خلال 75 عاماً، انطلاقاً من نكبة الفلسطينيين سنة 1948، سُجلت تطورات شديدة الأهمية على صعيد منطقة الشرق الأوسط والعالم، سوف تغير كثيراً في الجغرافيا، والمفاهيم الخاصة بحقوق الإنسان، وفي قوانين تحدد العلاقات بين البشر والدول، وتضع التزامات خلال المعارك بين الجيوش والقوات المسلحة.
ففي 14 أيار/مايو، أعلنت إسرائيل وثيقة استقلالها، وهو التاريخ الذي يعبّر عنه الفلسطينيون بـ"يوم النكبة"، حين طُرد أكثر من 750,000 فلسطيني، وهُجروا من منازلهم وقراهم وبلداتهم ومدنهم، وباتوا لاجئين في ما تبقى من أرض فلسطين (في الضفة الغربية وقطاع غزة)، وفي الدول المجاورة لها (في لبنان وسورية والأردن، وقليلاً في مصر).
وبعد سبعة أشهر، في 10 كانون الأول/ ديسمبر 1948، صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي نص في ديباجته على أنه: "من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكيلا يضطر المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم." كما نص في المادة 17 بند رقم 2 على أنه: "لا يجوز تجريد أحد من مُلكه تعسُّفاً."[1]
وفي 11 كانون الأول/ديسمبر، صدر القرار رقم 194 الذي نص في الفقرة 11 منه على: "وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن، للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وعن كل مفقود أو مصاب بضرر، عندما يكون من الواجب، وفقاً لمبادئ القانون الدولي والإنصاف، أن يعوض عن ذلك الفقدان أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة. وتصدر تعليماتها إلى لجنة التوفيق بتسهيل عودة اللاجئين، وتوطينهم من جديد، وإعادة تأهيلهم الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك دفع التعويضات، وبالمحافظة على الاتصال الوثيق بمدير إغاثة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، ومن خلاله بالهيئات والوكالات المتخصصة المناسبة في منظمة الأمم المتحدة."[2]
وقبل هذه التواريخ ذات الأهمية التاريخية وبعدها، صدرت عدة قرارات، صدرت خلالها الإعلانات والمعاهدات وتأسست الآليات؛ انطلاقاً من محكمة العدل الدولية التي تأسست في سنة 1945 وباشرت عملها في سنة 1946، وصولاً إلى دخول نظام روما حيّز التطبيق في تموز/يوليو 2002، وذلك بعد توقيع المعاهدة من جانب 60 دولة.
وتزامناً مع الذكرى الـ75 لصدور القرار رقم 194 والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لا يزال قطاع غزة يعيش مأساة مشابهة لما حدث قبل 75 عاماً، في أيار/مايو 1948، مع فارق تفاقم جرائم الحرب التي ارتُكبت في ذلك الحين والجرائم ضد الإنسانية، حتى ارتقت الآن إلى مستوى جريمة الإبادة الجماعية جرّاء القصف العشوائي للمساكن والأعيان المدنية والمحمية بموجب القانون الدولي الإنساني، والعمل على إنشاء مشكلة لاجئين جديدة تطال 2,5 مليون فلسطيني يعيشون في شريط ضيق في منطقة تعدُّ ذات كثافة سكانية هي الأعلى في العالم.
ولقد نُفذت نكبة 1948 بقرار دولي، وها هي الآن نكبة 2023 الفلسطينية تنفَذ بمساعدة مباشرة وغير مباشرة، عبر قيام كبرى دول العالم بغض نظرها عن الجرائم المرتكَبة، والتجاهل التام لرأي الأغلبية في مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة ومختلف منظمات المنظمة الدولية ووكالاتها، والذي يدعو إلى هدن إنسانية طويلة ووقف دائم للحرب، وبدعم من الملايين الذين يخرجون يومياً إلى شوارع عواصم الدول الكبرى، وينددون بالقتل الوحشي للمدنيين في غزة. ولا يمكن في أي حال من الأحوال قبول مبررات إسرائيل والدول التي تدعمها، مباشرة أو عبر غض النظر، والتي تعطي الأولى حقاً في الدفاع عن النفس إزاء العملية التي نفذها الجناح العسكري لحركة "حماس" في 7 تشرين الأول/أكتوبر في المنطقة المجاورة لحدود قطاع غزة الحالية، وهي مبررات ساقطة قانونياً؛ إذ لا يحق لدولة محتلة الدفاع عن نفسها في وجه مجموعة مسلحة تُعد وطنية مقاومة بموجب ميثاق الأمم المتحدة، ولو شابت تلك العملية تجاوزات. فحتى في الميزان والتوازن، ومهما يتم توصيف تلك التجاوزات، فهي ربما ترقى، كحد أقصى وبتحامل، إلى جرائم حرب، وعلى الرغم من ذلك، فإنها لا تقابَل بجرائم ترقى إلى الإبادة الجماعية. إن الخيارات نفسها المفروضة على السكان المدنيين في قطاع غزة هي جرائم موصوفة؛ إذ تقع بين التهجير القسري (جريمة ضد إنسانية)، وتعرُّض من لا يتجاوب مع الأمر للقتل، وهكذا تسقط عائلات بالكامل داخل منازلها، وفي الشوارع، والمستشفيات، والأعيان المحمية بموجب القانون الدولي من دون تمييز، وهو ما يمكن اعتباره جريمة إبادة جماعية.
إن التهجير القسري المنهجي، والمتخَذ بقرار سياسي، وبتدمير ممنهج عبر القوات المسلحة، هو جريمة ضد الإنسانية، وقد جاءت تصريحات كثيرة لقادة إسرائيليين، سياسيين وعسكريين، استمعنا إليها بأصواتهم وصورهم، واستمع إليها العالم كله، بالإضافة إلى القصف الممنهج والمقصود منه التدمير الشامل للمساكن والمستشفيات وآبار المياه وشبكات الكهرباء، لتؤكد القرار السياسي بالتهجير. ويقود التصريح المباشر من جانب بعض السياسيين الإسرائيليين والكلام المنقول عن آخرين، بشأن قصف غزة بقنابل نووية وإحراق الناس فيها، إلى اليقين بنوايا ارتكاب جريمة إبادة جماعية.
وبما أن 75% من سكان قطاع غزة، بحدوده الحالية، هم من اللاجئين الذين طُردوا من قراهم وبلداتهم ومدنهم خلال النكبة سنة 1948، وصودرت أراضيهم الزراعية في خمسينيات القرن الماضي، ونشأت فوقها بلدات غلاف غزة الإسرائيلية ومدنها، فإن تهجيرهم مجدداً يجدد مأساتهم، ويوقظ كابوس التهجير القسري الذي مورس بحق أجداد اللاجئين الفلسطينيين وآبائهم في دول اللجوء، بالإضافة إلى المخاوف لدى شعوب الدول المحيطة بإسرائيل من نوايا سياسيين من اليمين المتطرف التوجهَ لاحتلال أراضيهم تحقيقاً لإسرائيل الكبرى، كما يزيد من إمكانات انفلات العنف، عبر دخول مجموعات مسلحة في بعض تلك الدول أجواء الحرب، ووصول العنف إلى مستويات أعلى وأوسع نطاقاً، ربما تعيد العالم إلى عمليات عنف شهدتها معظم دول العالم في نهاية ستينيات القرن الماضي وبداية سبعينياته ومنتصفها، ومنتصف الثمانينيات أيضاً.
إن ذلك يتخطى الإمكان ويرقى إلى اليقين، عبر متابعة نبض الشارع الفلسطيني والجمهور العربي، وكثير من المتضامنين حول العالم، ويزيد المخاوف من احتمالات المستقبل المظلمة في حال لم تسارع الدول ذات القدرة على التأثير إلى وقف الحرب.. اليوم قبل الغد، بالإضافة إلى:
- إعادة إحياء عملية سياسية تسمح للفلسطينيين ببناء دولتهم المستقلة وفقاً للقرارات الدولية ذات الشأن والمنظومة القانونية والإنسانية الدولية.
- حل عادل وشامل ومرضٍ للاجئين الفلسطينيين، على أسس علمية وإنسانية وأخلاقية وتلاقي مصالح الشعوب كلها، ومنها الحق في التعويض والعودة لمن يشاء ذلك، استناداً إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لسنة 1948.
- إعادة تأهيل مجتمعات اللاجئين قبل كل ذلك، وخصوصاً الشباب، دراسياً ومهنياً، بما يضمن أن يكونوا منتجين في أي مكان يكونون فيه، سواء داخل أرضهم أم في المكان الذي يختارونه ويمكن أن يكون وطناً جديداً لهم.
- العمل على منع استغلال اللاجئين من جانب تجار البشر المستفيدين من الوضع عبر تنظيم رحلات موت في البر والبحر نحو أوروبا، مع الاحتفاظ الكامل بحق العودة ومن دون أي مساومة من أي نوع كان على هذا الحق.
وختاماً، فإن اللاجئين الفلسطينيين الذين أُجبروا على الخروج من وطنهم قبل 75 عاماً، ولا يحملون جنسيات دول معترف بها، ويحيزون وثائق خاصة باللاجئين فقط لا تتيح لهم العمل والتملك، ويلاقون صعوبة في التنقل إلى كثير من الدول التي لا تعترف بوثائق سفر اللاجئين، أو يصعب عليهم الحصول على تأشيرات، والفلسطينيين في الضفة الغربية الذين يعيشون تحت اعتداءات يومية من جانب الجيش الإسرائيلي والمستوطنين المتطرفين وتتم مصادرة أراضيهم بصورة منهجية، والفلسطينيين في قطاع غزة الذين يتعرضون منذ أكثر من 20 عاماً لحصار يتعارض مع القوانين الدولية كلها، ويعيشون اليوم أوضاع حرب مدمرة تمارَس فيها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية، جميعهم يُعتبرون مجتمعات هشة، ومهما يصمد أفراد هذه المجتمعات في وجه الاستغلال، فإن إمكان استغلال بعضهم، أو كثيرين منهم، من جانب عصابات الهجرة غير الشرعية، والتنظيمات المتطرفة، والدول ذات المطامع الإقليمية والمجموعات المسلحة، كبير، وبالتالي، فإنه لا بد من إيجاد حل نهائي ودائم وشامل وعادل مبني على أساس حقوق الإنسان والقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وفي مقدمها حق إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة وفق ما ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة، كي لا يتم استغلالهم، أو يُدفعوا في "آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم."
[1] "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان"، موقع الأمم المتحدة.
[2] "الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار رقم 194 (الدورة 3) بتاريخ 11 كانون الأول 1948 فلسطين – تقرير وسيط الأمم المتحدة"، الموسوعة التفاعلية للقضية الفلسطينية.