح الاستعماري بسجن أصحاب البلد الأصليين، والافتراض بأن سيداً متفوقاً يحرس البوابة ويفتحها ويغلقها كما يريد. وبما أن الحواجز هي أدوات لانتشار الحصار الذي يعزل الفلسطينيين في مساحات أصغر من الأراضي، فإنها تيسّر تجزئة الأرض والشعب. وثمة محاولة إسرائيلية تجري حالياً لنسخ الخطة المجرّبة في الضفة الغربية في غزة عن طريق تمزيق القطاع الممزق أصلاً وتقسيمه إلى مربعات. وفي مواجهة هذا النظام المكاني، في غزة والضفة الغربية، وفي مواجهة تقنيات الحصار الشامل والحصار المصغر، ستتضاعف حتماً عمليات المقاومة.
لقد قسّم اتفاق أوسلو الضفة الغربية إلى ثلاث مناطق إدارية: المنطقة "أ" (18%)، وهي المدن التي تدير السلطة الفلسطينية فيها الشؤون المدنية والأمنية؛ المنطقة "ب" (22%)، وهي القرى التي تدير السلطة الفلسطينية فيها الشؤون المدنية فقط؛ المنطقة "ج" (60%) حيث تحتفظ إسرائيل بسيطرة كاملة. والمنطقتان "أ" و"ب" هما جيوب، بينما المنطقة "ج" هي المنطقة الوحيدة وغير المتقطعة في الضفة الغربية، والتي يعيش فيها نحو 300,000 فلسطيني ضمن وجود مقيَّد، إلى جانب 400,000 مستوطن إسرائيلي يتجولون ويستقرّون بحرية.[2] وفي إعادة تمثيل لعملية التهجير الصهيوني لأكثر من 400 قرية فلسطينية في سنة 1948، قام المستوطنون والجنود، خلال الشهرين الماضيين، بتهجير عشرات القرى من المنطقة "ج". واعتباراً من سنة 2015، كانت إسرائيل قد بدأت، بحكم الأمر الواقع، في استهداف هذه المنطقة للإمعان في حصر الفلسطينيين في جيبَي المنطقتين "أ" و"ب".[3] وبما أن ضم الأراضي يتطلّب إفراغها، فإن عمليات التشريد القسري الأخيرة هذه تهدف إلى تجسيد الوهم الاستعماري بأرض بلا شعب، وإلى توليد مزيد من الأرض مع أقل عدد من الفلسطينيين الذين يمكن حكمهم.
5
داخل إسرائيل، (أو في أراضي 1948 حيث نحو 17% من السكان فلسطينيون)، فإن آلة المحو الإسرائيلية لا تكتفي باستهداف سكن الفلسطيني في الأرض التي، ومنذ عدة عقود، صنّفتها هذه الآلة، بفعل قانوني، إقليماً إسرائيلياً، بل تستهدف أيضاً الفلسطينيين في نضالهم. وإذا كانت النكبة توسم الذات الفلسطينية التي لا يمكنها إلّا أن تناضل ضد هذه النكبة، فإن الأمر الاستعماري الذي تفرضه الحكومة الفاشية، لا يسعى لقمع ضرورة النضال فحسب، بل إلى قمع التماهي معه أيضاً. والغاية، بطبيعة الحال، هي استهداف نهج الحياة الفلسطينية في كل مكان، فهناك حملة قمعية ضد أي خطاب انتقادي أو احتجاج: الطلاب يُوقفون عن الدراسة أو يُطردون من مؤسساتهم الأكاديمية بسبب آرائهم؛ ثمة تقارير متزايدة عن إنهاء عقود العمال وإيقافهم عن العمل وتخفيض رواتبهم؛ نقابة المحامين الإسرائيلية هددت باتخاذ إجراء تأديبي ضد المحامين الذين ينشرون محتوى على وسائل التواصل الاجتماعي يُنظر إليه على أنه "تحريض على العنف"؛ هناك قانون الآن يجرّم استهلاك "المنشورات الإرهابية" على وسائل التواصل الاجتماعي. هذا غيض من فيض، فمن الجدير بالذكر أن الديمقراطيات الغربية الأُخرى اتخذت تدابير مماثلة لقمع النضال المؤيد للفلسطينيين. ومع هذا، فان التدابير التي تتخذها إسرائيل ضد فلسطينيي الداخل (والتي تمتد إلى الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية) تتسم بصفة خاصة، ذلك بأن هذه الإجراءات لا تنتهك حرية التعبير للفلسطينيين فحسب، بل تفرض عليهم أيضاً الانسحاب من مكانهم في العالم من خلال التراجع إلى مساحاتهم الخاصة. فهناك، وهناك فقط، يمكن أن يتحدثوا عن غزة وعن النضال، أمّا في الأماكن العامة، فلا يمكنهم سوى الهمس وخفض الصوت.
وتتجلى آلة الإزالة الإسرائيلية أيضاً في الجهد المبذول لتسليح الإسرائيليين المدنيين، ذلك بأن الأنظمة الجديدة تؤدي إلى زيادة كبيرة في عدد المواطنين الإسرائيليين اليهود المؤهلين لحمل السلاح عن طريق تخفيف الشروط. كما أن اللوائح الجديدة التي وضعتها وزارة الأمن القومي، مثلما يقول الوزير إيتمار بن غفير، ستفضي في الأمد القريب إلى تسليح 400,000 مستوطن إسرائيلي.[4] ويوصف التطبيق على الإنترنت لطلب (ترخيص) الأسلحة النارية في شريط فيديو بأنه: مألوف، وسهل، وفعَّال.[5] والمشهد الأخير لأحد فيديوهات الرسوم المتحركة يُظهر مدنيين إسرائيليين فيما يبدو كأنه مشهد مديني، يتجولون وأسلحتهم النارية مثبتة على خصورهم، فمنذ بداية حرب الإبادة، بات عدد الطلبات يُعدُّ بمئات الآلاف.[6]
لقد كان تسليح بعض المدنيين إحدى ممارسات الحكومات الفاشية،[7] وفي إسرائيل، لا تشكّل الفاشية سقوطاً جديداً، لأنها متجذرة وممكنة في الاستعمار الاستيطاني الليبرالي.[8] إن تسهيل إمكان حيازة الأسلحة ينيط بالمدنيين الإسرائيليين مهمة إصابة الفلسطينيين وقتلهم، وهذه مَهمّة يضطلع بها حالياً المستوطنون في الضفة الغربية. وهذا التسليح للمدنيين الإسرائيليين اليهود يشير إلى نظام سلطة استعماري لم يعد قائماً فقط على التمييز المؤسساتي، والاضطهاد المنهجي، وسيطرة جماعة عرقية على أُخرى، أو انتهاك الحقوق الأساسية (أي جميع ملامح جريمة الفصل العنصري)،[9] بل على القضاء على أسلوب الحياة الفلسطينية أيضاً. وغزة تكثّف هذه الرغبة الإزالية وتعلنها، والضفة الغربية تعاني جرّاء فائضها، بينما ينظر إليها فلسطينيو الداخل على أنها أفقهم المروِّع.
إن قتل الفلسطيني لا يستأصل حياته المباشرة والفردية فحسب، بل يعلن أيضاً استئصاله من الأرض، ويفصح عن التهديد باستئصال الآخرين الذين يسيرون على خطاه. ويحقق سحب الجنسية الذي له تاريخ فاشي أيضاً، إقصاء مماثلاً. وقد أُدخل في الماضي مساران قانونيان لإلغاء الجنسية في سنة 2016، وفي مطلع سنة 2023، وهناك مقترحات الآن لتوسيع هذه المسارات بحيث يصبح ممكناً إلغاء جنسية وإقامة الأفراد "الذين يتبيّن أنهم يدعمون الإرهاب، أو يحرّضون على الإرهاب، أو يتماهون مع أعمال إرهابية."[10] وهذا التوسع سيستبعد من الأرض مَن اعتُقلوا مؤخراً بعد أن أعربوا عن تأييدهم لنضال الفلسطينيين في غزة.
هذه الإجراءات الفاشية تقلص عملية حكم الفلسطينيين إلى مجرد القمع، والتحييد، والإبعاد عن طريق القتل، والاعتقال، وإلغاء المواطنة. وإذا أرادوا أن يتهربوا من هذه التقنيات وأن يتقبلوا على مضض أن تحكمهم إسرائيل، فإنه يتعين عليهم إلغاء تاريخانيّتهم، وارتباطهم بالأرض، وأي انتماء إلى النضال.
6
إن الخطر الذي يلوح ثقيلاً على فلسطين يتعلق بتصفية الوجود السياسي الجماعي للفلسطينيين من خلال تدمير الأرض، وقطع علاقتهم بها، وسحق النضال الذي يحافظ عليها. والمسعى الملحوظ الذي يتمثل في عدم حكم الفلسطينيين، بل في إخراجهم من حيز الوجود، أصبح أكثر وضوحاً. ففي غزة، ترغب إسرائيل في أن تمحو أي أثر للشعب الفلسطيني من الأرض، أمّا في الضفة الغربية، فيتمثل الطموح الاستعماري في عزل الفلسطينيين وحصرهم في جيوب صغيرة تحت نظام من الحصار المصغر، ومن المشكوك فيه أن إسرائيل تعتزم حكم الفلسطينيين في الضفة. ولذلك، ثمة ضرورة لوجود وكيل استعماري، هو السلطة الفلسطينية، ولوجود المستوطنين بصفتهم الذراع غير الحاكم في الدولة الاستعمارية. ثم هناك فلسطينيو الداخل الذين فقدوا أراضيهم وأصبحوا محصورين في قراهم ومدنهم خلال المرحلة الليبرالية من الاستعمار الاستيطاني. وبما أن النضال ضد الدولة الاستعمارية، والتماثل مع الفلسطينيين الآخرين ممّن يناضلون ضدها، هما ما يُبقيان الوجود السياسي الجماعي للفلسطينيين في قيد الحياة، فإن الدولة جنّدت أجهزتها كلها لسحقهم أو لإزاحتهم. ويتمثل الخطر في الجغرافيات الثلاث بتفريغ المقاومة الفلسطينية، وتحويل الفلسطينيين إلى قصبات فارغة، وإجلاء أرواحهم، واقتلاع وجودهم كجماعة، وإسكات نضالهم من أجل التحرير. وربما يكون قطع الكهرباء والإنترنت عن غزة لعزلها عن العالم، أو جعل غزة خارج التغطية، هو المظلة الدالة على هذا الخطر الذي ما زال، ولا يزال، برسم المواجهة. إن المشروع الدولي المتمثل في محاصرة الفلسطينيين في دولة صغيرة خاضعة لأهواء الدولة الاستعمارية الإسرائيلية، لا يزيل هذا الخطر، وإنما يزيد في ترسيخه.
ومن هنا، فإن تعبير جريمة الفصل العنصري قاصر أيضاً عن وصف عمليات هذا الخطر، ذلك بأن جوهر نظام الفصل العنصري هو حكم السياسات الحيوية، وليس سياسات الموت الإزالية والإقصاء. ومهما يكن الفصل العنصري تمييزياً وفصلياً، فإنه لا يزال يتطلّب علاقة بالسكان الأحياء. والجهود التي تبذلها إسرائيل لجعل البقاء في الأرض مستحيلاً، من غزة إلى الخليل إلى حيفا، تشير إلى قصور تأطير الفصل العنصري عن وصف الحالة التي يواجهها الفلسطينيون، ذلك بأن إنتاج غياب الفلسطينيين عن الأرض، وليس حكم الوجود الفلسطيني على الأرض، هو الطموح الذي يسهّل وجود إسرائيل. وإذا كان تعبير الفصل العنصري، مثلما أشار آخرون،[11] قاصراً عن وصف هذه الجوانب من الطموح الاستعماري، فإن وهم المساواة في الحقوق والعيش المشترك قاصر أيضاً لأنه لا يتحدى مسألة إخراج الفلسطينيين من أرض فلسطين التاريخية.
7
هذا الخطر الذي يلوح ثقيلاً في الأفق ليس جديداً، إنه مجرد تكرار حديث ووحشي للمسعى الاستعماري والدولي القديم لتصفية القضية الفلسطينية، وثمة تقليد فلسطيني جذري وطويل الأمد شخّص هذا الخطر وناضل ضده. وقد ترك لنا هذا التقليد بعض الإرشادات: كلما ازداد قطع الصلة بالأرض، ازداد التشبّث بها؛ وكلما ازداد حظر الإقامة في الأرض، ازدادت العلاقة بالأرض متانة؛ وكلما ازدادت الإزالة، ازداد انبثاق الحياة من بين الأنقاض. فالإزالة الاستعمارية، على الرغم من توحّشها، متفشية في فلسطين إلى درجة أن سياسات مناهضة الاستعمار والنضال ضده لم يمارَسا مطلقاً عبر أخذ مسافة منه، بل كان الأمر على العكس من ذلك تماماً... بالاشتباك معه.
إن الأرض في المخيلة الفلسطينية ليست مورداً اقتصادياً قابلاً للقياس، فأكثر الأراضي تحديداً وتجزئة لا يزال يشير إلى الوفرة، الأمر الذي يفسّر كيف تمكّن اللاجئون الفلسطينيون في الشتات، الذين تحول إسرائيل دون عودتهم إلى فلسطين والإقامة فيها، من تطوير وجود جماعي خلال نضالهم بعيداً عن أرضهم. ففي الوقت الحاضر، لكن أيضاً منذ سنة 1948، كان نضال اللاجئين في الشتات محورياً لترجمة السياسات الفلسطينية المناهضة للاستعمار إلى العالم، علاوة على المساهمة في تلك السياسات. والمخيلة التي تنتج الأرض الوفيرة في وجه دمارها، تحافظ على وجود جماعي في النضال، وهي التي تشكل الإجابة عن الإيقاع التكراري لآلة التدمير الإسرائيلية.
* تُنشر هذه المقالة بالعربية بالتزامن مع نشرها بالإنجليزية، بعنوان:
Samera Esmeir, “The End of Colonial Government", in: From the River to the Sea: Essays for a Free Palestine, edited by Sai Englert, Michal Schatz, and Rosie Warren (London: Verso, December 2023), pp. 157-173.
ترجمة: عبد الرحيم الشيخ.
والكاتبة تشكر باسط كريم إقبال وريم البطمة وزينب جامبتي ولين هافر، على قراءتهم لهذا النص وملاحظاتهم عليه.
المصادر:
[1] انظر: "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، موقع "مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة"، المادة الثانية.
[2] “West Bank, Area C: Key Humanitarian Concerns”, “Office for the Coordination of Humanitarian Affairs (OCHA)”.
[3] “Annexation Legislation Database”, “Yesh Din”.
[4]“Adalah: Israel Loosening Gun Controls Puts Palestinian Lives in Peril”, “The Legal Center for Arab Minority Rights in Israel / Adalah”, 17/10/2023.
[5] "فيديو إعلامي عن إصلاح طلب حمل السلاح"، قناة "يديعوت أحرونوت" (عبري)، في موقع "يوتيوب".
[6] هادار كانيه، "4,5 ساعات من وقتك وبضع مئات من الشواقل: هكذا يمكنك الحصول على رخصة سلاح في إسرائيل"، "ذي ماركر" (الملحق الاقتصادي لـ "هآرتس" / عبري)، 22/11/2023.
[7] Bernard E. Harcourt, “On Gun Registration, the NRA, Adolf Hitler, and Nazi Gun Laws: Exploding the Gun Culture Wars”, “Columbia Law School”.
[8] Alberto Toscano, “The War on Gaza and Israel’s Fascism Debate”, “Verso Books Blog”, 19/10/2023.
[9] “A Threshold Crossed: Israeli Authorities and the Crimes of Apartheid and Persecution”, a report by “Human Rights Watch’, 27/4/2021.
[10]"Israeli Ministers Declare Plan to Legislate Revocation of Citizenship or Residency over ‘Support and Incitement to Terror’ ”, “Palestine News & Info Agency/Wafa”, 28/10/2023.
[11] صالح عبد الجواد، "لا يا سادة... إنه ليس أبارتايد!"، "الأخبار" (بيروت)، 11 / 11 / 2023.