أخذاً بعين الاعتبار الدور الأساسي والضروري للمقاومة الفلسطينية والعربية في التأسيس لمسارات بديلة في الصراع أو تغيير المسارات القائمة، فإن التراجع في المؤشرات الأساسية المعتمدة لقياس القوة والهيمنة، والتبعات التاريخية بعيدة المدى، والسياسية قريبة المدى، لنتائج الصراعات التي تنخرط فيها أميركا بما فيها فلسطين، لا تجعل من المبالغة اعتبار معنى عملية "طوفان الأقصى" وتبعاتها ذات أبعاد عالمية. فعلى الرغم من الثمن السياسي المباشر الذي لا يبدو أن أميركا، بدعمها غير الخجول والعلني للمجازر وحتى لخطط الإبادة والتطهير العرقي في غزة، مترددة في دفعه، ذلك بأن الثمن التاريخي المترتب على هزيمة الكيان الصهيوني، وبالتالي هزيمة "الراعي الأميركي"، سيكون أكبر من أن تحتمله قوة كونية في مرحلة الأفول.[1]
وعد ويلسون: أميركا في فلسطين
ما بين بداية تموز / يوليو ونهاية تشرين الأول / أكتوبر 1917، تبادل ممثلو الحركة الصهيونية مع الحكومة البريطانية أربع مسودات في سياق التفاوض على نص "وعد بلفور" الذي سيصدر بعد الاتفاق النهائي على المسودة الخامسة في 2 تشرين الثاني / نوفمبر 1917. وبينما لم تتضمن المسودة الأولى (تموز / يوليو 1917) أي ذكر للفلسطينيين قط، وإنما تركز النقاش أساساً على "الوسائل لتحقيق هدف الوعد"، فإن كلاً من المسودة الثانية والثالثة (آب / أغسطس 1917)، خلا من أي ذكر حتى لـ "الحقوق الدينية والمدنية للجماعات / الجاليات" التي تقطن فلسطين، مثلما جاء في النص النهائي لـ "الوعد". أمّا المسودة الرابعة (4 تشرين الأول / أكتوبر 1917) التي ورد فيها ذكر الحقوق "المدنية والدينية" للمرة الأولى، فشملت أيضاً بنداً إضافياً يتضمن تعهداً بحماية حقوق المواطنة لليهود (وليس فقط الحقوق الدينية والمدنية مثلما كانت الحال بشأن العرب في فلسطين) في الدول الأُخرى إذا ما اختاروا البقاء حيث هم. وتم الاتفاق على النسخة النهائية من النص، والتي يعرفها العالم، بعد أربعة أشهر من المسودة الأولى، في 31 تشرين الأول / أكتوبر 1917.[2] هذا مختصر قصة" الوعد" السائدة، مثلما يعرفها العالم.
وصدور "الوعد" في ذلك التوقيت بالذات، لم يكن فقط بسبب الاتفاق بين طرفَي الحركة الصهيونية والحكومة البريطانية، كما لم يؤخّر إصداره تبادل المسودات والصيغ التي لم يُنشر من تفصيلاتها سوى "الوعد" نفسه. فوَضْع العالم آنذاك، قبل عام بالضبط من نهاية الحرب الإمبريالية الأولى، وعلى الرغم من رغبة الحكومة البريطانية، وحتى بغضّ النظر عنها، لم يكن ليسمح بأن يكون لـ "الوعد" أي مفعول سياسي ممكن وتاريخي مختلف عن الوعد الفرنسي الذي سبقه (وعد السكرتير العام لوزارة الخارجية الفرنسية، جول كمبن، لممثل الحركة الصهيونية ناحوم سوكولوف في 4 حزيران / يونيو 1917)، أو التعاطف الإيطالي مع مشروع استعمار الحركة الصهيونية لفلسطين. لقد صدر "الوعد" وأصبح له المفعول التاريخي الذي اختبرناه أساساً بسبب موافقة الولايات المتحدة الأميركية على ذلك، وبسبب دورها في إصداره، ووقوفها خلفه وتبنّيه. فلولا الموافقة الأميركية ربما بقي هذا "الوعد" مثل وعود أُخرى أصدرتها الحكومة البريطانية وانتهت إلى مجرد وثائق في الأرشيف يدرسها المؤرخون.
العصر الأميركي: الطريق إلى "الوعد"
منذ سنة 1900 تحديداً، بدأت مؤشرات بداية دورة جديدة من الهيمنة الكونية تتشكل. ففي تلك السنة، لم تتساوَ فقط، وللمرة الأولى في التاريخ، المساهمة الاقتصادية الأميركية والبريطانية في الإنتاج العالمي (بنسبة 9% لكل منهما، وهي النسبة القصوى التي وصلت إليها المساهمة البريطانية في تاريخها الإمبريالي كله)، بل كانت الولايات المتحدة أيضا هي القوة الصاعدة الجديدة، كما أن الأفق بدا مفتوحاً أمام هيمنتها، بينما بريطانيا كانت تختبر مخاضات الأفول. وفي سنة 1917، سنة صدور "الوعد"، كانت الولايات المتحدة الأميركية قد تجاوزت وبدرجات، وفق أي مقياس مركّب وشامل لقياس الهيمنة (ليس الاقتصاد فقط)، الإمبراطورية البريطانية. ولهذا، فإن سنة 1900 بمؤشراتها الشاملة أنبأت ببداية العصر الأميركي، إذ بحلول سنة 1917، وخصوصاً بعد سحق القوة الألمانية الصاعدة والمنافس الوحيد الممكن للولايات المتحدة آنذاك في الحرب وتقييد إمكان انتعاشها لاحقاً، كان قد مضى شوط على ترسيخ إعادة تشكيل بُنية السلطة الكونية بقيادة أميركية ودخول العالم دورة جديدة، مختلفة، وغير مسبوقة، من الهيمنة.
لهذا بالضبط، في 3 أيلول / سبتمبر 1917، أي حتى قبل إنجاز نص "الوعد"، عرضت الحكومة البريطانية على الرئيس الأميركي وودرو ويلسون فكرة إصدار بيان تعاطف ("الوعد") مع الحركة الصهيونية، لكنه رفض أن تصدر بريطانيا "الوعد" مجيباً، حرفياً، بأن الوقت "غير ملائم" بسبب ظروف الحرب العالمية، فامتنعت بريطانيا من إصداره. ثم في 6 تشرين الأول / أكتوبر 1917، أي قبل إصدار "الوعد" بأقل من شهر بقليل، وفي أعقاب الاستشارة البريطانية الثانية، أعطى الرئيس ويلسون موافقته على إصداره.[3] وبهذا، يكون القرار بصدور "الوعد" أميركياً أساساً، كي لا نتحدث عن معنى ومفاعيل اصطفاف أميركا، القوة الكونية الأولى آنذاك، خلف "الوعد". ففي ذلك الوقت بالضبط، أصبح المشروع الاستعماري الصهيوني مشروعاً أميركياً، إلى درجة أن ألكسندر هيغ (وزير الخارجية الأميركي السابق، والعسكري والقائد العام لقوات حلف الناتو) وصف الكيان لاحقاً بـ "حاملة الطائرات التي لا تغرق"، في استعارة لمفاهيم الجغرافيا العسكرية من الحرب العالمية الثانية حين تم استخدام بعض جزر المحيطات كمعسكرات ومطارات بديلة لحاملات الطائرات.
لم يجرِ جدل بين المؤرخين الدبلوماسيين بشأن مركزية الدور الأميركي في"الوعد" الذي حمل اسم صاحب الرسالة (أي بلفور) الموجهة إلى اللورد الصهيوني روتشايلد. فالجدل، الذي يبدو سطحياً في الحقيقة، يدور فقط حول مساهمة بعض الأفراد المحيطين بالرئيس في التسريع بالموافقة، وليس حول الموقف ذاته، فويلسون أصلاً لم يرفض فكرة "الوعد"، لكن كان يختلف مع التوقيت، أو أنه أراده بتوقيت أميركي. فبعض المؤرخين يجادل، مثلاً، في أن الدور الأساسي في إقناع الرئيس كان لقاضي المحكمة العليا حينها لويس برانديز (أول قاضٍ يهودي أميركي في المحكمة الأميركية العليا) استناداً إلى تواصل بشأن "الوعد" بين جايمس روتشايلد في بريطانيا، والذي صدر "الوعد" باسمه، ولويس برانديز– ربما يكون أهم تواصل هو كابل أرسله روتشايلد لبرانديز في 25 نيسان / أبريل 1917 يحثّه فيه على العمل على تأمين دعم الرئيس الأميركي لـ "الوعد". أمّا البعض الآخر، مثل ليونارد شتاين، أحد مؤرخي "وعد بلفور"، فيشير إلى دور محوري لمستشار الرئيس المكنّى بالعقيد إدوارد هاوس لقربه من الرئيـس. ربما يكون برانديز حثّ الرئيس ويلسون فعلاً على تأييد "الوعد"، وربما يكون الكولونيل هاوس أيضاً فعل ذلك، لكن هذا وحده لا يفسّر قرار الرئيس النهائي، وخصوصاً على أعتاب نهاية الحرب العالمية الأولى، إعادة تقسيم العالم، وصعود الإمبراطورية الأميركية كقوة مهيمنة جديدة.
بأثر رجعي الآن، وبعد مرور أكثر من قرن، يمكن الاستنتاج أن بريطانيا لم تكن وحدها وراء "الوعد"، ولم يكن حتى في استطاعتها إصدار "الوعد" وضمان المفاعيل التي استتبعها، حتى لو كان خلفها الحركة الصهيونية كلها في بريطانيا وأوروبا، مثلما كانت فعلاً. لكن، لأن "وعد بلفور" يمثّل لحظة الولادة الحقيقية لمشروع الدولة الصهيونية على أرض فلسطين العربية كمشروع إمبريالي غربي مستقبلي أساساً، ويمثّل أيضاً الرابط التاريخي الملموس والواضح بين الصهيونية الاستعمارية والإمبريالية الغربية، فإن صدور "الوعد"، على النحو الذي صدر فيه ومثلما كانت تبعاته، لم يكن ممكناً إلّا وفق التوقيت الأميركي فقط، بل مثّل ملامح العصر الأميركي ومقدمة لتجلياته في المنطقة العربية. كان هذا "الوعد"، مثلما ستنبىء الأحداث لاحقاً، هو "وعد ويلسون"، ولم يكن "دور بلفور" أكثر من ساعي بريد.
وكان "الوعد"، أيضاً، مجرد البداية لمسار متصاعد من سياسات القوة الكونية الجديدة في المنطقة العربية عامة، وفي فلسطين تحديداً، لمصلحة المشروع الصهيوني. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة كان الدور الأميركي مركزياً وأساسياً ليس في صدور قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 فحسب، بل تمريره كذلك عبر عدة أمور منها: الابتزاز والضغوط والإغراء، والتي مارستها الولايات المتحدة الأميركية على بعض أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة للحصول على ثلثَي الأصوات المطلوبة (تهديد ليبيريا بحصار اقتصادي، وشراء صوت هايتي، وتهديد الفيليبين وإجبارها على تغيير تصويتها على الرغم من إعلان رفضها المسبق للقرار، وحتى تهديد فرنسا بقطع المعونة الضرورية للإعمار عقب الحرب العالمية الثانية، والضغط على الهند وكوبا اللتين لم تستجيبا لهذا الضغط). كان قرار التقسيم إذاً قراراً أميركياً أيضاً، بل كان لأميركا دور مركزي في الأحداث التي جرت كحرب حزيران / يونيو 1967، وحرب تشرين الأول / أكتوبر 1973، وغزو لبنان في سنة 1982. وهذا كله كان ممكناً إلى حد كبير بسبب إعادة تشكيل بُنية السلطة الكونية وفق موازين القوى الكونية الجديدة (بالمعنى الشامل لمفهوم القوة) في أعقاب الحرب العالمية الأولى وتحوّل الكيان إلى معسكر متقدّم لها.
غير أن طوفان 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، بتشكيكه الجدّي في دور المعسكر الأميركي المتقدّم في قلب المنطقة العربية، إن لم يكن بجرفه فعلاً لـ "حاملات الطائرات" التي اتضح أنها تغرق، يؤشر إلى تحولات كونية بُنيوية أيضاً. فمع أن المقاومة الفلسطينية للمشروع الصهيوني لم تتوقف على مدى أكثر من قرن، إلّا إن السياق العالمي الذي يدور فيه الصراع مختلف إلى درجة تجعل تبعات المواجهة الدائرة الآن في غزة عالمية.
هامش نظري: كيف نفهم عالم ما قبل الطوفان وما بعده؟
لأن المنظومة الدولية هي وحدة تحليلية واحدة، وبالتالي وبالضرورة أن التاريخ الحديث بفعل وحدة العالم وترابط تأثيرات أحداثه هو تاريخ عالمي بامتياز، فإن هذه القراءة تفترض، كمبدأ تفسيري، أن حال العالم، أو، بشكل أدق، حال بُنية النظام العالمي، هما المبدأ الأساسي والعامل المنظّم للصراعات الكونية الكبرى، كما للصراعات المتفرعة عنها، والمرتبطة بها، أو المتشابكة معها. وهذا يعني، بالضرورة، أن السياق العالمي، أيضاً، هو المبدأ الأساسي والناظم الرئيسي لعمليات التغيير الكوني والإقليمي والمحلي المترابطة. لذلك، يقترح هذا التقدير، استتباعاً لتقليد غني ومتراكم من الأعمال البحثية، وبالقياس والاستدلال كذلك، أن وعي اللحظة التاريخية الراهنة بحال العالم وحال النظام العالمي، ضروري جداً لفهم عميق وشامل للصراع الدائر في فلسطين. فما يميّز هذه اللحظة التاريخية من عمر النظام العالمي، ليس فقط طور التغيير التاريخي الذي يعيد تشكيل بُنية المنظومة الدولية، أو حتى اختبار ألم مخاضات مرحلته الانتقالية، بل مشارفتها، بمعنى الزمن الاجتماعي والتاريخي، على النهاية أيضاً.
فالنظام العالمي، ناظم الصراعات والتغيير، وعلى غرار الأنظمة عامة، والأنظمة الاجتماعية التاريخية خاصة، له حياة تظهر إلى الوجود في مرحلة ما (وهو ما يحتاج ويمكن تفسيره نظرياً)، وتتطور وتتحول وتنتهي وفق قواعد يمكن شرحها.[4] ومثل جميع الأنظمة، تميل حياة النظام العالمي (الاجتماعي التاريخي)، مع مرور الوقت، إلى فقدان التوازن (بسبب الإيقاعات الدورية التي لا يمكن أن تعود بالنظام إلى نقطة البداية مع كل عملية إعادة إنتاج، وأيضاً التقلبات النظامية من الارتفاع والانخفاض)، ثم الدخول في أزمات بُنيوية (لا يمكن الاستمرار فيها، أو إصلاحها، أو تجاهلها)، وفي الوقت الملائم يتوقف النظام عن الوجود،[5] فينتهي ويستبدله نظام آخر تحدده نتائج الصراعات المتعددة التي تجري أيضاً بترابط وتبادل تأثير.
ولأن المنظومة الدولية هي وحدة واحدة أيضاً، فإن أحد أهم المتغيرات في السياسات الدولية هو حال القوة المهيمنة في النظام العالمي. لذلك، فإن أحد أهم المتغيرات في السياسة الدولية هو حال الولايات المتحدة الأميركية، القوة المهيمنة منذ نهاية حرب الثلاثين عاماً الإمبريالية (ما يسمى الحرب العالمية الأولى والثانية). ففي أعقاب المرحلة الأولى من الحرب الإمبريالية، استطاعت الولايات المتحدة أن تتمتع بهوامش هائلة في مؤشرات قياس القوة والهيمنة (سياسياً، واقتصادياً، وعسكرياً، وأيديولوجياً) تفصلها ليس فقط عن باقي دول العالم، بل حتى عن دول المركز في النظام العالمي. هذا، بالتالي، لم يجعل من الولايات المتحدة القوة المؤثرة والمتغير الأهم في الشأن الدولي، بل أصبحت، بعد المرحلة الثانية من الحرب الإمبريالية، القوة العالمية المهيمنة بشكل واضح وغير قابل للتشكيك، وحتى غير مسبوق.
ولأنه لا يمكن إدراك المواجهة الدائرة راهناً في فلسطين ومآلاتها المحتملة بعمق وشمولية، كي لا نقول إدراك جوهر الصراع العربي - الصهيوني، من دون المتغير الأميركي أساساً، فإن ملخصاً سريعاً لتاريخ الهيمنة الأميركية كأحد أهم ملامح السياق الدولي للصراع العربي - الصهيوني سيؤسس لاستنتاجات أكثر دقة.
أميركا: صعود الهيمنة وأفولها
ممّا لا شك فيه أن الهيمنة، ومفهوم القوة الشاملة، لهما أبعاد متعددة: اقتصادية، وسياسية، وعسكرية، وثقافية، ولهذا فإن إدراكهما بعمق لا يحتاج إلى منظور بعيد المدى فقط، بل إلى إنشاء مقاييس مركبة وشاملة أيضاً، وكذلك مقاييس مركبة لكل عنصر من عناصر القوة على حدة (مقاييس مركبة للقوة الاقتصادية، أو العسكرية مثلاً). هكذا يمكن بعمق إدراك ليس فقط دور العوامل المشتركة معاً، بل فهم تأثيراتها منفردة أيضاً. مثلاً، يشير جيفري كينتور في "رأس المال والإكراه"[6] إلى أنه بينما كانت بريطانيا في سنة 1820 هي القوة الأساسية المهيمنة بمجموع نقاط إجمالي موحّد كان ضعف فرنسا، أقرب منافسيها آنذاك، فإن القوة النسبية الأساسية لبريطانيا جاءت في المقام الأول من مستوى كثافة رأس المال (مثلما يتبيّن من نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي)، أحد مقاييس القوة الاقتصادية، وثانياً من القوة العسكرية. لكن، بحلول سنة 1900، ومع أن بريطانيا كانت لا تزال تمتلك أعلى الدرجات الإجمالية (بالنقاط)، إلّا إن قوتها الشاملة حينها، وفقاً للمقياس الشامل، كانت تعتمد على القوة العسكرية أساساً بسبب خسارتها مقاييس القوة الاقتصادية في مقابل الولايات المتحدة والصين (وخصوصاً في حجم الإنتاج، لكن ليس بمقياس كثافة رأس المال الذي امتازت به حتى ذلك الوقت، على الرغم من التراجع الشامل).
إن السمة المميزة لتجربة الهيمنة الأميركية هي في كل من: الصعود السريع، وربما غير المسبوق، للاقتصاد الأميركي وحجمه كنسبة من الاقتصاد العالمي، حتى تجربة الصين الراهنة، والهامش الهائل الذي فصله حتى عن غيره من دول المركز الإمبريالي في لحظة الذروة، وميّزه من غيره من تجارب الهيمنة السابقة. فبينما شكل الاقتصاد الأميركي 2% فقط من الإنتاج العالمي في سنة 1820، فإنه وصل إلى ذروة غير مسبوقة شكلت 35% من حجم الاقتصاد العالمي في سنة 1944، بعد أن تجاوزت قبلها بأربعة عقود ذروة مساهمة الاقتصاد البريطاني في سنة 1900 (بلغت نسبتها آنذاك 9% من الاقتصاد العالمي).
في القرن الأول، وتحديداً منذ سنة 1870، تميز الاقتصاد الأميركي بالميل العام والبعيد المدى إلى الصعود على الرغم من بعض الانتكاسات الاستثنائية التي أدت إلى انخفاض حصة الولايات المتحدة موقتاً، كما في فترة الكساد العظيم 1929 – 1933. غير أن المسار العام كان ثباتاً، أو نسبة ثابتة في المدى الطويل، بين صعودين أو انتعاشين (أو صعوداً مستمراً يتخلله ثبات على نسبة معينة لأعوام، يُستتبع بصعود جديد). أمّا القرن الذي تلا الحرب الثانية، وتحديداً منذ سنة 1951، فكان أيضا ثباتاً (نسبة ثابتة من الاقتصاد الكوني لفترة طويلة)، لكن بين تراجعات متتالية في المساهمة في الاقتصاد الكوني كميول عامة وبعيدة المدى. فبدءاً من سنة 1951 انخفضت حصة الولايات المتحدة بشكل مستمر حتى سنة 1958. وخلال الفترة 1958 - 1968 شهدت حصة الولايات المتحدة ثباتاً لعقد كامل تقريباً، إلى أن حدث الهبوط التالي في نهايتها، ثم تلاه ثبات آخر تبعه في سنة 1982 تراجع جديد، فثبات جديد حتى سنة 1998 حين تراجعت حصة الولايات المتحدة إلى 21%، أو ما يقارب نصف حصتها الهائلة في أعقاب الحرب الثانية.[7]
ومع أن مقاييس الهيمنة عادة ما تكون مركّبة وشاملة في المقاييس الاكاديمية، إلّا إن مسار حصة الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة يدعم الاستنتاجات الأكاديمية بشأن صعود (في القرن الأول) وتراجع (في القرن الثاني) الهيمنة الأميركية. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كان هناك ثلاث محطات أساسية تؤشر إلى انحدار الولايات المتحدة: الأولى بدأت في سنة 1944، والثانية في سنة 1951، والثالثة في سنة 1968. وكانت الذروة التي وصل إليها الاقتصاد الأميركي في سنة 1944 غير مسبوقة كون الاقتصاد الصناعي الأميركي كان الوحيد الذي لم يتم تدميره كغيره في الحرب، غير أن تعافي الاقتصادات الأُخرى أسس للموجة الأولى من التراجع. ولاحقاً، كان للمنافسة الشاملة أثرها الملموس أيضاً، إلّا إن التحدي الصيني الاقتصادي، والتحدي العسكري والسياسي الروسي في العقد الثاني من القرن الحالي، مثّلا مرحلة متميزة في التراجع والأفول الأميركي.
ثم جاء الطوفان: معضلات أميركا في فلسطين
حتى ليلة 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، كانت الولايات المتحدة مستمرة في إعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط بما يضمن الحفاظ على مصالحها ومصالح الكيان الصهيوني من جهة، وبما يسمح لها بمغادرة المنطقة بالتدريج للتفرّغ لاستراتيجيا التحول إلى آسيا التي تبنّتها في نهاية سنة 2011 لمواجهة الصين، الخصم الكوني الأساسي من جهة ثانية. وعزز من أهمية هذه الترتيبات أكثر انخراطها الكبير أيضاً في الصراع الدائر والمستجد في أوكرانيا، كون أوروبا هي إحدى أهم مناطق النفوذ الأميركي، في مواجهة قوى كونية صاعدة أُخرى، أي روسيا. إن تمدد الولايات المتحدة في الصراع في كل من أوكرانيا مع روسيا، والصين في شرق آسيا، وحاجتها بالتالي إلى إعادة ترتيب منطقة الشرق الأوسط، كانا القوة الدافعة إلى تأسيس الحلف الصهيوني - العربي لمواجهة الصعود الإيراني وتمدد حلف المقاومة. وفي أعقاب توقيع "اتفاقيات أبراهام" بين عدد من الدول العربية والكيان الصهيوني، قطع الحوار والتفاهم للتطبيع السعودي - الصهيوني مرحلة كبيرة شارفت على الخواتيم. وفضلاً عن ذلك، فَعّلت الولايات المتحدة أدوات المواجهة غير العسكرية ضد قوى ودول محور المقاومة واضعة إياها في حالة دفاع عن النفس في مواجهة حملة أميركية / غربية – صهيونية - عربية شرسة جداً. وكانت المواجهة تبدو صعبة، والأزمة المتصاعدة مستعصية على الحل باستخدام أدوات الصراع والمواجهة التقليدية التي امتلكها محور المقاومة.
ثم جاء الطوفان فانقلبت الأدوار، إذ أضاف الطوفان إلى تعثّر الولايات المتحدة وعجزها عن حسم الصراعَين الكبيرين في شرق آسيا وأوروبا اللذين يحمل كل منهما في طياته احتمالات إعادة تشكيل المنظومة الدولية، تحدياً إضافياً لم يكن في الحسبان، مع أنه بدا بأهمية الصراعات الأُخرى أيضاً، وحمل في طياته تبعات مشابهة على الهيمنة الأميركية على المنطقة والعالم. وعلاوة على تجميد، إن لم نقل إبطال، مفاعيل بعض الترتيبات التي احتاجت إلى سنين للتأسيس لها، كما في قضية التطبيع، فإن الولايات المتحدة واجهت عدة معضلات ستؤثر حتماً في قدرتها على إبطاء تراجع هيمنتها، يمكن إجمال أهمها بما يلي:
أولاً: أمام انكشاف هشاشة ووهن دور الكيان الصهيوني الإقليمي عسكرياً وسياسياً، كان على الولايات المتحدة دعم خيار الحرب المتوحشة، وحتى الانخراط فيها لاستعادة صورة الدور بالحد الأدنى وبأي ثمن، الأمر الذي هدد بشكل جدّي إمكان استمرار الحلف العربي - الصهيوني (بل حتى هدد استقرار بعض الأنظمة العربية الحليفة) من جهة، وجميع الترتيبات الإقليمية التي اعتمدت عليها الولايات المتحدة الأميركية لمغادرة المنطقة والتفرّغ للخصوم الكبار من جهة أُخرى. إن انكشاف هشاشة وظيفية الكيان الصهيوني لم يُظهره على حقيقته فقط كبعض بقايا ورموز حقبة الهيمنة الأميركية السابقة، بل بدا كأنه صورة مصغرة لهشاشة أميركا ذاتها وهشاشة هيمنتها. هذه الخيارات كلها بدت سيئة منذ البداية، فالاستمرار في دعم خيار الحرب بالطريقة التي أدارها الكيان الصهيوني كانت تعني بلا شك، إبطال مفاعيل أغلب الترتيبات الإقليمية والعودة إلى نقطة الصفر، بينما التراجع والقبول بشروط الهزيمة كانا أكبر ممّا تستطيع أن تتحمل.
ثانياً: المعضلة الأهم التي واجهتها الولايات المتحدة الأميركية كانت بين الخيارات السياسية قصيرة الأمد المتمثلة في العمل من أجل الحفاظ على الصورة التي تروّجها أدوات الدعاية وصناعة الأيديولوجيا للقوة العظمى القوية والأخلاقية في الوقت ذاته، والتي كان استمرار الحرب الهمجية على غزة يكسرها ويفضح زيفها يوماً بعد يوم بسبب صمود المقاومة الأسطوري من جهة، وهمجية ولا أخلاقية إدارة الحرب من جهة أُخرى، وبين الخيارات والمصالح التاريخية الكبرى وبعيدة المدى التي تفترض أن التسليم بنتائج الطوفان (للحفاظ على الصورة) لن تكون تبعاتها أقل من تبعات خسارة أي من معركتَي أوكرانيا أو شرق آسيا، إن لم تكن أكبر. وحتى اللحظة، ومع دخول الحرب شهرها الثالث، يبدو أن الخيار الأميركي يميل نحو الخيارات التاريخية بضمان الهيمنة واستعادة خسارة الدور الوظيفي الإقليمي للكيان الصهيوني بغضّ النظر عن الثمن السياسي القصير المدى المترتب على ذلك نتيجة الاستمرار في الحرب والهمجية الصهيونية المدعومة والمغطاة أميركياً.
خاتمة: عالم ما بعد الطوفان
لا يمكن، إذاً، إدراك معنى طوفان تشرين الفلسطيني وتبعاته بمعزل عن الصراع الكوني الدائر في أكثر من ساحة على إعادة إنتاج منظومة القوة الكونية وفق شروط موازين القوى الكونية الجديدة التي ستعيد بالضرورة ترتيب المنطقة والعالم على حساب دور الولايات المتحدة ومكانتها التقليديين. وبهذا المعنى، فإن الولايات المتحدة ربما تكون المتضرر الأساسي من مفاعيل الطوفان. ففي المحصلة، ليس الكيان الصهيوني أكثر من امتداد نسيجي للإمبراطورية الأميركية بوظيفة إقليمية عسكرية وسياسية في قلب الوطن العربي أبطلها الطوفان في ساعات قليلة، وبالتالي، فرض على القوة الكونية العظمى إعادة النظر في كثير من خياراتها من أجل الحدّ من الخسائر في الصراعات الدائرة حول مكانتها ودورها ومصالحها في أكثر من مكان في العالم.
لهذا، فمثلما كان الاستعمار الصهيوني لفلسطين ممكناً وفق الشروط الدولية، وتحديداً وفق الشروط التي أسست للهيمنة الأميركية وصعود الولايات المتحدة كقوة كونية منذ مطلع القرن العشرين (إذ لم يكن "وعد بلفور"، ولا النكبة، ولا النكسة، وما تلا ذلك، أمراً ممكناً من دون دور أميركي مركزي في كل مرحلة)، فإن التراجع الأميركي الملموس (والذي يمكن قياس مداه إمبريقياً بسهولة وفق أغلبية المقاييس المركبة والشاملة المتوفرة لقياس الهيمنة) سيكون له تبعات مضادة للمسار التاريخي الذي كان حتى وقت قريب يسير لمصلحة الكيان الصهيوني. إن التحول النوعي في شروط الظرف الدولي الذي جعل استعمار فلسطين وتشريد شعبها ممكناً، تأثر جدياً بفعل الصراعات الكونية من أوروبا إلى شرق آسيا، لكنه قارب فعلياً على الغرق في طوفان تشرين.
المدهش أكثر من أي شيء آخر في طوفان غزة كان التوقيت. والتوقيت أحياناً قد يكون متغيراً حاسماً في الأحداث يصعب حساب تأثيراته ما دام الحدث لم ينتهِ، مثلما تدل على ذلك الحرب العالمية الأولى و"وعد بلفور وويلسون"، أو الحرب الثانية وقرار التقسيم والنكبة. فتأثيرات الحدث المدهش ما كانت بالتأكيد لتكون بهذا الحجم الهائل قبل أو بعد 7 تشرين الأول / أكتوبر، ولولا تزامنها مع صراعَي أوكرانيا وشرق آسيا – وهذا طبعاً، من دون التقليل من شجاعة المقاومين وبطولاتهم المدهشة في صنع الحدث والتاريخ. لهذا، يمكن فقط لمؤرّخي المستقبل، ومن بعيد، إدراك ووعي كيف ستتكشف الأحداث تباعاً في المستقبل القريب من لحظة بداية الطوفان حتى تحرير الشبر الأخير من فلسطين. لكن، ما يمكننا أن ندركه نحن الآن، بحدود زماننا ومكاننا، أن مساراً تاريخياً جديداً ونوعياً بدأ في 7 تشرين الأول / أكتوبر بفعل الطوفان الفلسطيني الذي يبشر بانقلاب تاريخي على مستوى سيكون أبعد من الإقليم بالتأكيد. والأمر الذي يمكننا الحسم به، بالتأكيد، هو أن طوفان محمد الضيف، سيكون بالضرورة أحد أهم الأحداث التي تؤسس للتحول العظيم الذي يقف العالم الآن على أعتابه؛ عالم جديد يمكن أن تشكل أعوامه الأولى، فعلاً، لقرن أميركي معكوس.
المصادر:
[1] سيف دعنا، "طوفان تشرين: الإلياذة الفلسطينية"، "المستقبل العربي"، العدد 537 (تشرين الثاني / نوفمبر 2023).
[2] للاطّلاع على النصوص الأولى، انظر:
Leonard Stein, Balfour Declaration (New York: Simon and Schuster, 1961), pp. 646.
[3] Richard Ned Lebow, “Woodrow Wilson and the Balfour Declaration”, The Journal of Modern History, vol. 40, no. 4 (December 1968), pp. 501-523.
[4] Immanuel Wallerstein, World-Systems Analysis: An Introduction (Durham and London: Duke University Press, 2004); Andre Gunder Frank, “World System in Crisis”, Contemporary Marxism, no. 2 (Winter 1980), pp. 8-18.
[5] يجادل والرشتاين في النص أعلاه:
"إن جميع الأنظمة – من الكون الفلكي إلى أصغر الظواهر الفيزيائية، بما في ذلك طبعاً الأنظمة الاجتماعية التاريخية – لها حياة، وقد ظهرت إلى الوجود في مرحلة زمنية ومكانية، ولأسباب وطُرُق نستطيع تفسيرها. وهذه الأنظمة تعيش حياة (طبيعية)، وتحتاج قواعدها إلى شرح، ومسار حياتها الطبيعية يميل، مع مرور الوقت، إلى إبعادها عن التوازن، وعند هذه النقطة تدخل في أزمة بنيوية، وفي الوقت الملائم تتوقف عن الوجود. ويجب تحليل سيرة حياة الانظمة بشكل طبيعي من حيث الإيقاعات الدورية والاتجاهات العلمانية: الإيقاعات الدورية هي مجموعات من التقلبات النظامية (الارتفاع والانخفاض) يعود فيها النظام بانتظام إلى التوازن. ومع ذلك، فإنه توازن متحرك، لأنه عندما يصل النظام إلى نهاية فترة الانكماش، لا يعود أبداً إلى ما كان عليه بالضبط في بداية الانكماش، ذلك بأن الاتجاهات العلمانية (الزيادات البطيئة وطويلة الأجل في بعض الخصائص النظامية) تدفع المنحنى ببطء إلى الأعلى، كما يتم قياسها بنسبة معينة من تلك الخاصية في النظام" (الترجمة بتصرُّف). انظر:
Wallerstein, op. cit., p. 76.
[6]Jeffrey Kentor, Capital and Coercion: The Economic and Military Processes that Have Shaped the World Economy 1800–1990 (New York: Garland Publishing, 2000).
[7] Christopher Chase-Dunn et al., “The Trajectory of the United States in the World-System: A Quantitative Reflection”, Sociological Perspectives, vol. 48, no. 2 (Summer 2005), pp. 233-254.