يبدو أن حركة "حماس" ما زالت تدير بحنكة المحادثات حول ملف الهدنة في قطاع غزة. فبعد أن فرضت على حكومة الحرب الإسرائيلية قبول هدنة الأربعة أيام ها هي تعلن، مساء يوم الأحد في 26 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، أنها "تسعى لتمديد الهدنة إلى ما بعد هذه الأيام الأربعة"، وذلك بهدف "زيادة عدد الأسرى المفرج عنهم" في السجون الإسرائيلية، علماً بأن أحد بنود الاتفاق، الذي وافقت عليه حكومة بنيامين نتنياهو، فجر يوم الأربعاء في 22 من الشهر الجاري، يسمح بتمديده من خلال الإفراج عن عشرة محتجزين يومياً لدى حركة "حماس" في مقابل إطلاق سراح ثلاثين أسيراً فلسطينياً[1].
موافقة إسرائيل على الاتفاق بعد تعنت ومماطلة شديدين
تصوّرت حكومة الحرب الإسرائيلية، وخصوصاً بعد أن أطلقت حربها البرية في شمال قطاع غزة، أنها قادرة، عن طريق الضغط العسكري في الميدان، على إطلاق سراح المحتجزين لدى حركة "حماس" والفصائل الفلسطينية الأخرى. وكانت حركة "حماس" قد أعلنت، منذ يوم السبت في 28 تشرين الأول/أكتوبر الفائت، أنها مستعدة، على الفور، لتبادل الأسرى في السجون الإسرائيلية مع المحتجزين لديها، بحيث تطلق جميع من تحتجزهم في مقابل "تفريغ السجون من جميع الأسرى الفلسطينيين". وأبدت استعدادها لإجراء محادثات حول "إنهاء ملف الأسرى مرة واحدة"، أو حول اتفاق جزئي إذا رفضت إسرائيل إنهاء الملف بصورة كاملة. وبغية إبداء حسن النية، أطلقت الحركة سراح أربعة محتجزين "لأسباب إنسانية"، كانا اثنين من الأميركيين واثنين من الإسرائيليين.
بيد أن الحكومة الإسرائيلية رفضت التجاوب مع هذا الموقف، وخاطب وزير الحرب فيها يوآف غالانت أهالي المحتجزين بقوله: "كلما اشتدت الضغوط العسكرية، وكلما زادت قوة النيران، وكلما زادت قسوة ضرباتنا ضد حماس، كلما زاد احتمال إيصال حماس إلى وضع تقبل فيه الحلول التي تسمح لكم بالوصول إلى أحبائكم". أما المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانييل هغاري، فقد وصف بيان حركة "حماس" بأنه ينطوي على "إرهاب نفسي"، وقال إن القوات الإسرائيلية "ستبذل قصارى جهدها لتحرير الرهائن بشروطها الخاصة". ولكن ما أن تبيّن عجزها عن تحرير المحتجزين بـ "شروطها الخاصة"، حتى اضطرت الحكومة الإسرائيلية إلى الموافقة، بعد اجتماع غُقد مساء الثلاثاء في 21 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري في مدينة تل أبيب واستمر ست ساعات، على اتفاق يقضي بإطلاق سراح 50 من المحتجزين لدى حركة "حماس"، في مقابل إطلاق سراح 150 أسيراً وأسيرة فلسطينيين، وهدنة لمدة أربعة أيام في قطاع غزة، والسماح لمئات الشاحنات المحملة بالمساعدات الإنسانية والإمدادات الطبية والوقود بدخول قطاع غزة، على أن يتوقف تحليق الطائرات الإسرائيلية فوق جنوب قطاع غزة خلال أيام الهدنة الأربعة وفوق شماله لمدة ست ساعات خلال هذه الأيام[2].
ما الذي دفع الحكومة الإسرائيلية إلى الموافقة على الاتفاق؟
في بداية الاجتماع الذي عقدته الحكومة الإسرائيلية مساء يوم الثلاثاء في 21 الجاري، حث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وزراءه على الموافقة على الاتفاق الذي تفاوضت عليه قطر بمساعدة مصر والولايات المتحدة الأميركية، قائلاً إنه "القرار الصحيح" الذي يجب اتخاذه، مشيراً إلى أن الرئيس الأميركي جو بايدن ساعد في "تحسين" الاتفاق ليشمل "المزيد من الرهائن وبتكلفة أقل"، بحسب صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية.
والواقع، أنه تضافرت مجموعة من العوامل التي دفعت حكومة بنيامين نتنياهو إلى الموافقة على اتفاق الهدنة والتبادل، يأتي في مقدمها: أولاً، عجز الجيش الإسرائيلي، بعد حرب برية مدمرة شنها خلال أسابيع طويلة في المناطق الشمالية من قطاع غزة، عن القضاء على المقاومة الفلسطينية؛ وثانياً، الضغوط الشديدة التي صار يمارسها أهالي المحتجزين الإسرائيليين، الذين حمّلوا رئيس الوزراء المسؤولية عن الوضع برمته، وطالبوا باستقالته ودعوا الحكومة إلى وضع "استراتيجية واضحة لإنقاذ الرهائن"، واتهموها بعدم بذل ما يكفي من الجهود من أجل تحرير أقاربهم، وباستخدام "عمليات الاختطاف لتبرير حملتها العسكرية المستمرة" في قطاع غزة؛ وتمثلت ذروة تلك الضغوط في المسيرة الحاشدة لأهالي المحتجزين، والآلاف من مؤيديهم، التي وصلت إلى مدينة القدس يوم السبت في 18 من الشهر الجاري بعد خمسة أيام من انطلاقها من مدينة تل أبيب[3]. وفضلاً عن هذين العاملين، ساهم في التوصل إلى اتفاق الهدنة الضعط الذي مارسه الرئيس الأميركي جو بايدن على بنيامين نتنياهو وحكومته، وخصوصاً بعدما راحت شعبية الرئيس الأميركي، الذي يستعد لخوض جولة انتخابية رئاسية جديدة، تتراجع داخل الولايات المتحدة الأميركية، وخصوصاً داخل حزبه الديمقراطي، جراء الدعم اللامحدود، العسكري والسياسي والدبلوماسي، الذي قدمته إدارته للحكومة الإسرائيلية في حربها على قطاع غزة. وفي هذا السياق، أظهر استطلاع للرأي أجرته "رويترز" و"إبسوس"، في الأسبوع الثاني من الشهر الجاري، أن 68% من الأميركيين الذين شملهم الاستطلاع دعوا الإدارة الأميركية إلى العمل على وقف إطلاق النار في قطاع غزة وتوظيف علاقاتها الدبلوماسية الوثيقة مع إسرائيل من أجل الحؤول دون استمرار أعمال العنف وقتل المدنيين، كما كشف استطلاع للرأي أجرته شبكة "إن بي سي نيوز"، في الفترة نفسها، أن نسبة تأييد جو بايدن وصلت إلى 40%، وهو أدنى مستوى لها منذ بداية رئاسته[4]. واضطلع الضغط الدولي، الشعبي في المقام الأول والرسمي في المقام الثاني، بدور بارز كذلك في إجبار حكومة الحرب الإسرائيلية على قبول اتفاق الهدنة، إذ شهدت عواصم دول عديدة في العالم تظاهرات حاشدة، بعضها لم يسبق له مثيل، للمطالبة بوقف الحرب العدوانية التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، وهو ما جعل بعض حكومات الدول الأوروبية، مثل فرنسا، التي أعطت إسرائيل الضوء الأخضر للاستمرار في حربها على القطاع بحجة "الدفاع عن نفسها" تغيّر مواقفها إلى حد ما، وعزز مواقف حكومات أخرى، مثل إيرلندا وإسبانيا وبلجيكا، التي دعت صراحة إلى إنهاء هذه الحرب والالتزام بوقف ثابت لإطلاق النار.
كيف سينعكس اتفاق الهدنة على الحرب واستمرارها؟
يبدو، عند كتابة هذه الأسطر، أن هناك احتمالاً لتمديد الهدنة لأيام أخرى بما يسمح بإطلاق المزيد من المحتجزين لدى حركة "حماس" والإفراج عن عدد جديد من الأسرى والأسيرات الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، وهو ما أيّده مساء يوم أمس الأحد الرئيس الأميركي جو بايدن. لكن، وبغض النظر عن تحقق هذا الاحتمال أم لا، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: وما بعد؟ففي الجلسة التي عقدتها حكومة الحرب الإسرائيلية ووافقت فيها على اتفاق الهدنة، أوضح بنيامين نتنياهو لوزرائه أن "الحملة الإسرائيلية الرامية إلى منع حماس من السيطرة على أي جزء من غزة ستستمر بعد وقف إطلاق النار"، وأضاف: "نحن في حالة حرب، وسنواصل هذه الحرب حتى نحقق جميع أهدافنا: تفكيك حماس، واستعادة الرهائن لدينا، وضمان عدم وجود أحد في غزة يمكنه تهديد إسرائيل"[5].يرى العقيد المتقاعد في الجيش الفرنسي والخبير في شؤون الدفاع روجيه هوسين، بخصوص سيناريوهات الأحداث في الأيام والأسابيع القادمة، أن توقف القتال سيفقد إسرائيل "بعض الزخم الذي اكتسبته في شمال قطاع غزة في الأسابيع الأخيرة"، لكن قادة الجيش الإسرائيلي سيعرفون كيفية الاستفادة القصوى من أيام الهدنة، بغية "توفير الراحة وإعادة الإمداد لعشرات الآلاف من الجنود المشاركين في القتال في شمال قطاع غزة"، وسوف يستغلون "توقف القتال في التخطيط لخطواتهم المقبلة في غزة وتقييم مزاياها وجدواها"، وخصوصاً أن "ما يقرب من نصف شمال قطاع غزة ما زال في حاجة إلى تمشيط لتحييد مقاتلي حماس". كما ستسمح أيام الهدنة للجيش الإسرائيلي بـ "تحديث وضعه الاستخباراتي وإطلاع القوات البرية على الوضع في شمال غزة والموقع المحتمل لمقاتلي حماس وشبكة الأنفاق". لكن، من ناحية أخرى، فإن حركة "حماس" ستستغل، كما تابع، فترة الهدنة "لإجلاء الجرحى وإعادة تنظيم ونقل المزيد من المقاتلين والمعدات إلى الشمال"، "و التعافي من الإرهاق العسكري بعد ستة أسابيع من الحرب الساحقة"، متوقعاً اندلاع قتال جديد في نهاية الهدنة[6]. أما أستاذ الأمن الإقليمي في جامعة دورهام البريطانية كلايف جونز، فهو يقدّر أن الهدنة "تمنح حماس مهلة عسكرية، ليس هناك أدنى شك في هذا، بحيث تمنحها الفرصة لإعادة تجميع صفوفها وإعادة التركيز وإعادة التفكير في استراتيجيتها"، في حين أن وقف إطلاق النار "لن يفيد بالضرورة القوات الإسرائيلية بالطريقة نفسها التي سيفيد بها حماس"، ذلك إن الهدنة قد تؤدي "إلى وقف زخم الهجوم الإسرائيلي في مدينة غزة وما حولها"، وهو يرجح أن يستأنف القتال، لكن "من المستحيل القول في الوقت الحالي ما إذا كانت شدته ستكون كما كانت من قبل"، إذ إن ذلك سوف يعتمد على عدة عوامل، "بما في ذلك نجاح عملية تبادل الرهائن وحساسية إسرائيل تجاه الضغوط الدولية، وخصوصاً من الولايات المتحدة"، في ضوء "مستوى الدمار في غزة الذي لا يتقبله الرأي العام الأميركي، ولا سيما بين صفوف الناخبين الشباب"[7].بينما يرى الأستاذ في معهد القوى الكندية في تورنتو ميلود الشنوفي أن الحرب يمكن أن تستأنف بشدة، بعد انتهاء الهدنة، "على خلفية الأزمة السياسية التي اندلعت في إسرائيل في الأشهر الأخيرة، بحيث صار مستقبل نتنياهو السياسي يعتمد على استمرار الحرب"، مقدّراً أن خصومه السياسيين "الذين احتشدوا خلفه بعد هجمات حماس ينتظرون الفرصة الأولى للإطاحة به من السلطة، مما يعني أنه سيتعين عليه مواجهة النظام القضائي في قضايا الفساد"؛ لكنه يؤكد أنه "حتى لو نجحت إسرائيل في القضاء على حماس، فلن تتمكن من تدمير فكرة المقاومة الفلسطينية". ومن جهته، يرى أستاذ التاريخ في جامعة مونريال ياكوف رابكين أنه بمجرد انتهاء الهدنة، "سيظل الفلسطينيون في غزة معرضين لخطر الموت كل يوم، إما بسبب القصف أو الجوع أو العطش"، مقدّراً أنه "ليس هناك رغبة كبيرة في إسرائيل للتفاوض على حل سياسي دائم مع الفلسطينيين"، وهم في الواقع "لا يعرفون ماذا يريدون"، مضيفاً أنه "من الواضح أنه لا يوجد حل عسكري للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بل فقط حل سياسي"[8].
خاتمة
لن تتمكن إسرائيل، مهما واصلت حربها التدميرية على قطاع غزة وسكانه، من القضاء على فكرة المقاومة الفلسطينية، ولن يكون لهذا الصراع الدائر على الأرض الفلسطينية سوى حل سياسي يستجيب لتطلعات الشعب الفلسطيني الوطنية؛ إنهما حقيقتان أكدتهما عقود طويلة مرت على بدء هذا الصراع، وستؤكدهما، بلا ريب، الأيام والأسابيع والأشهر القادمة. وإلى أن يتم ذلك، يحتفل الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية ومدينة القدس المحتلتين بأسيراته وأسراه المحررين من سجون الاحتلال الإسرائيلي، ويحتشد المهنئون في القدس الشرقية، في ظل وجود عدد كبير من أفراد قوات الأمن الإسرائيلية، بصورة خاصة في منزل إسراء جعابيص، وهي الأسيرة الأكثر شهرة بين الأسيرات المحررات إلى الآن، الواقع في حي جبل المكبر، التي تستقبلهم وهي تحتضن ابنها معتصم البالغ من العمر 13 عاماً، وتقول: "أخجل أن أتحدث عن الفرح عندما تتأذى فلسطين كلها"، وتوسلت قائلة: "يجب عليهم إطلاق سراح الجميع".
[1] https://www.lepoint.fr/monde/conflit-hamas-israel-vers-une-prolongation-de-la-treve-27-11-2023-2544627_24.php
[2] https://www.geo.fr/geopolitique/ce-que-on-sait-de-accord-entre-israel-et-le-hamas-otages-treve-humanitaire-217658#photo-16
[3] https://www.bbc.com/afrique/articles/c98313vxldgo;
[4] https://www.les-crises.fr/gaza-deux-tiers-des-electeurs-americains-souhaitent-un-cessez-le-feu/
[5] https://www.courrierinternational.com/article/guerre-israel-hamas-israel-accepte-une-treve-avec-le-hamas-assortie-de-liberations-d-otages-et-de-prisonniers
[6] https://www.7sur7.be/monde/une-treve-dans-les-combats-et-apres-cela-pourrait-avoir-des-consequences-perverses-et-non-voulues-sur-la-suite-du-conflit-br~aabd71432/
[7] https://www.france24.com/fr/moyen-orient/20231123-tr%C3%AAve-un-avantage-militaire-pour-le-hamas-une-n%C3%A9cessit%C3%A9-politique-pour-isra%C3%ABl
[8] https://www.ledevoir.com/monde/moyen-orient/802450/cinq-questions-mieux-comprendre-accord-entre-israel-hamas