يبدو أن موضوع التعليم في فلسطين بات شبحاً يطارد المخيلة الإسرائيلية في كل حالاتها، وحتى في وقت الحرب التي تصفها بأنها حرب وجودية تقودها بلا هوادة، هي وكل حلفائها من الغرب الذين استجمعوا قواهم لتدمير قطاع غزة، والذي لا تتعدى مساحته 365 كيلومتراً، والمحاصر جواً وبحراً منذ 17 عاماً. وفي ظل كل تلك الأوضاع، خرج إلينا نتنياهو ليتحدث عن رؤيته فيما بعد الحرب، ليصف السلطة التي من الممكن أن توافق عليها حكومته لتولّي القطاع، فكانت إحدى شروطه أن تكون سلطة لا تعلّم الطلبة "الإرهاب"، في إشارة إلى السلطة الفلسطينية، والتي لطالما وصفت الأجهزة الإسرائيلية مناهجها بالمحرضة على "الإرهاب"، وغير المستوعبة للآخر، الذي هو بالضرورة إسرائيل.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد تجلى موقفها من التعليم الفلسطيني في هذا العدوان بالعنف الموجه نحو المؤسسات التعليمية في القطاع؛ إذ دمرت القوات الإسرائيلية حتى هذه اللحظة ما لا يقل عن 12 مؤسسة تعليم عالٍ في القطاع، مدعية أنها معاقل لـ"حماس"، ومنها: جامعة الأزهر، والجامعة الإسلامية، والقدس المفتوحة، ولم تراعِ حرمة المدارس التي تحولت إلى مراكز إيواء للنازحين، ولا سيما مدارس الوكالة، إذ استهدفتها بالقصف الصاروخي، ضاربة بعرض الحائط كل القوانين الدولية التي تدعوا إلى حماية تلك الأماكن في الحرب، وهي بذلك أيضاً تهدم رمزية مدارس الأونروا، والتي لطالما حاربت وجودها على اعتبار أنها شاهد على جرائمها منذ 75 عاماً، ووجودها يظل مدعاة أمل للاجئين الفلسطينيين، ذكّرتهم بحقهم في العودة إلى ديارهم التي هُجّر منها ذووهم منذ عقود.
إن حرب دولة الاحتلال على مظاهر التعليم الفلسطينية لم تكن جديدة أو وليدة الحرب، إنما هي في أشدها منذ ما يزيد على العقد، ولا سيما منذ سنة 2011، حين بدأت عملية تحريف للمناهج الفلسطينية المعمول بها في شرق القدس، وأخذت في شن حملة دعائية ضد هذه المناهج وضد السلطة نفسها، مدعية أنها مناهج "إرهابية" تدعو إلى الكراهية، ولا تلتزم قيم التسامح وتقبُّل الآخر. وخاضت السلطات الإسرائيلية على هذا الأساس حروباً عديدة في المحافل الدولية ضد مناهج السلطة الفلسطينية، أدت إلى تجميد المساعدات الأميركية، ومن ثم مساعدات الاتحاد الأوروبي، والتي كانت تُخصص لهذه المناهج. وفي عهد ترامب، أوقفت المساعدات الأميركية المخصصة للمؤسسات التابعة للأونروا، ومنها المدارس، ودفع ذلك تلك المؤسسات إلى حافة الإفلاس، وأدى إلى حدوث تعطيل في العملية التعليمية بسبب الأزمات المالية. ولم تكن المناهج الفلسطينية هي الوحيدة التي تخضع لعين الرقيب الإسرائيلي، بل أيضاً كل المناهج في الشرق الأوسط، ولا سيما الدول العربية وتركيا وغيرها، وأظهرت مؤسسة "impact –se" تقدُّماً ملحوظاً في تعاونها مع بعض الدول العربية لتغيير مناهجها، وخصوصاً في ظل موجة التطبيع الأخيرة.
سنسلط في هذا المقال الضوء على أهمية موضوع المناهج بالنسبة إلى إسرائيل، والتي ترى المدارس وما تعتمده من مناهج أقوى الأدوات لإنتاج مجتمعات مستقبلية متسامحة ومنفتحة على الآخر (الذي هو بالضرورة إسرائيل)، للوصول في النهاية إلى نزع الصفة الاحتلالية الاستعمارية عنها، واعتبار وجودها حقاً تاريخياً وطبيعياً، بينما المناهج التي تعتمدها هي، على الجانب الآخر، تأخذ في التطرف والتشدد والانحياز إلى اليمين بصورة لافتة، غير معترفة بالوجود الفلسطيني، أو متسامحة مع أحقيته في الوجود. وبطريقة مقتضبة، يمكننا تلخيص تأثير إسرائيل في المناهج على عدة مستويات؛ دائرة القدس، ودائرة المناهج المعمول بها في مناطق السلطة الفلسطينية، ثم دائرة المناهج في المنطقة العربية والإسلامية.
تشهد المنظومة التعليمية في القدس تهاوياً متسارعاً فاجأ حتى الباحثين والمهتمين بالشأن المقدسي، إذ كان من الصعب توقُع نجاح الخطة الخمسية التي أُعلنت في الفترة 2018-2023[1] في تحقيق هدفها الرئيسي؛ وهو أسرلة التعليم بنسبة 90% في شرق القدس، فكانت الإحصاءات تشير إلى تذبذب نسبة الطلبة المقدسيين المنتسبين إلى برنامج البجروت، وقد سجلت أفضل نسبة في سنة 2019/2020، إذ وصلت إلى 21%. ولما كان هذا الطريق صعباً وطويلاً ومن المستحيل تحقيق هدف الخطة عن طريقه، غيرت المنظومة الإسرائيلية استراتيجيتها، وقررت اختراق المنظومة التعليمية في القدس عبر مناهج السلطة نفسها، وذلك بعد تحريفها إلى درجة جعلتها تكاد لا تكون أقل خطورة من البجروت نفسه. ولتحقيق خطتها، تسعى جاهدة لإحكام سيطرتها على المدارس الخاصة لإجبارها على تبنّي المناهج المحرفة، وتدريسها للطلبة العرب، وبالتالي، فستكون قد نجحت في أسرلة التعليم في القدس بنسبة 90% عند إضافة المدارس الخاصة إلى جانب مدارس المعارف.
وقد أثرت الحرب الحالية التي تخوضها إسرائيل على غزة في فلسطينيي الداخل، وضمنهم الفلسطينيون في شرق القدس، إذ ضيقت دائرة المتاح، وعطلت القوانين، وامتدت يد الشرطة إلى كل ما تشك فيه أو تتوجس بأنه من الممكن أن يخل بالأمن. وفي مقابلة أجريناها مع إحدى الناشطات المقدسيات، وهي ولية أمر، وعضو لجنة أولياء أمور، وكان لها نشاطات عديدة قبل الحرب ضد المناهج المحرفة، قالت إن الوضع مخيف جداً اليوم، ولا يمكن لأحد الحديث عن موضوع المناهج المحرفة.[2] كما أن تخلّي السلطة الفلسطينية عن مسؤولياتها في حماية مناهجها جعل مدراء المدارس الخاصة يشعرون كأنهم يخوضون معركتهم وحيدين، ولا يعينهم أحد في محنتهم هذه، الأمر الذي دفع كثيراً من المدارء إلى التفكير في مصلحة مدارسهم وجعلها الأولوية. في حديث مع "ه. ط"، مديرة إحدى المدارس الخاصة في القدس، شددت على أهمية التمسك بالمنهاج الفلسطيني، ودوره في هوية الطالب المقدسي، لكنها مع ذلك عبّرت عن خوفها وخوف الطاقم الإدراي والتدريسي من التسريح من العمل إذا ما أُوقف ترخيص تلك المدارس بسبب الاستمرار في تدريس المنهاج الفلسطيني الأصلي. وأشارت إلى أنه ربما يكون من الأجدى العمل بأقل الضررين، وهو العمل بالمنهاج المحرف إذا ما أصرت وزارة المعارف على ذلك، وبينت أن ذلك أفضل من تسريح طاقم العمل، وحرمان الطلبة مدارسَهم، وربما تسرب بعضهم من الدراسة في ضوء استمرار مشكلة نقص الغرف الصفية أو اضطرارهم إلى التسجيل في المدارس الجديدة التي هي على الأغلب تتبنى المنهاج الإسرائيلي الذي هو، في المحصلة، أسوأ وأخطر من المنهاج المحرف.
المثال السابق مأخوذ من كتاب التنشئة الوطنية للصف الثالث، الفصل الأول، طبعة 2020 ، ص 25، وفيه تم استبدال عنوان "مدينة القدس عاصمة وطني فلسطين" بـ"القدس عاصمة السلام"، وهذا نهج تتبعه مع جميع المقررات الدراسية لكل الصفوف، وتهدف عن طريقه إلى سلخ القدس عن محيطها الفلسطيني، وترسيخ فكرة أنها مدينة إسرائيلية مختلطة تعيش فيها القوميات المتعددة، وضمنها القومية العربية.
قبل التحريف
بعد التحريف
وهذا المثال مأخوذ من كتاب الدراسات الاجتماعية للصف الثامن، الفصل الأول، طبعة 2020، ص 9، وفيه تم تحريف مساحة فلسطين من 27,027 كيلومتراً مربعاً إلى 6220 كيلومتراً مربعاً فقط.
ولا يقف التدخل في المناهج الفلسطينية عند حد القدس فحسب، بل تستمر السلطات الإسرائيلية في الضغط على الدول المانحة للتأثير في السلطة الفلسطينية لتغيير مناهجها، وفي الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة من أجل حثهما على إجبار السلطة على تغيير المناهج. وثمة كم من الدراسات التي تصدر باستمرار، والتي تقف وراءها دولة الاحتلال التي تتهم المنهاج الفلسطيني بأنه تحريضي ولا يخدم عملية السلام، كما تتهم السلطة بتضمين المناهج نصوصاً من شأنها تنشئة الأطفال الفلسطينيين على العنف والإرهاب، ليكبروا في المستقبل ويكونوا مشاريع استشهاديين (انتحاريين كما تصفهم تلك التقارير). ولذلك، أُنشئت مؤسسات صهيونية هدفها دراسة مضامين تلك المناهج وتحليلها، كمؤسسة "impact.se"، أو الإيعاز إلى بعض المؤسسات القائمة، كمعهد جورج إيكريت لبحوث الكتب المدرسية، بالعمل على المنهاج الفلسطيني.[3]
وعلى الرغم من المراجعات المستمرة التي تقوم بها السلطة الفلسطينية في محاولة لكسب رضى الدول المانحة، فإن الأفق يشير إلى انحياز الاتحاد الأوربي والدول المانحة إلى التوجه الإسرائيلي. وفي المثال السابق، المأخوذ من كتاب الصف السابع، ج 1، طبعة 2017، ص 57، وما يقابله في الصورة الثانية التي هي من طبعة 2020، نلاحظ أن النص تغير بفعل الضغوط الإسرائيلية، إذ استُبدل النص الذي كان يشير إلى استخدام النقنيفة كأداة للدفاع عن النفس من جانب الشبان في الانتفاضة للتصدي للجنود، بنص آخر لا علاقة له بالمقاومة والانتفاضة، واكتُفي بالإشارة إلى أن النقنيفة أداة تراثية تُستخدم للعب وصيد الطيور.[4]
تتسع دائرة الاهتمام الإسرائيلي بالمناهج لتشمل كل منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما الوطن العربي، وقد ركزت مجهودها مؤخراً على منطقة الخليج العربي، فهي تريد ألاّ يقف التطبيع الذي جرى مؤخراً عند الحكومات، كما جرى معها في اتفاقات السلام مع مصر والأردن، وقد أظهرت الدراسات التي أجراها المركز الإسرائيلي "impact-se" تقدماً ملحوظاً في التغييرات التي أُجريت في المناهج في الإمارات والسعودية وقطر والبحرين نحو الرواية الإسرائيلية، إذ شُطبت كل المواد التي كانت تجعل القضية الفلسطينية قضية محورية ومهمة، فتقلص حضور هذه القضية في المنهاج الإماراتي بصورة كبيرة، وأصبحت الإشارة إليها عابرة وفي سياق الحديث عن الاستعمار الأوروبي للوطن العربي، والأدوار الإماراتية في دعم هذه القضية، بل أيضاً أضافت الإمارات مسألة الهولوكوست إلى مناهجها. كما شطبت مصر كل السياقات التي كانت تتحدث عن حروبها مع إسرائيل من أجل القضية الفلسطينية، وفيما يلي نورد بعض الأمثلة من المنهاج الإماراتي من الطبعات الجديدة التي حُذف منها كل ما يتعلق بالاحتلال الإسرائيلي.
نلاحظ أنه في كتاب الاجتماعيات للصف التاسع، تم حذف ما يتعلق بالعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، وحرب 1967، وحرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وذلك لأن الطرف المعتدي كان دولة إسرائيل، فتم حذف كل هذه الأحداث التاريخية والاكتفاء بالإشارة ألى ما عانته مصر جرّاء الاحتلال البريطاني.
ونلاحظ هنا أنه في كتاب الاجتماعيات والدراسات الوطنية للصف التاسع، تم حذف كلمة "فلسطين" كمثال للدول التي تعاني جرّاء التمييز العنصري.
وأخيراً، يمكن القول إن الالتفاف الشعبي العالمي الذي نشهده اليوم حول القضية الفلسطينية، والذي تجلى في رفض العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة، هو أكبر منهج يمكن أن تتعلمه شعوب العالم الحالمة بالانعتاق من النفاق السياسي والخداع الإعلامي. وعلى الرغم من ذلك، فإن حماية المنهاج الذي يقدَّم إلى الأطفال هي مسؤولية جماعية يُنتزع فيها حق التعلم بوضوح الرؤية والوقوف على مواضع الخطر، ثم المطالبة بنقل رواية الأجداد والآباء إلى أبنائهم وأحفادهم، وليست مسؤولية السلطات الحاكمة فحسب، تبدله وفق رؤيتها السياسية ومصالحها الآنية كيفما تشاء.
[1] أسيل جندي، "الخطة الخمسية 2024-2028: استمرار لمشاريع الأسرلة ودمج المقدسيين قسراً في منظومة المؤسسات الإسرائيلية"، "القدس البوصلة"، 22/8/2023.
[2] مقابلة مع "أ.أ" عبر الواتساب، 17/10/2023.
[3] Brooke Goldstein, Stop Funding Palestinian Jew-Hatred, newsweek90, 22/7/2022.
[4] Mohammed S. Dajani Daou, Exploring the Palestinian Curriculum (Jerusalem, 2019), p. 12.